عرض مشاركة واحدة
قديم 04-21-2014, 09:14 PM
المشاركة 105
عبده فايز الزبيدي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أما خانكا مصر أو سجن المجانين أو المارستان فقد نزله الشاعر وعاش مع نزلائه فوصف كل ذلك في هذه الأبيات التي قل أن يجيد مثلها شاعر ، بل أقول بأن شاعرا آخر غير الديب ما كان ليشعر بهؤلاء النـزلاء مثلما يشعر الديب نفسه ، ألم يتهموهُ بالجنون ؟ ألم يلقوه ظلماً بينهم ؟
رعاك الله "مارستان" مصر
حَوَيْتَ الصابرين على البلايا
ومن هبطوا بهم من صَرْحِ عِزٍّ
تراهم خائفين .. فإن أُثِيروا
وإن سئلوا عن الأسرار كانوا
ورب مهرج منهم بقولٍ
فإن يغضب بقارصَةٍ تباكى
يعذبه عبادك كل يوم
وكم في مصر من غِرٍّ غَبيٍّ
ولو عدلوا لأمسى "خانكياً"









فإنَّكَ دارُ عقل لا جنون
ومَنْ نَزَلوا على حكم السنين
إلى أغلال إذلال وَهُون
بِمَهْزَلَةٍ فآساد العَرين
كمن أخذوا عن الروح الأمين
يُريكَ الجد في ثوب المجون
فأبكى العين بالدمع الهَتون
ويَصْلَى الضَّيْمَ حيناً بعد حين
تمتع بالجميل وبالثمين
يُعذّب بالشمال وباليمين
والديب السياسي ، نعم السياسي ، فقد كان على خصاصته مهتماً بما يدور حوله ، له رأي نافذ في أمور السياسة والأحزاب والحكومات والرجال .
كان الديب من بين معاصريه من شعراء مصر أول من التفت إلى قضية فلسطين ، بل إن شوقياً وحافظاً ومطران وهم أعلام الشعر في عهده لم يذكروا فلسطين ومأساتها حتى في بيت واحد، وقد عاتبهم إبراهيم طوقان في قصيدة معروفة على موقفهم هذا ولكن دون جدوى .
أما الديب فقد تعاطف مع أهل فلسطين ومع قضيتهم منذ عام 1936 ، وهو عام مبكر ، فله هذه الأبيات يخاطب فلسطين وأهلها ، وهي بعنوان "فلسطين الدماء" .
أقَتَلْتِهِمْ بالحُسن أم قتلوكِ
دار النبوة .. والعروبة .. والهدى
جهلوا عليك ، وما دروك فأمعنوا
تِيهِي "فلسطين الدماء" على الورى
فلَربَّ ظبي من بنيك مُهفهف
نامت عيون الناس إلا عينه
ولرب شيخ من بنيك محطم
تعس اليهود فما لهم من ذمة







الشمس أمك .. والهلال أبوك
خَفَروا ذِمامَكِ بالدم المسفوك
في قتل قومك .. ليتهم عرفوك
إنَّ الملائك والملوك بنوك
بجماله وحسامه يفديك !!
حتى يصيب الثأر من راميك
بَهَرَ الوجود صِباً .. لكي يحميك
لو لم تكوني مُرّةً أكلوكِ
كان هذا عام 1936م ، ومن حظ الديب أنه لم يعش حتى يرى اليهود وقد التهموا فلسطين ، وزادوا عليها بلاداً أخرى .
أما موقفه من أحد الأحزاب الذي كان يجمع بين الوزارة ورئاسة الديوان الملكي وقد طغى وانتشرت ظلاماته فهو يلخص هذا الموقف بقوله :
برامكةٌ وليس لهم رشيد
مدحتهم فما شرفوا بشعري
وصغت هجاءهم فإذا الأهاجي


وأقيال وكلهم عبيد
لخستهم ، وما شرف القصيد
على الأفواه لحن أو نشيد
وقال مورياً بالنحاس باشا رئيس وزراء مصر :
راجع زمانك أيهذا الكاس
لم يبق من مجد الزعامة كله


فاليوم لا نحس ولا "نحّاس"
إلا قميص أزرق ولباس
وكان الديب دائماً مع الشعب ، مع المحرومين من العمال والفلاحين ، وهو يصور الحياة الاجتماعية البائسة لهؤلاء في عهده أصدق تصوير :
"كُلوا" الحكومة أو موتوا من الجوع
مَن حرَّموا اللحم في يومين، هَلْ علموا
حكومة الفقر و الأيام قَبْلَهُمُوا


صوت الضعيف المُرَجَّى غير مسموع
أن ليس في حُكْمِهِمْ زَيْدٌ لتشريع ؟
على الورى حَرَّمَتْهُ ألْفَ أسبوع ؟!
وعندما اعتقلت الشرطة الشاعر ووقف أمام المحقق فقال له : إيه يا ديب تحرض الناس على الحكومة وتقول لهم : كُلوا الحكومة أو موتوا من الجوع ، رد الديب على البديهة وقال أنا لم أقل ذلك وإنما قلت : كِلوا الحكومة (بكسر الكاف) أي فوضوها أمركم ! فابتسم المحقق وخلى سبيله .
ويذكرني موقف الديب هذا وسرعة تخلصه من المأزق بتحريف البيت بحركة واحدة ، بموقف نرويه عن أبي نواس في العصر العباسي ، فقد رووا أن أبا نواس وقف بباب أحد الأمراء ينتظر الإذن ، فطال وقوفه وعلم أن الأمير يجالس جارية له تدعى خالصة ، فكتب "بالطبشورة" على الباب هذا البيت :
كما ضاع عقد على خالصة
لقد ضاع شعري على بابكم
ولما قرأته الجارية استشاطت غضباً واستشاط معها الأمير ، فأرسل في استدعاء أبي نواس ، ويقال بأن أبا نواس فطن لسبب الاستدعاء ، فمال على الباب ومسح الطرف السفلي من حرف العين في كلمة ضاع فغدت ضاء ، وعندما مثل بين يدي الأمير وسأله غاضباً عن بيت الشعر نفى أبو نواس أنه هجا ، بل ادعى أنه مدح ، ولما قرأ الأمير البيت مجدداً بعد الحذف ابتسم وصفح عن الشاعر وأجازه ...)
و قد ساق الجدع قصة تعرفه على شعر الجدع بقوله :
(
سأل أحد المتصفحين لموقع أدباء الشام على شبكة الإنترنت عن قائل هذا البيت :
إن حـظـي كـدقيق بين شـوك نـثـروه

وسأل عن تتمة الأبيات وعن قائلها .

وقد أثار هذا السؤال في نفسي ذكريات عزيزة .
كان ذلك عام 1961م أي قبل أكثر من أربعين عاماً ، عندما كنت أعمل مدرساً في بلدة "الخرمة" التابعة لمنطقة الطائف التعليمية في الحجاز من الجزيرة العربية ، وكان عمري آنذاك عشرين عاماً.
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة
وشاء الله أن أتعرف على أخ عزيز جاء من مصر مدرساً في الخرمة ، هذا الأخ اسمه عبد العليم شهاب، كان مولعاً بالأدب والأدباء والشعر والشعراء ، وكان كثيراً ما يسمعني روائع الشعر العربي قديمه وحديثه، ويحدثني عمن عرف من شعراء مصر أو عمن قرأ له منهم، وممن حدثني عنهم الشاعر عبد الحميد الديب ، وكان مما قرأه لي وحفظته ونسبه إلى هذا الشاعر هذه الأبيات التي سأل السائل عنها :
إن حظي كدقيق
ثم قالوا لحفاةٍ
صعب الأمر عليهم
إن من أشقاه ربي



بين شوك نثروه
يوم ريح اجمعوه
قيل يا قومي اتركوه
كيف أنتم (تسعدوه)
أقول : هكذا روى الشطر الأخير من البيت الرابع : كيف أنتم (تسعدوه) ، والأصل تسعدونه لأنه من الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها (أي النون) .
ونحن في هذه الرواية أمام احتمالين :
الأول : أن يكون الشاعر قد أخطأ ، وهذا ما أستبعده من شاعر مثل عبد الحميد الديب طالب الأزهر ودار العلوم، وهما حصنا العربية بمصر ، وأستبعد أيضاً على شاعر يبدأ أبياته بالجمالية التي تبدع هذه الصورة المركبة في البيتين الأولين :
دقيق بين شوك ... وريح ثائرة ... وحفاة كلفوا بجمع هذا الدقيق المنثور بين الأشواك والذي تتلاعب به الرياح .
هذا مع ما نلاحظه من قلق الضمير أنتم بين الاستفهام والفعل .
إن هذه الأبيات الأربعة جميلة وتعبر عن موقف الشاعر وحالته النفسية ولا يعيبها من الناحية الفنية سوى هذا الشطر .
الثاني : أن يكون الراوي الذي روى الأبيات قد بدّل وغيّر ، فيكون الخطأ من الراوي ، مع ملاحظتنا أن شعر الديب في معظمه نقل بالرواية ، وشيوع الرواية بالخطأ في هذا الشطر جعل بعض النقاد يحكم على جميع الأبيات بالضعف ، وهذا ظلم للشاعر وشعره .
والذي يرجح الاحتمال الثاني أن إصلاح هذا الخطأ كان ممكناً وميسوراً من الأدباء الذين مرّ عليهم هذا البيت ، كان يمكن ان يكون البيت هكذا :
إن من أشقاه ربي أبداً لن تسعدوه
ويعود الحق إلى نصابه ، وتعود الأبيات إلى إشراقتها .
هذا وقد أهداني أخي عبد العليم كتاباً عن حياة هذا الشاعر بعنوان "الشاعر البائس عبد الحميد الديب" تأليف عبد الرحمن عثمان ، وبعد قراءة الكتاب تبين لي أن هذا المؤلف هو راوية الشاعر، وتبين لي أيضاً أن هذه الأبيات الأربعة ليس لها وجود في الكتاب ، وإن كان هناك عشرات الأبيات في معناها .
إذن رويت هذه الأبيات للشاعر عبد الحميد الديب الذي كان ملقباً بالشاعر البائس .) أ.هـ



قلتُ:
و كذلك فقد أطلعت على ديوان الشاعر السوداني إدريس جَمَّاع الذي جمع بعد وفاته و طبع عام 1980 للميلاد و لم أجد تلك الأبيات.و لكن لشهرة النسبة لإدريس جَمَّاع أوردتها له في ترجمته.

وسائلٍ عَنْ أبي بكرٍ فقلتُ لهُ:
بعدَ النَّبيينَ لا تعدلْ به أحَدا
في جنَّةِ الخُلدِ صِديقٌ مَعَ ابنتهِ
واللهِ قَدْ خَلَدتْ واللهِ قَدْ خَلَدَا