عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2024, 06:55 AM
المشاركة 5
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كيف نفهم قضية فلسطين (القصة الكاملة)

*الحملة الفرنسية ومصير مشروع نابليون.
أعد نابليون حملته على مصر متسلحا بمنشورات الخداع للمصريين في (الورقة الإسلامية) وبالسياسة التي انتوى ممارستها مع الشعب المصري عن طريق تبرير الحملة بأنها استجابة حضارية من فرنسا لإنقاذ المصريين من ظلم المماليك
ورغم أن مستشاريه من علماء الحملة الفرنسية كانوا مؤمنين بعبقريته بعيدة المدى إلا أن (روسبي) فيلسوف الثورة الفرنسية، عارض حملة نابليون على مصر وتنبأ بفشل ورقته الخداعية على المصريين وتوقع أن المصريين سيرفضونها
فقال:
(إن أكثر الأفكار شذوذا هي التي يظن السياسي فيها أنه قادر على خداع الجماهير لمجرد حمله للسلاح وتملكه للقوة)
وللأمانة كان (روسبي) عبقريا في عبارته تلك لأنه تنبأ بما وقع فعلا عندما فشل نابليون فشلا ذريعا في إقناع المصريين بقبول الغزو!
فقد كان نابليون رغم عبقريته العسكرية والسياسية غافلا عن طبيعة المصريين تجاه الغزاة المخالفين في العقيدة وهو ما جعله يتصور واهما أنهم سيستقبلونه بالورود لمعاناتهم من ظلم المماليك.
كما أنه وقع في وجهة نظر سطحية عندما ظن أن المماليك يحكمون بمقتضى القوة والجبروت التي يخضع لها الشعب المصري بنفس طريقة خضوع الفرنسيين لأسرة (البربون)، وهو تفسير خاطئ تماما لأن معيار العقيدة كان –ولا زال-له دور كبير في استقرار أي حكومة وأي نظام بمصر مهما بلغت قوته.

فالحقيقة التاريخية الراسخة للشعب المصري تتمثل في عنصرين:
* أنهم قد يتسامحون لفترات محددة مع ظلم الحكام ويتمسكون بحفظ كيان الدولة، فإذا بلغ الظلم مداه خرجوا على نظام الحكم لا على الدولة نفسها وكيانها، وتكون ثوراتهم بهدف تغيير الظلم وواقع الحال وليس هدم النظام المتفق معهم عقائديا وتاريخيا.
بمعنى أنهم يتقبلون نظام الحكم الظالم ومساوئه إذا كان الحاكم يتفق معهم في العقيدة والتاريخ وليس غازيا أجنبيا صرفا.
أما إن كان الحاكم يُمثل حكومة أجنبية بالكامل معادية للعقيدة والوطنية والتاريخ فهنا يكون رفض الشعب لهذه الحكومة راسخا حتى لو جاءت تلك الحكومة بأعدل أهل الأرض كي يحكموا به
لذلك رفض الشعب المصري احتلال الرومان رفضا تاما، وظلت المقاومة الشعبية ضدهم مستمرة –رغم اتفاق الرومان مع المصريين في الدين المسيحي-غير أن الكنيسة الشرقية التي تمثلها مصر كانت تخالف عقيدة الكنيسة الغربية مخالفة تامة، ولا تعترف بهم كمسيحيين، ورغم طول فترة احتلال الرومان إلا أن الشعب قاومهم وَفَرّ بدينه وعقيدته لإنشاء المجامع الكنسية في الصحراء لحفظ المعتقد الشرقي، ورفض الخضوع للكنيسة الغربية تماما لعدم اقتناعه بها.
لذلك عندما جاء الإسلام ضامنا لحرية العقيدة ومخاطبا لوعي المصريين في رسالة الإسلام وقف الشعب مع الفتح الإسلامي وانضمت طوائف المصريين للإسلام شيئا فشيئا، وبقي المسيحيون أيضا على حرية معتقدهم دون أدنى تعارض.
كذلك عندما دخلت دولة الشيعة العبيدية المعروفة خطأ باسم (الفاطميين) إلى مصر وتم احتلالها بهدف تحويل المصريين إلى عقيدة الشيعة، ونظرا للاختلاف الفادح بين عقيدة المصريين المنتمية للسُنة المشرفة، وبين عقيدة الشيعة الإسماعيلية المتطرفة التي يمثلها العبيديون
لأجل ذلك حاربهم الشعب حربا طاحنة لمدة ثلاثة قرون وفشل العبيديون في تحويل مصر لمعتقد الشيعة فشلا ذريعا بل إن المصريين تمكنوا من تحويل (الجامع الأزهر) ليكون أكبر جامعة ومرجعية للإسلام السُني بينما الذي أسسه في الأصل كان الشيعة العبيدية ليكون معهدا لعلوم التشيع.

ولهذا رحب المصريون بدخول صلاح الدين الأيوبي لمصر والذي أعلن عودة مصر لحاضنة الخلافة العباسية السنية.
وعندما دخل العثمانيون لمصر، هنا وقف الشعب المصري محايدا، لأن المماليك والعثمانيين كلاهما كانا من أهل العقيدة السنية المتفقة مع معتقد عموم الشعب.
ولم يكن المماليك ذوو شعبية بين الناس نظرا لظلمهم الكبير، كما أن المصريين لم يكن لديهم تحفظات ضد العثمانيين لأنهم أصحاب الخلافة الجامعة.
فرفض الشعب المصري مقاومة العثمانيين مع المماليك وتركوا الصراع بينهم يدور مع التزامهم الحياد ودخلت مصر تحت الخلافة العثمانية دون اعتراض شعبي
بينما عندما تكرر نفس الأمر بحذافيره مع دخول الحملة الفرنسية بغرض محاربة المماليك، رفض المصريون تلك الحملة ورفضوا دعاوى نابليون ووقفوا صفا شعبيا واحدا ضد الاحتلال الفرنسي والاحتلال الإنجليزي بعده

* أن طبيعة المصريين منذ عهد الفراعنة راسخة في رفض الغزاة رفضا قاطعا ولهم مفهوم خاص للغزو الذي يعادونه، وهم الغزاة الذين يأتون إليهم بعقيدة باطلة أو ديانة مخالفة لمعتقداتهم الراسخة، هنا تقوم ثورة المصريين بالسلاح والمقاومة ضد الغازي القادم مهما كانت معاناتهم من نظام الحكم القائم أثناء الغزو ما داموا يرونه متفقا معهم في العقيدة،
أما إن كان القادم إليهم سواء بقوة عسكرية أو على سبيل الدعوة المفردة بعقيدة جديدة لكنها تعتمد على الوحي السماوي
هنا يكون رد فعل الشعب هنا تكون بالاستقبال والترحيب التام حيث تعتبر مصر هي القُـطر الوحيد في الأمم السابقة التي آمن شعبها بكافة الأديان السماوية التي وردت إليها منذ عهد سيدنا (إدريس) عليه السلام، وهم الذين احتضنوا (بني إسرائيل) منذ عهد (يوسف) وخلال عهد (موسي) عليهما السلام وناصروه ضد فرعون وجنوده
فمفهوم الشعب المصري الخاص عن الغزو هو الذي عجز نابليون عن فهمه، بينما فهمه فيلسوف الفرنسيين (روسبي) وحاول إقناع نابليون به لكنه فشل، ولهذا كانت المقاومة عنيفة وقوية من الشعب المصري ضد الغزو الفرنسي منذ اللحظة الأولى وهو ما صدم نابليون.
وبدأ نابليون حملته ورفض قرار مستشاريه حتى من ناحية الخطة العسكرية
فالدخول إلى مصر من سواحل دمياط كان هو الاختيار العسكري الأمثل لكن نابليون رفض بشدة بسبب الذكرى السيئة له مع مطالعته لتاريخ حملة (لويس التاسع) التي دخلت من دمياط وانتهت في المنصورة بسقوط (لويس التاسع) أسيرا، فدخل نابليون من الإسكندرية التي أعلن شعبها النضال بقيادة (محمد كريم)، وتأكدت عقيدة المصريين لنابليون عندما رفض (محمد كُرَيّم) عَرْض الأسطول البريطاني - قبل مجيء الفرنسيين - والذي عرض عليهم النزول على سواحل الإسكندرية للتصدي لنابليون فرفض (كريم) رفضا قاطعا وقام محمد كريم والحامية الإسكندرية مع عموم الشعب بشن الهجوم على الفرنسيين فور نزولهم دون أن يمنحوا نابليون فرصة ممارسة الخداع بمنشوره.
وقام نابليون بفتح نيران مدافعه المتقدمة وسقطت المدينة بعد مقاومة عنيفة خلفت آلاف الشهداء أعقبها نابليون بإعلان الحكم العسكري على الإسكندرية وأصدر قانونه الذي حمل البنود التالية:
* جميع القري الواقعة في حدود ثلاث ساعات من مقر حملة الفرنسيين ترفع علم الفرنسيين.
* كل قرية تقاوم الفرنسيين أو تعلن رفض العلم الفرنسي يتم حرقها بالنار بمن عليها.
* كل قرية تستسلم وترفع العلم ستجد الدعم من الجيش الفرنسي.

وبالطبع كان الرد فوريا على نابليون لا سيما بعد استمر بالزحف نحو القاهرة ورفضت كافة القري والمدن منشور نابليون وأعلنت الجهاد والمقاومة في مواقع مشهودة شملت موقعة الشرقية والمنصورة التي انتقم منها نابليون شر انتقام نظرا لأنها المدينة التي أسقطت (لويس التاسع) وأسرته في دار ابن لقمان وهو ما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه من أن نابليون والثورة الفرنسية لم تنظر لأسرة (البربون) الحاكمة على أن أفعالهم جميعها إجرامية، بل كانوا ينظرون لسياستهم الداخلية فقط.
أما سياستهم تجاه الشرق الإسلامي فقد تبناها نابليون وزعماء الثورة الفرنسية بل كانوا يواصلون منهج أسرة لويس التاسع وينتقمون لها أيضا
وبعد المنصورة واصل نابليون اختراقاته الوحشية بهدف بث الرعب لتفكيك مقاومة الشعب، فاشتبك الشعب مع الغزاة في موقعة دمياط وموقعة قرية الشعراء ثم المنوفية وطنطا ومواقع القاهرة في الجمالية وإمبابة ثم واصل إلى الفيوم وبني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا وأبنود وأسوان،
وكان من المواقف المشهودة لنضال الشعب المصري ما سجله قواد نابليون في مذكراتهم عن مواقف رهيبة واجهوها ومنها موقف طفل من المنيا من قرية (الفقاعي) أثار ذهول الجنرال (ديزيريه) عندما فوجئ بالطفل ذي الاثني عشر عاما يختطف بندقية أحد الجنود ويستخدمها لإطلاق النار على جنود الحملة غير آبه بما يواجه، فألقوا القبض عليه وأحب الجنرال (ديزييه) أن يختبر شجاعته فأصدر حكما بإعدامه وساقوه للمشنقة فظل الطفل ثابتا فجاء به (ديزيريه) مرة أخرى وأمر بجلده وتلقي الطفل ثلاثين جلدة في صبر وَتَحَمّل فازداد إعجاب الجنرال وعرض عليه أن يصاحبه لفرنسا قائلا له أنه يليق بطفل مثله أن يربيه كي يصبح جنديا وضابطا فرنسيا، فرد الطفل بشجاعته:
لا أنصحك لأنك لو ربيتني فإني قاتلك في النهاية.
وغرور ديزيريه الذي دفعه لعرض الجنسية على الطفل يماثل غرور هتلر عندما عرض نفس العرض على البطل الأوليمبي (خضر التوني) ورفضه.
وبلغ عدد شهداء المصريين في المقاومة فترة دخول المحتل الفرنسي فقط حوالي 300 ألف شهيد، تكفي دماءهم والوحشية الرهيبة لنابليون أن تثبت للعلمانيين أصحاب الانتماء للثقافة الفرنسية قدر الجريمة التي ارتكبوها عندما رَوّجُوا لفترة طويلة للاحتفال بمقدم الحملة الفرنسية باعتبارها حاملة مشعل الحضارة والتنوير، فإذا بها كانت مشاعل الحرق الشامل والتي أبيدت فيها قري وأحياء بأكملها بكل ما عليها ومن عليها بالذات في المنصورة وطنطا والمنوفية, فضلا على أن الحملة الفرنسية كانت الخطوة الأولى والكبرى لتوطين اليهود داخل القدس, أي أن الحملة الفرنسية والسياسة الفرنسية التي يروج لها أهل التغريب كانت سببا في أكبر كارثتين على العرب جميعا ومصر خصيصا.


*تضعضع حلم نابليون مع استمرار المقاومة وكان أكثر ما أثار غيظه أن خطته الرئيسية في فصل مصر عن الشام تنذر بالفشل قبل بدايتها لأن الشوام المقيمين بمصر لا سيما طلبة الأزهر وقفوا صفا واحدا ضد مع المصريين ضد الاحتلال، وزادت المقاومة عنفا في كافة أرجاء البلاد وواجهها نابليون بمنتهى القسوة في ثورتيْ القاهرة الأولى والثانية حتى قام بضرب أحياء القاهرة بالمدافع من أعلى جبل المقطم، ودخل الأزهر بخيله بعد أن مارس شيوخ الأزهر دورهم التاريخي في قيادة الناس, وكان قادة الثورة هم الشيخ (سليمان الجوسقي) والشيخ (الشرقاوي) والشيخ (المحروقي)" "
وضغط نابليون بمواصلة الجهود لإخضاع المقاومة بالترغيب والترهيب، لا سيما وأن خطته الإعلامية داخل مصر بدأت بالفعل مع وصول الحملة للقاهرة عن طريق تأسيس أول جريدة في مصر والشرق الأوسط التي أصدرها بعنوان وكانت جريدته (كير دي لي ايجيبت) أو (البريد المصري) الناطق الرسمي والوحيد باسم الاحتلال وأذنابه وإعلامه، وَحَشَاها نابليون بكل ما يمكن أن يلفت نظر المصريين ويكسب ودهم وتأييدهم، واستعان على ذلك بالمحترفين الذين جلبهم معه" ".
ورغم أن أسلوب التأثير الإعلامي باستخدام الصحافة وقتها كان أمرا لم تُجَربه مصر قبل ذلك، ورغم أنه أسلوب شديد التأثير مع العوام، خاصة بعد أن استعان نابليون بمنافقي سلطة الاحتلال من خونة المصريين للترويج له باعتباره ليس محتلا بل بطلا أنقذ مصر من جبروت المماليك!
رغم كل هذا فقد كان رد المصريين العوام على نابليون مفاجئا جدا له ولكبار رجال حملته، حيث استخدموا الدعاية المضادة ضد الجريدة باستخدام الطريقة الخارقة التي تتميز بها مصر وهي السخرية من الاحتلال وأعوانه.
فاتخذوها وسيلة للسخرية من نابليون وجنوده، حتى أصبح من يقتني الجريدة أو يروج لأخبارها هدفا سهلا للسخرية والتحقير.
وكانت الجريدة الفرنسية تنشر أخبار الإعدامات لشيوخ المقاومة أولا بأول، في نفس الوقت الذي كان فيه شيوخ السلطان يُحَرّمون الخروج على نابليون باعتباره حاكما متغلبا!
فكانت ردة الفعل الشعبية محبطة للغاية على نابليون حيث تزايدت أنواع المقاومة واكتسبت المزيد من الأساليب، وصاحبها أيضا انهيار معنويات الجنود في الحملة بعد أن تعرضوا لوابل من الأمراض المعدية فضلا على ما عانوه في طول مصر وعرضها من حرب العصابات المرهقة" ".
بخلاف الصدمة التي تلقاها نابليون والتي تمثلت في أن شجاعة المصريين في الدفاع عن بلادهم وتعدد المواقف البطولية لشيوخهم وشبابهم ونسائهم، والإصرار العجيب على مهاجمة القوات الفرنسية ومواجهة المدافع والنيران.
كل هذه الظواهر وقف أمامها ضباط وجنود الجيش الفرنسي وتبلبلت أفكارهم وشعروا لأول مرة أن نابليون يقودهم إلى معركة غير شريفة بمقاييس الحرية التي رفعتها شعارات الثورة الفرنسية.
فالجيش الفرنسي –كما سبق أن شرحنا-كان ينتصر انتصارات ساحقة في أوربا مع إيمان الجنود بعدالة قضيتهم وأنهم يحاربون الرجعية الملكية في أوربا التي تربصت للثورة الفرنسية وأرادت سحقها، لذلك استبسل الجيش الفرنسي في معاركه ضد مختلف الدول الأوربية.
لكنهم الآن وقفوا موقفا شديد الاضطراب وهم يرون شعبا من الفلاحين يرفض التدخل الفرنسي رفضا تاما وَيُصّر على محاربة الجيش النظامي رغم فارق القوة الهائل، ويرتضي الحرق بالمدافع على أن يستسلم.
وهنا ظهرت الكثير من الأصوات المعترضة من بعض علماء الحملة ومن بعض الجنود والضباط أنهم يهاجمون شعبا أعزل ويقتحمون أرضه لاحتلالها وهو ما ينزع عنهم شرعية القتال وروحهم المعنوية المعتادة، وأن نابليون بخالف –لأول مرة-مبادئ الثورة الفرنسية ويلجأ لنفس أساليب الأسر الأوربية الملكية في استضعاف الشعوب واحتلالها بالقهر.
ومن خلال سياق أحداث الحملة الفرنسية، نستطيع أن نقول باطمئنان أن ورقة نابليون الإسلامية فشلت فشلا ذريعا وأن خدعة نابليون لم تنطل على عموم المصريين.
وأن الفئة الوحيدة التي استجابت لنابليون كانوا مجموعة الخونة المنتفعين مثل (المعلم يعقوب) الذي ذهب لنابليون يطلب منه السلاح لكي يمده برجال للقتال في صف الفرنسيين وبالفعل قاتل يعقوب ومجموعته ضد وطنهم، ولقي جزاءه المستحق لأن الحملة الفرنسية عندما فشلت فر المعلم يعقوب للأسطول الفرنسي ورحل معهم، لكنه مات في الطريق وألقى الفرنسيون جثته في البحر" "
وبناء على ذلك لا يستطيع أحد أن يقول بأن خدعة نابليون انطلت على الشعب أو حتى على بعضه، ولذلك فقد أخطأ أستاذنا الكبير (محمد حسنين هيكل) في حديثه عن أن نابليون صادف توافقا مع بعض فئات الشعب، فهذا غير صحيح من واقع التاريخ ورواية شهود العيان، كما أن ظهور فئة من الخونة المتعاونين مع المحتل قد رفضهم الشعب وسخر منهم، ليس معناه أن هؤلاء الخونة يمثلون نسبة يُعْتد بها أو يعبرون عن فصيل من الشعب.

ولم يستسلم نابليون بل أصر على المضي قدما في خطته، ولهذا ترك نائبه الجنرال (كليبر) يواصل جهوده لإخضاع المقاومة وانطلق هو إلى الشام لإتمام الخطوة الأولى في المشروع.
ووقفت مناعة مدينة (عكا) التاريخية في وجه نابليون وفشل في فتحها في نفس الوقت الذي تلقى فيه خبرا أطار صوابه وهو مقتل الجنرال (كليبر) نائبه في مصر على يد الطالب الأزهري الشامي (سليمان الحلبي)
ولنا أن نتخيل ردة فعل نابليون عندما علم أن الذي نجح في اغتيال أبرع قواده كان شابا شاميا يدرس في مصر مما زاد من حنقه وإدراكه بصحة وجهة نظره بمدى التمازج الرهيب بين مصر والشام ضد العدو الغربي.
وقد انتقم الفرنسيون من (سليمان الحلبي) انتقاما رهيبا حيث أحرقوا يده اليمنى، ثم أعدموه على الخازوق في منطقة (تل العقارب)، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بتسليم جثته إلى أطباء الجراحة المصاحبين للحملة الفرنسية حيث استخرجوا جمجمته واحتفظوا بها وحملوها أيضا إلى فرنسا وأودعوها متحفا خاصا لا زال قائما لليوم هو (متحف الإنسان)!
وهذا المتحف لا علاقة بالإنسان أو الإنسانية فهو حاشد بآلاف الجماجم التي كان منها جماجم شهداء الحروب من المقاومة في مختلف البلاد التي احتلتها فرنسا!
حيث يحتوي المتحف على عشرات الجماجم لقادة المقاومة الجزائرية، فضلا على جمجمة البطل (سليمان الحلبي) القابعة حتى اليوم في المتحف وتحمل عبارة (مجرم قاتل)!
وهذا يكشف لنا بعضا من إنسانية فرنسا والغرب!
كما يكشف لنا في وضوح أن الغرب اليوم يعتز بتاريخه المغرق في الوحشية ولا يستنكره بدليل أن فرنسا المدافعة عن الحريات لا زالت تحتفظ بعداوات الماضي في الجزائر ومصر ضد المقاومة الوطنية لهذه الشعوب.
وذلك بدلا من أن تستحي من تاريخ نابليون وخلفائه الذين احتلوا الجزائر وتونس وحاولوا احتلال مصر وأوقعوا ملايين الضحايا في سبيل الميول الاستعمارية!
في نفس الوقت الذي لا زالت تدفع فيه ألمانيا عشرات الملايين لإسرائيل في سبيل خرافة محارق النازية في زمن هتلر!
ولهذا فإن بوصلة الغرب العمياء وتعاملهم المزدوج مع قضايا حقوق الإنسان مكشوف لكل ذي عينين غير أن وكلاء الغرب لدينا من الحكومات والإعلام يحلو لهم دائما استنكار تاريخنا نحن وكأننا نحن الذين ارتكبنا هذه المجازر؟!
وتجد فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الصفاقة الكافية لتنشر الإسلاموفوبيا في العالم باعتبار أن الإرهاب صناعة إسلامية!

المهم.
مع استمرار النضال فشلت الحملة وعاد نابليون إلى مصر ومنها إلى فرنسا كي يواجه اضطرابات الحكم هناك، وزاد من جراحه، تلك الهزيمة التي تلقاها أسطوله في معركة (أبي قير) البحرية أمام الأسطول الإنجليزي بقيادة الأدميرال (ويلسون)
وخاض نابليون عقب عودته من مصر حروبا عديدة ورغم نجاحه في معظمها إلا أنه تلقى الهزيمة الكبرى في معركة (ووترلو) على يد الجيش الإنجليزي أيضا بقيادة الجنرال (ولنجتون)، وانتهت صفحة نابليون بنفيه إلى جزيرة سانت هيلانه.
لكن مشروعه الإمبراطوري كان لا زال قابعا في وثائقه وأفكاره، والأخطر أنه كان معروفا لجنرالاته وعلمائه في الحملة الفرنسية، كما أن كبار الحاخامات اليهود ورموزهم كانت لديهم أجزاء كثيرة من حلم نابليون أهمها الفكرة نفسها.
فكرة توطين اليهود في وطن مستقل تحت حماية القوى الأوربية.
وظلت الفكرة سابحة في مجرى الزمن حتى وقعت في طريق فئة محددة هي فئة أغنياء اليهود الأوربيين الكبار والذين استهوتهم فكرة تجميع اليهود الفقراء في وطن مستقل بعيدا عن أوربا لأن أغنياء اليهود كانوا يعانون بشدة من تطفل واستنجاد اليهود بهم، لذلك جاءت الفكرة حلا عبقريا لكي يتخلص أباطرة اليهود من تلك الفئات التي تنغص استقرار استثماراتهم في أوربا.

واللافت للنظر أن أغنياء اليهود وكبارهم لم يكن لديهم اهتمام بتفاصيل مشروع نابليون، بل كانوا يهدفون منه لفكرة جمع اليهود الفقراء في مكان واحد بعيدا عنهم، بغض النظر عن المكان سواء في فلسطين أو غيرها.
لكن الذي أعاد مشروع نابليون بحذافيره للصدارة، هو أن أباطرة اليهود حملوا المشروع لبريطانيا وعرضوه عليها لتتبناه بريطانيا مع إعطاء المشروع أسباب قوة ونجاح أكثر بكثير من التي كان يمتلكها نابليون!
وقد كانت هذه هي نقطة العبقرية البريطانية المتوارثة كما سنرى في الفصل القادم.