عرض مشاركة واحدة
قديم 05-11-2015, 08:00 AM
المشاركة 27
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
غَابرْيِّيلْ غَارْسِّيَا مَارْكِيزْ في فَضَاء الوَاقِعِيَّة السِّحْرِيَّة
محمّد محمّد خطّابي
may 10, 2015

غرناطة – «القدس العربي» يعالجُ كتاب «غابريّيل غارسّيا ماركيز في دائرة الواقعيّة السّحريّة»، الصّادر مؤخّراً للزّميل مصطفى الحمداوي، موضوعاً ساحراً مسحوراً، وهو «الواقعيىة السّحرية في أدب أمريكا اللاّتينية»، وبشكلٍ خاصّ عند صاحب «مئة سنة من العزلة» الذي مرّت ذكرى رحيله الأولى في 17 أبريل/نيسان الماضي2015، (أنظر مقالي حول هذا الموضوع في «القدس العربي» العدد 8080 بتاريخ 20 أبريل 2015)، لقد سبق لي أن زرتُ الضّيعةَ، أو القريةَ، وأخيراً المدينةَ الصّغيرة التي وُلِد وعاش وترعرع فيها ماركيز في كولومبيا (أراكاتاكا)، (حوالي 40000 نسمة) التابعة لإقليم «ماغدالينا» الكاريبي، التي أصبحتْ في ما بعد مَاكُونْدُو، في روايته الكبرى الآنفة الذكر، وذلك خلال عملي وإقامتي في هذا البلد الجميل، والتي أصبحت اليوم مشهورةً في مجموع بلدان أمريكا اللاتينية، وعلى الصعيد العالمي بفضل إبنها البار الذّائع الصّيت الذي تحوّل منزله (مسقط رأس الكاتب) فيها إلى متحفٍ دائم، وغدت أراكاتاكا بالتالي محجّاً جذّاباً يتقاطر عليه عشّاقُ الأدب، وإبداعات ماركيز على وجه الخصوص من كلّ حدب وصوب.
لقد راعني، وبهرني المجهود المحمود الذي بذله المؤلف في إخراج هذا الكتاب إلى النّور والظّهور. واستمتعتُ، وأنا أقرأ بعضَ أسْطُرِه التي تحاول أن تستكنه وتستبطن أغوارَ هذه الحركة الإبداعية السّحرية عند ماركيز، التي تنحدر من غياهب التّاريخ السّحيق لسكّان القارة الأمريكية الذين عشقوا الحريّة والحياة الكريمة، وهاموا بالطبيعة وتسربلوا بسحرها، فالواقعيّة السحريّة.. مشاعر وأحاسيس واستقراءات وحكايات وقصص وأساطير وأمثال مأثورة، وأقول سائرة وأشعار متواترة، وتراث متوارث وأحلام، وبعض أضغاث أحلام عاشها وحلّق في فضاءاتها الفسيحة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً السكّان الأصليــــّون لهذه القـــارّة في شقّها الجنوبي (السُّفْليِ) كما يحلو أن يطلق عليه أحدُ أساطينها الذي اختطفته يد المَنُون مؤخراً (13 أبريل 2015) وهو الكاتب الأروغوائي إدواردو غاليانو الذي أوليناه حقّه في كتابي «ذاكرة الحلم والوشم..».

رُولْفُو والواقعيّة السّحريّة

ظهر هذا الفنّ الإبداعي الجميل (الواقعية السّحرية) وتفتّق، وانبثق عند العديد من الكتّاب، والمبدعين في أمريكا اللاتينيّة الآخرين أمثال الكاتب المكسيكي المعروف خوان رولفو، الذي يُطلِق عليه بعضُ النقّاد (بأبي الواقعيّة السحريّة في أدب أمريكا اللاّتينية)، وميغيل أنخيل أستورياس وكارلوس مونسيفايس، وكارلوس فوينطيس وأوكتافيو باث، وأليخو كاربنتيير، وماريو برغاس يوسا، وخُورخي لويس بُورخيس، وخُوليو كُورتاثار، وإيرنيستو ساباتو، وألفارو مُوتيس، وإيسابيل أليندي، هذه الرّوائيّة التشيليّة التي خرجت من مِعطف ماركيز نفسه، وسواهم كثير.
يعتبر هذا الكتاب إرهاصاً مُبشّراً، وإعلاناً مبكّراً للتعرّف على كاتب فذّ، شقّ طريقه في عالم الأدب والكتابة، بعزيمةٍ وإرادةٍ، وروحٍ عصاميّة صلبة في متاهات دروبنا الحياتية الوعرة، وبين آجامٍها ومشاقّها، وأهوالها. يطبع هذا الكتاب لغة عذبة ومُيسّرة، وأسلوب مَرِحٌ مُريح، كتاب ينفذ إلى أعماقك، ويحرّك فيك مشاعرَك، ويُدغدغ لواعجَك، وفضولك، إنه يؤول بهذا الصّنف من الإبداع الفطري الجميل إلى ينابيعه الأولى الصّافية، لأنّ ديدنه هو محاولة استعادة تجسيم مفهوم الواقعية السّحرية لدى ماركيز، (الذي يعترف صراحةً لنا أنّه تلقّن بعض أسرار، ومكامن هذا الفنّ الإبداعي عند رولفو، وذلك عندما أهداه أحدُ أصدقائه الحميمييّن، وهو مواطنه الرّاحل الكاتب والشاعرالكولومبي ألفارو موتيس كتابيْ رولفو «بيدرو بارامو»، و»السّهل الملتهب» وقال له: «خُذْ تعلّم»..! الشّيء الذي جعل ماركيز يقول فيه، وعنه في ما بعد عن اقتناع شهادته التاريخية، والاعتراف له بقصب السّبق والتفوّق في هذا المجال :»ثلاثمئة صفحة من مجموع أعمال رولفو رفعته إلى مقام سوفوكليس»، كما ظهرت هذه الحركة لدى سواه من المبدعين من مواطنيه، وبني طينته، وأبناء جلدته في أمريكا اللاتينيّة وتقريبها من القارئ بشكلٍ خاص بعد الطفرة أو (البُّومْ) الأدبي الشّهير الذي عرفته هذه القارّة منذ النّصف الثاني من القرن المنصرم.

عناقُ الواقع بالأسطورة

ولكن ما هي في العُمق الواقعيّة السحريّة..؟! لكي تتّضح لنا صورة هذه النّزعة الأدبية بوضوح، دعنا نبحث، وننقّب عنها عند أحَدِ أبرز أقطابها، ومُبدعيها الكبار، وهو خوان رولفو نفسه، إذ يميّز الأدب الأمريكي اللاتيني طابع خاص، وهو ما يُطلق عليه بـ»الواقعية السّحرية» وهي ضربٌ من الأدب تظهر فيه الأحداث السّحرية الخيالية وسط أحداث واقعية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة.هذه النزعة عُرِف بها بالفعل خوان رولفو، والتصقت بأدبه، وإبداعاته على قلّتها قبل أن يشتهر بها غابرييل غارسيا ماركيز، إلاّ أنّه عندما سُئل ذات مرّة حول ما إذا كان هو مُخترع هذا التيّار الأدبي في أمريكا اللاتينية، وعن معناه، قال رولفو: «إنّ صاحب هذا التيار هو الكاتب الإيطالي ماسّيمو بونتيمبلي (القرن التاسع عشر)، وهو بمثابة مفتاح يعيننا على فهم، واستساغة أو استيعاب الأدب الإيبروأمريكي. ويعتقد رولفو رّغم تأكيده على أنه ليس من أنصار التعميم، أنّ هناك بعض الخصائص المشتركة في أدب القارة الأمريكية، خاصّة في البلدان التي كان فيها وجود مكثّف للسّكّان الأصليين. لهذه الظاهرة مبرّراتها التاريخية، فالجماعات السكّانية الأصلية في القارة الأمريكية تتّسم بهذه الخاصّية. إذ أنّ هناك صراعاً قائماً بين معتقداتها القديمة المتوارثة والمذهب الكاثوليكي، وهؤلاء السكّان لم يقعوا قطّ تحت تأثير هذا المذهب كليّا. فمعتقدهم القديم ما زال قائماً يتجلّى في مختلف طقوسهم الاجتماعية، وفي العديد من مظاهر حياتهم اليومية.

الواقع الرّائع

ويرى رولفو أنّ السِّحر عند الهنود هو نوع من السّلوك يقدّمون من خلاله نوعاً من التعبير عن الإذعان للطبيعة وقوّاها. والسّحر بالنسبة لهم كذلك استكناه للماضي وبحث عنه. إنّ هذا الحيّز أو المكان الذي يحتلّونه ويعيشون في كنفه لا وجود لشيء فيه سوى الماضي. فالهنود- مثل الفراعنة- يعتبرون الموت عودة إلى الأصل، وهذا ما يفسّرعدم خوف الهندي من الموت، وهذا أيضا سرّ احتفائه به في العديد من المناسبات، بل أنّ هناك يوماً في العام عندهم يُسمّى بيوم الموتى. وهكذا يتلقف الكاتب هذا العنصر القائم بين الواقع والسّحر، ومن هنا يستمدّ هذا التيّار اسمَه. ويضرب رولفو مثلاً بالكاتب الكوبي أليخو كاربنتيير الذي تالّق في هذا الجانب كذلك، فأوجد مصطلحا آخر في هذا الصدد وهو «الواقع الرّائع» إلاّ أنّ رولفو يوثر، ويفضّل مصطلح «الواقعية السّحرية»، نظراً لما يتضمّنه من عودة إلى ماضي السكّان الأصلييّن. فالأدب في أمريكا اللاتينية وثيق الصّلة، ولصيق بهذا المفهوم، إذ أنّ هذه الظاهرة غالباً ما تجد مواضيعها في الأسطورة، والخرافة، والتاريخ، والسّحر، والغيبيّات بمعانيها الواسعة الطقوسيّة، والجماليّة وفى الإستاطيقا، وينهلُ أصحابه من الينابيع الأولى لشعوب هذه القارّة .

مَا… وَمَنْ نحن؟

ويحاول أصحاب هذا الاتجّاه الإجابة عن التساؤل التالي: مَا… وَمَنْ نحن؟ (للعاقل ولغير العاقل)، فيشير خوان رولفو بخصوص أحد أبطاله في قصّته المعروفة «بيدرو بارامو» إلى أنّه دائمُ البّحث عن الماضي في « أناه» وفي جذوره السُلاليّة التي يجسّدها في طفولته التي تمثل أسعدَ سني عمره، وأرغدَ مراحل حياته.
وفي نظر رولفو فإنّ الحضارة الغربيّة على الرّغم من الضغوط التي مارستها على المواطن الهندي، فإنّها في الواقع لم يكن لها تأثير كبيرعلى السكّان الأصلييّن، فقد تركت هذه الحضارة الهندي في منتصف الطريق، ولم تفلح في المسعى الذي بدأته منذ خمسمئة عام ونيّف في طمس شخصيته، وتشويه صورته، وإتلاف تاريخه، وبعثرة عوائدة، وتقاليده، وعاداته، وإقامة قطيعة بينه وبين ماضيه.
الشّعور بفداحة الموقف، وتجسيم الجمال، والاستبطان الجوّاني عن طريق الحُلم بعيون غير مُغلقة، والتحليق في عوالمه الفسيحة، هذا الصّنف من الإبداع يدفع القارئ إلى التأمّل، وإعمال النظر، والعودة إلى الينابيع الأولى، والرّجوع إلى الجذور البعيدة والأحلام، وبقايا الأوشام التي تتراءى للنائم في ما يرى في أحلامه، تتغلغل في متاهات الماضي الغابر وثنايا الزّمن الذي ولّى، ومضى وانقضى، وذهب لحال سبيله، ولكنّ آثاره وتأثيراته، وانطباعاته ما زالت بادية للعيان، وما انفكّت باقية راسخة في مخادع القلوب وعالقة بين طيّات الألسن.
كتاب من هذا القبــــيل – على صغر حجمه- يتحتّم على القارئ أن يقـــرأه بلطفٍ وتأنٍّ ..عليك أن تحتال وأن تتحايل عليه، كلمات وحروف ومشاعرسحرية حالمة هائمة تحملك على راحتها، وتعانق الواقع المعاش قديماً، وتغوص بك في فضاءات أحلام أثيرية فسيحة لا تحدّها حدود، ولا تقيّدها قيود.

الدّائرة والفضاء

ولئن عتبتُ على صاحب الكتاب شيئاً، لقلت إنّ الذي استرعى انتباهي فيه بضربٍ من الشّدوه هو «عنوانه»، فالعنوان يعتبره غيرُ قليلٍ من الكتّاب والنقّاد من الأهميّة بمكان، إذ هو مفتاحَ الدّخول، أو كلمة السرّ في عالمنا العنكبوتي المتشابك المعاصر، أو عبارة «إفتح يا سمسم» في الحكاية الألفليليّة إيّاها المعروفة، أو مصباح ديوجين في حِلْكة الليل، لقد كانت أمنيتي أن يستبدل المؤلف كلمة (دائرة الواقعية السحريّة) التي توحي بالضّيق والانسداد والانغلاق والقيد والمحدودية والاستدارة بكلمة (فضاء الواقعية السّحريّة) التي تُوحي بفُسحة الأحلام والانفتاح والسّعة والتحليق والتفكير الطّلــــيق والإقلاع والسَّفَر والتّجوال والتّرحال، والانطلاق في ســـرمدية شساعة هذا الكون الأثيري اللاّمحدود، وفي طيّات التاريخ الحافل البعيد زماناً ومكاناً لأجداد أجداد أصحاب هذا الصّنف من الأدب الإبداعي السّحري الجميل، الذين لم يستعملوا، ولم يعرفوا لا في تاريخهم، ولا في ثقافتهم، ولا في حضارتهم (لاعند المايا، ولا الأزتيك، ولا الإنكا، ولا المُوشيك..) «العَجَلَة « قطّ سوى «عجلة» التقويم أو حَجَر الشّمس لحساب الزّمن، أو «الدوائر» الهندسية، والمعمارية، والمصوغات الذهبيّة .
ويحضرني وأنا على مشارف الصّفحة الأخيرة من هذا الكتاب التعبير البليغ، والتعريف الرّائع الذي سُقته، واستعملته في العديد من المناسبات عند تعرّضي لهذا الموضوع في آداب أمريكا اللاّتينية، والذي قاله ذات يوم قُطْبٌ من أقطاب الواقعيّة السّحريّة في القارّة الأمريكية كذلك، وهو الكاتب الأرجنتيني المعروف صاحب كتاب (الألف) أولى الحروف العربيّة الذي وضعه عنواناً جميلاً لأوّل مُؤلَّفٍ له، ولفاتحة باكورة أعماله، إنه المبدع ذُو الرّأي الثاقب والأدب البديع والبّصيرة النافذة خورخي لويس بورخيس، عندما قال: «الواقعيّة السّحريّة هي أن تحلم ذات ليلةٍ أنّك كنتَ تتجوّل في حديقةٍ غنّاء… وعندما تستيقظ في الصّباح تجد في يدك وردة…» .

محمّد محمّد خطّابي