عرض مشاركة واحدة
قديم 08-11-2011, 05:29 AM
المشاركة 3
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي

الهديـــــــــــــــة




تم الأمر وكأن شيئا لم يكن ، واختزلت سنة من الإعداد و التهييء المضني وتوتر الأعصاب في ليلة واحدة . ليلة حبلت بالفرح والحزن والضحك والنحيب. تعانق الجميع كما تبادلوا أقذع الشتائم والسباب. وعند الفجر كان كل شيء قد انتهى ، فلم يعد أي أحد يحتمل لا كلاما ولا حديثا ولا بكاء. فالقوى قد أنهكت وصار لزاما عليها أن تستجمع لتلقي تهاني من لم تسعفه ظروفه لحضور الحفل ، أو لتبادل العتاب واللوم مع من لم توجه له الدعوة ، إما عمدا، عملا بمبدإ رد الصاع صاعين ، أو سهوا.
فرح الحسين بكلمات التبريك كما امتعض لعبارات التلميح . لكنه أصم أذنيه عن كل ما يقال له . شخص واحد أثار انتباهه إلى شيء لم يكن يلقي له بالا من قبل . وبقدر ما تبددت مخاوفه من مشاكل الزواج وتبعاته ، استيقظ فضوله ، ووجد فيه تسلية لما يعتريه في بعض الأحيان من ملل.
حين يدركه القنوط ، يلجأ إلى الشاطئ .. ويختلي بنفسه بعيدا عن كل من يعرفه . هو لا يحب المقاهي ، ويمقت رائحة السجائر وصخب الرواد المصاحب لنقرات النرد . لكنه هذه المرة لم ينعم بالوحدة التي كان ينشدها . انبعث جنبه أحد زملائه في العمل كأن الأرض انشقت عنه..
- ماذا تفعل هنا وحيدا ؟
- كما ترى...
- هل سئمت من...
- مماذا ؟
- من الحياة الجديدة... هذا طبيعي ..
- أبدا.. لكني أرتاح لرؤية البحر .
قال ذلك وتنهد ، فعقب الآخر بحماس :
Cœur qui soupire n’a pas ce qu’il désire. -
هكذا هو دائما هذا الفيلسوف . يحاول نبش كل شيء ليؤوله ويحلله نفسيا.. لم يعقب على قوله وساد الصمت . موج البحر يرغي ويزبد عند قدميه . رفع نظره إلى الآخر فوجده يرمق معتوها يتجرد من ملابسه . أطرق برأسه وتنهد من جديد .
- ليس عيبا أن تصاهر معتوها.
- أنا لم أشتك من هذا .
- تنهدك ينم عن ذلك .
- أوف ... تحليل نفسي جديد ؟
- قل لي .. ألم يكن الأخ الأكبر كذلك ؟
لم يعد يطيق البقاء . نهض ونفض الرمل عن سرواله من الخلف وقال بحدة :
- أجل ..كان كذلك ... لقد بدأ الجو يبرد .. علي بالعودة..
أحس بالراحة وهو يستلقي على السرير، لكن أعصابه ظلت متوترة . يثيره تتبع الناس لسيرة الآخرين وكأن لا شغل لهم إلا ذلك .. ماذا يهم إن كان للزوجة أخ أو أخوان معتوهان ؟ لقد تزوج سكينة وقد ألم بكل حياتها وعرف كل فرد من أفراد عائلتها ، الأحياء منهم والأموات .. لم تخف عنه شيئا وحكت له عن كل التفاصيل ، بل ولم تتردد في ذكر حادثة قتل خالتها لزوجها بعد أيام من الزفاف بسبب حالة هستيريا كانت تصيبها عند كل طمث .
اقشعر بدنه رغما عنه وهو يتمثل منظر الفأس وهي تهوي على الرأس تشقه نصفين . لكنه هدأ قليلا ونظر إلى ساعته اليدوية . لقد تأخرت سكينة عند أمها . سمح لها بالمبيت عندها ، لكنها أبت . فهي تعلم تقاعسه عن طبخ الطعام واكتفائه بقلي البيض مع استعماله دزينة من الصحون و الأواني. هل يمكن أن تأتي وقد سجى الليل ؟ .. لا بد أن يرافقها أحد.. أو.. ليذهب بنفسه كي يأتي بها…ستفرح بالمفاجأة التي أعدها لها ، ويعودان ليتسامرا معا . سيبادر بهديته قبل أن تناوله هديتها التي حدثته عنها في الصباح… مسكينة.. لم تطق صبرا حتى تفاجئه بها وظل السر يؤرقها حتى نفذ صبرها وباحت له بكل شيء . ليتها بقيت ليستأنس بها وتذهب عنه هذا الشعور الغامض من القلق . حقا لقد أذن لها على مضض بقضاء الليل هناك رغم شعوره بالوحدة بعيدا عنها ، لكنه يريد أن تشعر بالراحة حتى تمر أيام الطمث دون معاناة ..
اعتراه فجأة رعب شديد .. حدق في الظلام والتفت إلى الباب حيث سمع حركة خفيفة .
- من هناك ؟.. سكينة ؟.. هل عدت ؟
لكن الباب فتح على مصراعيه محدثا دويا وهو يرتطم بالصوان ، واندفع نحوه شبح منفوش الشعر ، يعوي كالكلاب، وقد أشهر فأسا يلمع نصلها على ضوء الفناء الباهت ..




للكاتب المغربي : رشيد ميموني
بتاريخ : 13 - 03 - 2011