عرض مشاركة واحدة
قديم 05-02-2014, 06:46 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
عندما تُصبح العُزلة ثمنَ الشّهرة
وداعاً غابرييل غارسّيا ماركيز
محمّد محمّد الخطّابي '
may 1, 2014
عن القدس الغربي

بعد احتفاله بعيد ميلاده السّابع والثمانين، في بلد إقامته المكسيك، غيّب الحمام يوم الخميس 17 نيسان (ابريل) الجاري(2014) ‘غابرييل غارسيا ماركيز′ أحد أكبر الرّوائيين في القرن العشرين، الحاصد أو الحاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب عام 1982 ، كان صاحب الأعمال الإبداعية الرّوائية الكبرى في العالم الناطق باللغة الإسبانية، والآداب العالمية، مثل ‘مائة سنة من العزلة’ التي قال عنها بابلو نيرودا أنها من أعظم الروايات التي كتبت في اللغة الإسبانية بعد ‘دون كيخوته دي لا مانشا’ لمغيل دي سيرفانتيس، و’الحبّ في زمن الكوليرا’ والكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ ‘ويوميات موت معلن’، و’الجنرال في متاهته’، و’خريف البطريرك’ وسواها من الأعمال الإبداعية العديدة في مختلف المضامين، والمجالات الأدبية الأخرى.
ولد ماركيز في ‘أراكاتاكا’ في 6 مارس 1927 التي كانت ضيعة، أو قرية مغمورة في الكرايب الكولومبي، والتي تحوّلت في روايته الشهيرة ‘مائة سنة من العزلة’ إلى ‘ماكوندو’، حيث تترعرع، وتتعايش، وتتآخى ،وتتعانق الحقيقة، والخيال، والأسطورة، والخرافة، والأحلام، والرّغبة، والتطلّع، لقد فتحت آداب ماركيز الباب على مصراعيها للإبداعات الأدبية في أساليب جديدة مبتكرة، كان كذلك من أبرز وأهمّ كتّاب ‘البّوم’ الأدبي الشهير للرّواية الإسبانية- الأمريكية في العالم أجمع،ومن أشهر كتّاب موجة ‘ الواقعية السّحرية ‘في الآداب الأمريكية اللاتينية ،التي إنتشرت وإشتهرت منذ السبعينيات من القرن المنصرم .
من سار على الدّرب وصل
كان ماركيز يوقّع كتاباته الأولى وهو بعد غضّ الإهاب، طريّ العود في المعهد الذي كان يتابع فيه دراسته، باسم مستعار وهو ‘خبيير غارسيس′ ولم يكتب بإسمه الصّريح حتى عام 1947 عندما إلتحق بالجامعة الوطنية ببوغوتا لدراسة الحقوق، حيث طفق يكتب- بمساعدة صديق عمره، ورفيق دربه في الإبداع الكاتب الكولومبي الكبيرالرّاحل ألفارو موتيس – في جرائد ‘الأونيفرسال’ و’الهيرالدو’ وأخيرا ‘الإسبكتادور’، ثمّ تمّ إيفاده عام 1955 كمراسل من طرف هذه الصحيفة إلى أوربا، وبشكل خاص إلى جنيف، وروما، ثمّ أخيرا إلى باريس حيث بدأت تتفتّح له أبواب الشّهرة والمجد الأدبيين.
وبعد إنتصار الثورة الكوبية عام 1959 إنتقل غارسيا ماركيز إلى ‘لاهافانا’، حيث بدأت ميولاته اليسارية تتفتّق، وأقام صداقة متينة منذ ذلك الإبّان مع قائد الثورة الكوبية فيديل كاسترو، ولقد إستمرّت هذه الصداقة لسنوات طويلة جدّا،وفي عام 1961 ثمّ إيفاده إلى نيويورك مبعوثا من طرف ‘الوكالة اللاتينية للصّحافة’، وفي هذه التواريخ بدأ كتابة روايته المعروفة ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’، ثمّ سرعان ما عاد أدراجه إلى المكسيك وهو البلد الذي سيصبح مكان إقامته الثانية بعد بلده كولومبيا، وفي المكسيك كان يكتب سيناريوهات للسينما إلى جانب الرّوائي المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس، ومن أشهر الأفلام التي أعدّها ماركيز للفنّ السابع فيلم ‘الدّيك الذّهبي’ عن قصّة للكاتب المكسيكي المعروف خوان رولفو. ثم طفق بعد ذلك في نشر فصلات ،أو أجزاء مستقلّة من عمله الإبداعي الروائي الكبير الذائع الصّيت ‘مائة سنة من العزلة’ في كلّ من بوغوتا، وليما، وباريس، وقد ظهرت الطبعة الأولى من هذه الرواية في ‘بوينس أيريس′ بالأرجنتين، والتي حققت له نجاحا أدبيا باهرا وسريعا، ثمّ إنتقل ماركيز للإقامة في مدينة برشلونة إلى غاية 1975. وبعد هذا التاريخ عاد إلى المكسيك، وصار يقاسم اقامته بين العاصمة الأزتيكية، وبين مدينة ‘كارتاخينا دي إندياس′ الكولومبية، والعواصم الأوربية، وفي مختلف بلدان أمريكا اللاتينية.
إعترف غابرييل غارسّيا ماركيز بأنّ شهرته الأدبية لم تكن نتيجة الأعمال الكلاسيكية الكبرى التي كتبها، وإنما جاءته هذه الشّهرة عن طريق الأغاني الشعبية المنتشرة في البّحر الكاريبي، وهي عبارة عن قصص مغّناة مصحوبة بالطنبور والأكورديون، تتحدّث عن البطولات، والمغامرات، والإنتفاضات، والنكبات، والفواجع التي عرفتها شعوب المنطقة التي ينتمي إليها،التي كانت على الدّوام ملتهبة بالأحداث والتطوّرات، والتقلّبات والتي كان لها تأثير كبير على حياته وكتاباته .
ويقول ماركيز عن روايته ‘مائة سنة من العزلة’ التي حصل بها على جائزة نوبل في الآداب عام 1982، إنّه على الرّغم من التقريظ والإطراء اللذين حظيت بهما هذه الرواية، إلاّ أنّ كتبه الأخرى خير منها، وكان هذا التصريح في الواقع مناورة من ماركيز لتوجّيه عناية وإهتمام القرّاء والنقّاد إلى بقية أعماله الأدبية الأخرى، كمّا أنّه كان تعبيرا عن طموحاته، وتطلّعاته إلى مواصلة طريق النجاح، والشّهرة الواسعة التي أصبح يرفل في أثوابها.
وقال ماركيز إنّ رواية ‘مائة سنة من العزلة’ قد تحوّلت إلى حاجز، أو نقطة إنطلاق، أو شهادة أساسية بالنسبة لباقي إبداعاته الأخرى، وهو لم يكن بودّه أن يحدث هذا، إذ بالنسبة إليه، فإنّ أحسن كتبه وأقربها إلى نفسه هو ‘الكولونيل ليس لديه من يكاتبه’ ..!.

البدايات والمؤثّرات
وحول تأثيراته الأدبية يقول ماركيز: ‘إنّ الرّوايات التي تروى في سواحل كولومبيا الكاريبية لها نظرة خاصّة ومباشرة للواقع، وهذاهوأكبر منهل إغترفت منه ويظهر تأثيره جليّا في معظم كتبي’. وأشار أنّ أولى قراءاته الجادّة كانت في معهد مدينة ‘سيباكيرا’ (تبعد عن العاصمة بوغوتا بحوالي خمسين كيلومترا والتي توجد بها أكبر كاتدرائية للملح في العالم وهي من أهمّ المعالم السياحية الغريبة في كولومبيا اليوم) حيث تابع دراسته حتى مستوى الباكالوريا، وأنه قرأ في أوقات الفراغ كلّ الكتب التي كانت موجودة في مكتبة هذا المعهد، حيث إعتكف وإكتشف ‘ويليام فولكنر’، و’فيرجينيا وولف’ و’إرنست هيمينغواي’، إلى جانب العديد من الكتّاب الآخرين الكبار من مختلف الجنسيات والثقافات، ومن الكتب التي قرأها ويذكرها جيّدا في هذا المعهد ‘ألف ليلة وليلة’ حيث كان لهذا الكتاب تأثير كبيرعليه كذلك، ظهر بشكل واضح في روايته ‘مائة سنة من العزلة’ حسب بعض الدارسين.

كتاب أمريكا اللاتينية
هذه الرّواية، قال عنها الكاتب المكسيكي الكبير الرّاحل كارلوس فوينتيس أنّه في عام 1965عندما وصلته نسخة من الصّفحات الأولى منها وهو في باريس، جلس دون تفكير وكتب: (لقد قرأت كتاب أمريكا اللاتينية). إنّها تبدو للقارئ، وكأنّها رواية مغامرات، حيث تمتزج فيها البطولة بالأسطورة. كما أنّها تبدو للقارئ غير النابه وكأنّها قصص ألف ليلة وليلة في صيغتها الأمريكية التي تلخّص تاريخ أمريكا اللاتينية منذ إستقلالها إلى الوقت الحاضر.هذه اللعبة التي تتطلب بعد التراجع والتقهقر غيرالمعلن عنهما في النصّ تشير إلى هذه القارّة في بعض عهودها الغابرة، وهكذا نجد تكهّنات تشحذ الخيال حول العصر الوسيط، وعصر النهضة وقرن أوعصر الأضواء، ويشطّ أو يشطح ‘ماركيز′ بخياله، في إحدى شخصوص الرّواية وهو ‘مكياديس′ العالم الكيماوي، ولقد إعترف ماركيز أنه قد إستوحى هذه الشخصية من قارئ الطالع والمتنبّئ الفرنسي الشهير والمثير ‘ميشيل دي نوسترداموس′ وهو كذلك رجل النهضة المدافع عن حقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، ربما لذلك يموت مرّتين، ويحتمل أن يولد من جديد ليدلّنا ويرشدنا كيف ستجد ‘ماكوندو’أو ‘أراكاتاكا’ (أي أمريكا اللاتينية) منفذا أو مخرجا من الموت الذي يحكم به عليها ظاهريا ماركيز في نهاية الرّواية. فمائة سنة من العزلة تبتدئ بتقديم ماكوندو كأرض بور تدعو الرجال في المنطقة لإستيطانها ،وتنتهي كذلك كما بدأت بدعوة جديدة للمهاجرين الجدد الذين سوف ينزلون لأسباب عدّة من الجبال مثل المرّات السابقة لإستيطان القرية ومنحها قوانين أكثر عدالة وأقلّ فسادا. من جهة أخرى ‘مكياديس′ يمكن أن يموت ويولد لأنّه يقطن ويسكن أوّلا وأخيرا في القارة الأمريكية ،حتى وإن كان يجرى في عروقه الدم الأجنبي ،إنه لا يفرق أو يميّز الحدود الفاصلة بين الحياة والموت في هذه المنطقة، أيّ في أمريكا التي لا يموت شيء فيها موتا تامّا أو كاملا أو نهائيا، كما أنّه لا يولد أيّ شيء فيها بالتمام أو في شكله النهائي.
بعد النجاح الباهر الذي حققته هذه الرواية، فإنّ ماركيز يرجع نجاحه الأدبي إلى أنه يتمتّع منذ البداية بنظرة واضحة، وهي أنّ عالمية الأدب تكمن في قدرة الكاتب على رؤيته، ونقل وتصوير العالم الداخلي الخفيّ للكاتب نفسه، ويقول: ‘إنّ الوسيلة الوحيدة ليصبح المرء كاتبا عالميا هو أن يكتب عن قريته الصغيرة’. ويتّفق ماركيز في هذا مع القاصّ المكسيكي المعروف ‘خوان رولفو’ ومع الفنان المكسيكي الكبير ‘روفينو طامايو’، ومع يحيى حقّي، وتوفيق الحكيم، والطيّب صالح، وغسّان كنفاني، ومحمد شكري وسواهم من كبار الكتّاب الآخرين.
ويؤكّد ماركيز أنه عندما أدرك الشهرة الواسعة أصبح يشعر بالعزلة، لأنّ الإنسان لا يمكنه أن يعرف ماذا وكيف يفكّر الآخرون حوله. وقال صاحب ‘مائة سنة من العزلة’ أنّه كان يشعر بالعزلة أكثر من أيّ وقت مضى، فالشّهرة في رأيه يمكنها أن تكون رائعة لو كانت مثل صدرية يمكن للمرء أن يخلعها عنه متى شاء، ويعود لأرتدائها متى شاء، وإلاّ فإنّها تصبح شيئا مضنيا ومتعبا للإنسان عليه حمله 24 ساعة متوالية في اليوم. وقال ماركيز أنّ أخطر ما يمكن أن يجنيه الإنسان من الشّهرة هو الهجوم، والمضايقات التي يتعرّض لها ضدّ حياته الحميمية الخاصّة بإلحاح متواصل ومتثاقل حتى أمسى أمرا لا يطاق لدى بعض الكتّاب والمشاهير، ويغدو ثمنها في الأخير العزلة القاتلة.

ذكريات مضيئة
وعن أيام طفولته وشبابه يقول ماركيز، إنّ أحلى وأجمل وأسعد سني عمره كانت خلال طور الدّراسة . وهو يتذكّر في هذا القبيل رحلة قام بها على ظهر مركب عبر نهر ‘ماغدالينا ‘، ثم في قطار قديم نحو ‘بوغوتا’ ليجتاز اختبار الحصول على منحة دراسية، كان عمره آنذاك 13 سنة فدنا منه رجل وطلب منه كتابة قطعة شعرية لإهدائها لخطيبته كان ماركيز قد غنّاها مع مجموعة من الطلبة ‘السّواحلييّن’ (نسبة للقاطنين على السّاحل الكولومبي) المتّجهين كذلك مثله إلى العاصمة بوغوتا بحثا عن منح دراسية، وتابع ماركيزحديثه قائلا: ‘بعد مرور أيام على هذا الحدث رآه الرجل نفسه الذي كان قد طلب منه على متن القطارالقطعة الشعرية إيّاها ،وهو واقف في طابور طويل أمام مبنى وزارة التربية والتعليم في بوغوتا تحت شمس حارّة وحارقة ليتقدّم لامتحان الحصول على منحة دراسيّة، فسأله: أنت، ماذا تفعل هنا..؟ وحينما ذكر له السّبب قال له الرجل: دع عنك هذا وتعال معي، فقد كان هو المدير العام للمنح بالوزارة. وهكذا خصّه بمنحة على الفور لمتابعة دراسته في معهد ‘سيباكيرا’ الآنف الذكر، وقد شكّل ذلك أولى خطواته في درب الصّحافة والأدب والشّهرة الواسعة.

غابو: إرث وطني
في عام 1999 أصيب ماركيز بسرطان لمفاوي سرعان ما تجاوزه وشفي منه، وفي عام 2001 فقد أخا له يدعى ‘غابرييا إليخيو ماركيز′ الذى حزن عليه حزنا شديدا، كان وقتئذ بصدد إعداد مشاريع أدبية لكتابة العديد من الكتب بعد ‘مذكراته’ أو ‘سيرته الذاتية’ التي نشرها عام 2002 تحت عنوان ‘أعيش لأروى’، والتي كان قد حقق بها مبيعات ضخمة في العالم الناطق باللغة الإسبانية وخارجه. ولكنّه ظل صامتا لم يعرف عنه شيء طوال هذه السنين حتى بلغ الخامسة والثمانين من عمره في مارس من عام 2012، حيث نشرت العديد من الصّحف والمجلات في مختلف بلدان العالم صوره وهو في المكسيك مع زوجته، وأقربائه،وأحبّائه، وخلاّنه، وأصدقائه، وذويه، في هذا البلد الأزتيكي الذي عاش فيه ماركيز أكبر قسط من حياته، كالعديد من الكتّاب الآخرين من مختلف بلدان أمريكا اللاتينية مثل بلديّه وابن جلدته ‘ألفارو موتيس′، و’أغوستو مونتيرّوسو’، و’إدواردو غاليانو’، و’فرناندو فاييّخو ‘وسواهم وهم كثير . يقول عنه أحد أصدقائه المقرّبين وهو الكاتب الكولومبي ‘بلينيو أبوليّيو ميندوسا’: ‘كان غابرييل غارسيا ماركيز هوّ ذاته، ولكنّه لم يكن غابو المعهود (لقبه من باب التلطيف بين أصدقائه) الذي يعرفه الجميع،كان يبدو كما لو كان غائبا عن المكان، كان قد فقد تلك الشرارة المتّقدة، والشّعاع اللاّمع الذي كان يتلألا في عينيه باستمرار.
كان ‘غابو’ يبدو غريبا غير عادي، وأضحى الحديث عنه في بلده كولومبيا يكاد أن يكون محظورا أو محرّما، فهو يعتبر إرثا وطنيا لا يمكن لمسه أو الدنوّ منه’..!. (أنظرالمقالات الثلاث التي نشرت لي مؤخرا في ‘القدس العربي’ حول هذا الكاتب الكبير وهي:’مائة سنة من العزلة: يوميات قرية أسطورية’ عدد 7369 بتاريخ 27 شباط (فبراير) 3013 . و’غابو ..صحافيا’ عدد 7384 بتاريخ 16-17 آذار (مارس) 2013. و’ماركيز هل فقد ذاكرته..؟ عدد7153 بتاريخ 14 حزيران (يونيو) 2013).
‘ كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوتا- (كولومبيا).