عرض مشاركة واحدة
قديم 02-26-2012, 10:27 PM
المشاركة 286
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الحكايات في حياة خيري شلبي يصل إلى مصب الرحيل
سيد محمود حسن

9-9-2011 | 15:47




لم تفقد مصر برحيل الكاتب خيري شلبي روائيا فذا فقط، لكنها فقدت كذلك نهرا من أنهار عطائها الكبير. إذ يصعب اختصار منجزه الفني في الكتابة الروائيةالتي أبدع فيها.

ويبدو لي أنه أقرب ما يكون لنهر تعددت روافده ،وصبت في مجرى واحد يحمل اسمه وتعرض العالم الفني لخيري شلبي في ظني لشيء من الاختصار المخل ، حيث سعت معظم الكتابات التي عالجته إلى حصره في القدرة على تناول فئة المهمشين اجتماعيا ، حتى بدا وكأنه مؤرخ لهذه الطبقة وتحولاتها في مصر.
ويلمس قارىء أعماله الغزيرة الكثيرالذي يخالف هذا الحكم المتسرع. لأن فيهاانفتاحا مدهشا على عوالم سردية تكشف خبرة فنية كبيرة وحياتية كذلك وتجاورا بين ما جرى في الريف المصري من تحولات عكسها في ( نعناع الجناين ، الوتد ، ثلاثية الأمالي )وما يجري في المدينة وانعكاساته على كافة فئات المجتمع سواء في القاع أو في القطاع الأعلى من الطبقة المتوسطة ( منامات أحمد السماك / صالح هيصة ، وكالة عطية ).
وتقدم السيرة الذاتية لخيري شلبي مفتاحا لفهم هذه القدرة التي كانت ابنة ل"خبرة الحياة " ففي بداية حياته عمل في مهن لا علاقة لها بالأدب والإبداع ولم يكن هدفه من وراء ذلك القيام بتجارب تفيده في الكتابة، ولكن كانت بهدف البحث عن لقمةالعيش فقد عمل في جمع القطن ،وتعلم كذلك مهنةالخياطة والحدادة، ثم النجارة واشتغل مع عمال التراحيل.
وخلال تلك الفترة زار معظم محافظات مصر، كما عمل بائعا جائلا في المواصلات العامة وهو ما أفاده في الكتابة وأعطاه تجربة بالمعايشة انعكست على أعماله التي عرض فيها لتحولات اجتماعية واقتصادية دفعت بشريحة المصريين للسكن في المقابر ومزاحمة الموتى لكنه بخبرةالكاتب الكبير جعل من هذا الموضوع الاجتماعي القاتم مصدرا للسخرية ولخلق عوالم أسطورية لا تخلو من " الفانتازيا " كما في مجموعتي " عدل المسامير / ما ليس يضمنه أحد ) أو روايات (السنيورة) ، (بغلة العرش) ، و(الشطار) والأخيرة توصف بأنها غير مسبوقة وغير ملحوقة لسبب بسيط وهو أنها ومن أولها إلى آخرها (خمسمائة صفحة) تروى على لسان كلب.
وفي مسار آخر قدم الراحل في أعماله الكثيرة عن الريف صورة تغاير الصورة التي رسخها ريف يوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي فهما قدّماالقرية المصرية من وجهة نظر بورجوازية. لكنه كتب عنها من مكان آخر بحكم تجربة الطفولة، والتراجع الطبقي لأسرته.
وانشغل الراحل كذلك بقضايا وجودية تتعلق بأسئلة المصير الإنساني ،إلى جانب الحرص على انصاف المرأة والتأكيد على القهر الاجتماعي الذي تتعرض له في كافة الطبقات.
وحقق خيري شلبي ذلك كله عبر الاتكاء على لغة متميزة في الحكي لا تخلو من التنوع في أساليب القص وهي على الرغم من فصاحتها لا تخلو من حيوية ومن طزاجة جعلتها قريبة من لغة الحياة اليومية.
وتكاد صفة " الحكاء " هي الصفة التي تلخص أسلوبه الفني وهو أسلوب استمده من شغفه الطفولي برواة السيرة الشعبية في قريته " شباس عمير " ومن معرفته العميقة بتراث الحكي الشعبي وتقاليدالكتابة في " ألف ليلة وليلة " فضلا عن انشغاله باكتشاف لغة سردية ظلت تنهل من مصادر الأدب الشعبي.
وفي كل حواراته حرص الكاتب الراحل على الإشارة إلى أن جانبا كبيرا من مصادر تميز لغته يعود إلى استفادته القصوى من المنجز اللغوي الذي راكمه يحيي حقي في أعماله كلها لا سيما مقالات النثر الفني التي كتبها والتي " لينت " لغة الكتابة وحررتها من القاموس ودفعت بها إلى ملامسة هموم الناس، كما رصد ذلك الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي في إشارته الذكية عن عالم الراحل إذ أكد " أن خيري شلبي منحته التجربة كتابته ومنحته كتابته نفسها فأغنى الرواية بعوالم لم يطأها قلم من قبله" كما أنصفه نجيب محفوظ حين سُئل عن سبب عدم كتابته عن القرية، فأجاب: "كيف أكتب عن القرية ولدينا خيري شلبي".
وحدها السنوات الأخيرة أنصفت الكاتب الراحل ووضعته في المكانة التي تليق به ككاتب كبير ، إذ تعرضت أعماله لتغييب نقدي ، لا أعرف إن كان تغييبا متعمدا أم يعود إلى غزارة أعماله وتنوعها ( حوالي 75 كتابا ) وبصورة لم تمكن من الإحاطة بها وإصدار أحكام قاطعة في شأنها.
واللافت كذلك أن معرفة القراءالمعاصرين بأعمال صاحب " صهاريج اللؤلؤ " تكاد تقتصر على كتاباته الروائية وتغيب عنها مسارات أخرى ، منها مساره كباحث ومحقق متميز ، إذ كشف خيري شلبي لأول مرة عن نصوص التحقيق مع الدكتور طه حسين في القضية الشهيرة المرتبطة بكتابه " في الشعر الجاهلي " وبفضل هذا الاكتشاف تمت تبرئة طه حسين في وعي المثقفين إذ عثر شلبي على قرار وكيل النيابة محمد نور بحفظ التحقيق في القضية وحفز ذلك الكاتب الراحل لتحقيق القرار من الزاوية القانونية، وإعادة رصد وقائع القضية وردود أفعالها اجتماعيا وأكاديميا وسياسيا وأدبيا ثم نتج عن ذلك واحد من أهم كتب خيرى شلبى وهو: كتاب (محاكمة طه حسين) الذي كانت أولى طبعاته عام 1969.
ويجهل قراءالكاتب الراحل كذلك أعماله المسرحية التي كتبها تأثرا بنشاطه الرئيس في الستينيات كناقد مسرحي لمجلة " الاذاعة " وهي الفترة التي أثمرت مجموعة كتب منها " دراسات في المسرح العربي ، وكتابه مسرح الأزمة (نجيب سرور) وغير ذلك. إلى جانب تأليف مسرحيات منها صياد اللولي، غنائية سوناتا الأول، المخربشين. ، كذلك أن الباحث اكتشف ضمن هذه المجموعة من النصوص نصا مسرحيا من تأليف الزعيم الوطني مصطفى كامل بعنوان: (فتح الأندلس) وقام بتحقيقه ونشره في كتاب مستقل بنفس العنوان صدر عن هيئة الكتاب في سبعينيات القرن الماضى كما اكتشف أيضا مسرحية من تأليف العلاَّمة الشيخ أمين الخولي بعنوان: (الراهب) .
وعلى خلاف الكثير من أبناء جيله لم ينخرط خيري شلبي في تجربةالانتماءإلى التنظيمات السياسيةالتي كانت عنوانا لمرحلتي الخمسينيات والستينيات وقد فسر ذلك، مؤكدا أن شغفه بالحكاية وولعه بالبوح والاعتراف كانا سبب نفور سماسرةالتجنيد للتنظيمات الشيوعية منه على أساس أنه لا يقوى على الاحتفاظ بسر. وقد حمد خيري شلبي الله على أنه لم يخض تجربة التنظيمات السياسية لأنها كانت ضد تكوينه الإنساني، لكن هذا لا يعني أنه كان ضد التنظيمات السياسية، بل كان شديدالاحترام لمن خاضوا تجربة التنظيم السياسي وقدموا تضحيات جسيمة في سبيل مبدأ آمنوا به، وتجلى ذلك الاحترام بوضوح في روايته " صحراء المماليك " التي صدرت في العام 2007 وتضمنت جانب من سيرة مثقفي جيله وكشفت صنوف التعذيب التي تعرضوا لها.
وفي السنوات الأخيرة تألق حضور خيري شلبي ككاتب بوتريه أو صورة قلمية لرموز الثقافة العربية والمصرية وهي البوتريهات التي جمعها في عدة كتب منها ( أعيان مصر ، صحبة العشاق ، عناقيد النور ) وفي الكتاب الأخير مقدمة متميزة كتبها حاتم حافظ تكشف عن جماليات البوتريه لدى الراحل الذي أصدر كتابه الأخير قبل أقل من شهرين بعنوان " أنس الحبايب " وتضمن فصول من سيرته الذاتية " التي غامر بكتابتها لأول مرة في سلسلة مقالات نشرتها " الأهرام " وجاءت هذه المغامرة بعد تردد طويل حسمه الراحل الذي كتب مرة يحلل أسباب عدم حماس الكتاب لكتابة سيرهم الذاتية وهو يقارن سيرته مع السيرة الذاتية التي كتبها الكاتب الكولومبي الشهير جابرييل جارسيا ماركيز في كتابه " أن تعيش لتروي " وفي هذا المقال رأى شلبي أن لسيرة الذاتية فن يكتسح كل المعضلات وتبعث الضوء في كل حنية من الحنايا ، ولذلك يصعب أن يقرأ هذا الكتاب بمعزل عن هذه القناعة التي حكمت رؤية صاحبه الذي قاده الاقتراب من الموت لكتابة " حكايته" الأخيرة.