عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 01:43 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
هل كان المتنبي متدينًا


ضعف العاطفة الدينية عند أبي الطيب

بقلم الأستاذ: علي أدهم
أبوالطيب المتنبي أقوى شعراء العربية نبضات قلب، وأبعدهم منزع فكر، أعمقهم حكمة ومن أصدقهم إفصاحًا عن خفايا النفس، وأعرفهم بأسرارها. فلا عجب إن كان بعد ذلك أبعدهم شهرة وأخلدهم أثرًا.

ولست أعرف شاعرًا من شعراء العرب حظي من إعجاب الخاصة والعامة بمثل ما حظي به المتنبي. وبرغم الزمن الطويل الذي مر على وفاته، وتغيرالأحوال وتبدل المعايير الأدبية، وتباين أساليب الفهم واختلاف الذوق فإن شهرته لم تخمد ولا يزال اسمه سائرًا على الألسنة وشعره مضرب الأمثال ومستودعًا من مستودعات الحكمة.
والمتنبي أنموذج صالح لتمثيل خصائص الشعر العربي. ولا نزاع في أن شاعرًاواحدًا بالغًا ما بلغ من القدرة والافتنان لا يكفي لتمثيل عبقرية شعب في ظلالها المختلفة وشياتها المتلونة. وقد لا يكفي انقطاع شاعر ممتاز لتمثيل جانب اللهووالمجون أو جانب الزهد والورع أو جانب القوة والأمل أو جانب اليأس والألم. وأرجح أنالمتنبي أقرب شعراء العربية إلى التمثيل العام لعبقرية الشعر العربي. ولذلك انعقدعليه الإجماع وعمرت بذكره المجالس وحفلت بأخباره السير وبقي شعره على الزمن.
والمتنبي لا يستثير إعجابنا ولا يهفو بألبابنا من ناحية إثارة الخيال واستفزاز العاطفة وحدها وإنما لأنه يقدم لنا مادة ثمينة للتفكير والتأمل ويعرض علينا نظرات في الحياة صائبة وخواطر عن الإنسان جديرة بالنظر والاعتبار. وواضح أن أسلوب المتنبي الذي يغلب عليه تحري الضخامة والقوة لا يصلح للتعبير عن المشاعرالرقيقة وهمسات الروح الداخلية وضروب الجمال الخفي وألوانه الصامتة ونغماته الخافتة. ولكنه يطيل التفكير في الحياة ويستخلص الحكمة من التجارب ويعطيك في شعره عصارة صالحة ليس فيها حلاوة ولا نداوة وليس لها موسيقية صافية النغم عذبة الرنين،فكل كلمة عليها طابع القوة وسمة العنف. وهو لا يداني البحتري في جمال فنه ولطافة تصوره ولا يبز أبا تمام في أستاذية الصياغة وفحولة الصنعة ولا يتدفق تدفق المعري، ولا يثب وثبات الشريف. ولكن عقله المكين كالثغر الكبير المتسع تحمل إليه السفائن حمولات الأفكار من شتى النواحي وهو يستطيع أن يهضمها ويطبعها بطابعه.
وعندما قال الناقد الإنجليزي المشهور "ماتيو أرنولد": "إن الشعر هو نقد الحياة وأحسن الشعر هوالذي يقدم لنا أكمل تفسير للحياة الإنسانية" أثار عليه ذلك زوبعة من النقد. ولكنيأرى أن الشعر لكي يكون من الطراز الأسمى، لا يكفي أن يرفه عن النفس أو أن يكون حافلا بالموسيقية مترعًا بالأخيلة، بل يلزم أن يعيننا على تفسير بعض مشكلاتنا الإنسانية ومسائلنا الأخلاقية: ولست أقصد بالأخلاق هنا المعنى الضيق المحدود، وإنما أقصد بها قوة الشعر على أن يرتفع بنا فوق سفاسف الحياة وصغائرها، ويمتاز في هذه الصفة المتنبي وأبو العلاء فهما ملكان يسيطر كل منهما على عالم شاسع من عوالم الروح، وكلاهما منفرد حزين في النهاية ولكن الأول محارب مطبوع على المناجزة

تعود أن يغبر في السرايا ويدخل من قتام في قتام

أما الثاني فيائس مستسلم. والمتنبي أقرب إلى مزاج الرجل السليم. ونظرته في الحياة أساسها الخبرة، بريئة من ثرثرة العلماء المكبين على كتبهم، ومنزهة عن أوهام رجال الفكر البعيدين عن ميادين العمل. وحياته أشبه برواية لها مواقفها المشهورة. وقد تكفل ديوانه بوصف أحوالها المتقلبة، وأطوارها المتتابعة، من نشأته الغامضة، وما منى به من الفشل الحاطم في مستهل أمره، ثم اتصاله بسيف الدولة وانصرافه عنه إلىمصر، وقفوله منها مغاضبا لكافور، إلى مصرعه الأخير.
ولكن هناك جانبًا هاما من جوانب الحياة العربية أهمل المتنبي التعبير عنه والإلمام به. ولم يكن له فيه موهبة تذكر وهو الجانب الديني في الحياة العربية. ولو فني الشعر العربي أجمعه ولم يبق سوى ديوان المتنبي لما استطعنا أن نعلم منها شيئًا يؤبه له عن العاطفة الدينية عندالعرب. ولا نكران في أن أكثر شعراء العرب لم يعنوا بإثبات خواطرهم الدينية إلا في الندرة والفرط، ووقفوا من الدين موقفا محايدًا. ولكن الذي يسترعي النظر في شعرالمتنبي، أن فيه إشارات كثيرة تختلف وضوحًا وخفاء تنم على وهن العقيدة وضعف الإيمان وغلبة الآداب الجاهلية في نفسه على الآداب الإسلامية. وقد لمح ذلك القدماء من النقاد فأشار إليه الجرجاني في الوساطة والثعالبي في اليتيمة وتناوله من الكتاب المحدثين الأستاذ العقاد والأستاذ شفيق جبري والأستاذ محمد كمال حلمي. ومن عجيب الاتفاق أن هذه الصفة يشترك فيها المتنبي مع شكسبير.. وقد كانت العاطفة الدينية عند المتنبي ضعيفة في جميع أدوار حياته. ففي ريق شبابه واكتمال قوته قال:

أي محل أرتقي أي عظيم أتقي
وكل ما قد خلق اللـ ـه وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

وفي هذه الأبيات يمتزج الطموح المتطرف وفرط الثقة بالنفس باحتقار الخليقة بأسرها وهي تروى عن شعور رجل أجال بصره فلم ير شيئًا جدير بإجلاله خليقًا بآماله وطمحات نفسه وفي مدحه لبدربن عمار يقول:

تتقاصر الأفهام عن إدراكه مثل الذي الأفلاك فيه والدنى

وهو هنا يرتفع بممدوحه إلى مرتبة الألوهية ولو كان لها مكانة من نفسه لما هبط بها هذا الهبوط ويقول فيه أيضًا:

لو كان علمك بالإله مقسما في الناس ما بعث الإله رسولا

لو كان لفظك فيهم ما أنزلالـ فرقان والتوراة والإنجيلا