عرض مشاركة واحدة
قديم 12-15-2013, 02:41 PM
المشاركة 1068
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع ....العناصر التي صنعت الروعة في رواية رقم 40 "سلطانه" لكاتبها غالب هلسا - الاردن.
- منذ بدايةالرواية, نتعرف على بيت سلطانة في القرية بوصفه بيت <<الحوارنة>>, وذلكعندما تعود <<أميرة>> ابنة سلطانة التي تعمل خادمة في أحد بيوت عمان, حيث سافر مخدوموها إلى رام الله لقضاء الصيف. وإذ تعود الصبية وهي تجر معها كلبا لايأكل سوى اللحم, فإنها تثير حفيظة أهل القرية الذين لا يجد كثيرون منهم الخبز, بلإن والدها نفسه يقول لها <<يا ست أميرة, إحنا مش لاقيين الخبز, نقوم نطعمالكلب لحمة،لكن الوالد هنا ذو شخصية هزيلة أمام الشخصية الطاغية لزوجتهسلطانة وابنته أميرة, التي هي بالتأكيد ابنة سلطانة, لكن لا شيء يؤكد أنها ابنته هوأيضا , فسلطانة عاشت- منذ طفولتها- ألوانا من الحرية وصلت حد الانفلات. وهي امرأةخارجة على قوانين المجتمع, لا تخضع سوى لقوانين حريتها الداخلية.
- نتوقف عندنشأة سلطانة, ابنة صاحب بقالة, أمها هي المرأة الجميلة الشرسة الشهوانية المثيرةلرجال القرية, والتي تدير شؤون البقالة بنفسها, وتتعاون مع سائق شاحنة سيصبح مالكالها فيما بعد.
- في بيئة كهذه, وفي قرية ذات مواضعات وتقاليد اجتماعية راسخة, نرىالطفلة سلطانة تلعب بين أولاد من جيلها, أو أكبر قليلا , في مكان يدعى <<الهربج>>, وتشارك في صيد العصافير وممارسة الطقوس الجنسية, وحينيحاول بعضهم الاعتداء على أنوثتها تتصدى لأكبرهم وتهينه في ذكورته, ثم تبدأ علاقةمع الخوري صليبا, زير النساء الذي لا يرتوي.
- لكن هذا كان في طفولتها, وقبل أن تكتشفإمكانات توظيف جسدها وأنوثتها وجمالها, وأصبحت- كما يقول جريس بحسرة وألم العاشقالبعيد زمانا ومكانا عن معشوقته- مومسا تعرف كيف <<تبيع جسدها لتثري>> ولتغدو صاحبة تجارة مزدهرة.
- كان بيت سلطانة في القرية متميزا عن بيوتالقرية, بفخامته وأثاثه, بما يوحي ببعض ملامح شخصيتها, لكن انتقالها إلى عمّانسيوضح لنا المزيد من هذه الملامح, كما سيضع أمامنا عالم المدينة الذي انتقل إليهجريس. ففي عمان, حيث مدرسة المطران التي يدرس جريس ويقيم فيها, وحيث بيت سلطانة فيجبل اللويبدة, الأرقى في عمّان الأربعينيات, تتكشف لنا عوالم المدينة الصغيرة, فنرىجوانب من الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية فيها.
- صورةعمّان من أواخر الأربعينات إلى مطلع الخمسينيات, هي صورة مدينة صغيرة لكنها تعيش- كما يبدو- حياة تحظى بقدر من الحرية والتنوع. فعلى صعيد الحياة السياسية يشتبك جريسومجموعة من أصدقائه بنمط من الحياة الحزبية, يتداولون النشرات في اجتماعات شبهسرية, ويسهرون في ناد ثقافي يحشد الحزبيين والمثقفين من تيارات متصارعة. ومن خلالالعلاقات الحزبية والعمل السياسي, تتكشف تفاصيل كثيرة, بعضها ذو طابع سياسي بحت, وبعضها الآخر ذو سمة اجتماعية أو ثقافية. لكن الرابط بين هذه العناصر قوي جدا , بحكم أن شخصية جريس تجمع هذه الأمور كلها وتشكل محورها.
- بعد انتهاء دراسةجريس في عمّان, وعودته إلى القرية, يكتشف أن الكثير قد تغير, وأن الناس لم يعودوايفكرون إلا في النقود وفتح دكان في عمّان أو.. فتقول له أمه إن الدنيا كلها قدتغيرت <<فالناس كثرت والطلبات كثرت. أيام زمان كان الناس قلائل وكل شيء بسعرالتراب..كان الناس يجتمعون في مضافة العماشنة وتدور الأحاديث الحلوة عند العصر. كانالشباب يركبون الخيول ويتسابقون والبنات يزغردن للفائز..>>. وفي مقطع آخر منالرواية, حين يكون جريس مع عزة في القاهرة, ينفجر في داخله صوت يقول له <<الأردن التي تحلم بها لم تعد موجودة حتى حين كنت فيها>>.
- هذاالتغير يحظى من الراوي بنصيب كبير من السرد, فهو يفسر ويحلل, من خلال شخصية سلطانةوشركائها, الكثير من الوقائع.
- ويهمنا هنا أن نركز على عاملين يعتقد الراوي أنهماكانا وراء التحول: الأول يتمثل في دخول التجارة كعنصر جديد إلى نمط الإنتاج, حتى أنالزراعة أصبحت خاضعة للتجارة, فاضطر الفلاحون إلى بيع أراضيهم المرهونة للتجار حينلم يستطيعوا سداد ديونهم. والعامل الثاني هو التهريب مع فلسطين قبل نكبة 1948, ومعإسرائيل بعد قيامها. فقد وجد الكثيرون في تهريب القمح والعدس والشعير, إلى فلسطين, عبر الشريعة (نهر الأردن), والعودة من هناك بالزيت والتين المجفف, (وفيما بعد راحوايهربون الخراف والبقر والدجاج, وفي مرحلة تالية سيبدأ تهريب الماس وسواه منالمعادن) مصدرا لجمع الثروات, خصوصا بعد قيام دولة إسرائيل, حيث الإسرائيليونيدفعون أضعاف الثمن الذي يدفع لمثل هذه البضاعة في الأردن.
- أما دور سلطانة في هذاالعمل, فيتضح في حديث جريس عن التحولات التي كانت تجري في الأردن قبل خروجه منه, وذلك حين يصف سلطانة بأنها <<متعاملة مع إسرائيل, ومهربة حشيش>>. وهناكإشارات إلى شخصيات عالية المستوى في الحكم ممن يشاركون سلطانة في هذاالعمل.
- وعلى صعيد الحياة السياسية, ثمة نماذج لحزبيين شيوعيين, وآخرين بلاملامح محددة. فالشيوعيون هم الأشد حضورا هنا, وهم يحضرون عبر علاقتهم بجريس, ومنهمالطالب والمعلم ومنهم الموظف الكبير في وزارة الخارجية.
- أما نضالهم فلا نرى له أثرافي الرواية, بل نجد اجتماعات ونقاشات. لكننا نعثر على نمط من <<النضال>> يتمثل في محاولة موسى (أحد قادة الحزب) إقناع جريس بزيارةنائب في البرلمان, للتفاهم معه على كيفية تخليصه من قصته مع <<أميرة>> ابنة, بحكم قرابته مع عشيرتها كما يظن القائد الحزبي, فأميرة ادعت أن النائب قداغتصبها. وتأتي محاولة موسى للتدخل مقابل خدمة سيقدمها النائب للحزب, فهم يطلبونمنه أن يثير في البرلمان ملف قضية من القضايا التي تهم البلد (قضية من قضاياالتهريب). لكن جريس يذهب مع موسى ويسهران ويشربان مع النائب, ثم يسخر من شربالويسكي في مكتب النائب, ويعلن بعدها تخليه عن التدخل, يقول لنفسه <<يدعونيالنائب لأسهر في مكتبه الباذخ.. يستعمل ستار الوطنية لأساعده في التنصل من اغتصابفتاة قاصر. يجب أن يعلم أنني لم أنخدع.. أنا وموسى لنا لعبتنا.. شو دخل الحزب ليحميجريمة>>.
- في هذا السياق نذكر أن مناضلا (هو طعمة) مطرودا من الحزببتهمة العمالة لضباط في المباحث المصرية (كانوا أعضاء في الحركة التقدمية للتحررالوطني), هو الذي قدم أميرة للنائب ليكسب رضاه. وهذا يعني أن الحزب الذي طرد طعمةدون محاكمة عادلة, وأشاع عن علاقته بالأجهزة الأمنية, ما دفعه إلى الانحراف.. يخضعهنا لمحاكمة جريس ونقده.
- نشير أيضا , إلى الجنس والدعارة, فبعد أن كان الجنسعبارة عن ممارسات قائمة على اللعب والعاطفة, في صور فردية, ها هو يصبح له مؤسسةوسماسرة ومراكز لتقديم هذه الخدمة- البضاعة.. فيذهب إليه الرفاق الحزبيون الذين- يبدو أن- لا بديل أمامهم لتفريغ طاقاتهم المكبوتة سوى هذا السبيل, فنراهم في شوارعالعاصمة وأزقتها يتسكعون وينتظرون لحظة حضور <<القواد>> الذي كثيرا ماكان يعترضهم ويعرض عليهم خدماته, وها هم في أحد الأحياء البائسة, وسط العتمة, يغوصونفي وحل وروائح حيوانات وسواها, ليصلوا إلى نساء بلا جمال, سمينات ومرهقات ويبدوعليهن الشقاء أكثر مما يبدو عليهن طابع المهنة. والرحلة هذه, في سريتها, تشبه رحلة في عالم الثورة السري حيث المخاطر قائمة في كل لحظة.
- وفي ارتباط وثيق مع مفاصل الحياة السياسية, نكشف عن لقطات سريعة لجوانب من الحياة الثقافية, عبر وجودشخصيتين لمبدعين هما شاعر وقاص في الحزب. كما تأتي قراءات جريس المتنوعة التي تدلعلى وجود الكتب والصحف والمجلات, وهذا ما يشير إليه غالب هلسا نفسه في كتاباتهالنثرية. ففي مدرسة المطران يمكننا أن نعثر على مشاهد متعددة لجريس وهو يقرأ أويكتب في مجلة المدرسة. وقد عثرنا فعلا على كتابات مختلفة له في المجلة الموجودة فيأرشيف المدرسة, من هذه الكتابات مقالة وقصة قصيرة.
نستطيع أن نذكر هنا, أن في الإمكان العثور على الطفل وديع, في رواية غالب القصيرة <<وديع والقديسة ميلادة..>>, في لحظة قراءة, وهي لحظة تتعلق بقراءة الصحيفة التي نشرت خبر الطفلة المقدسة <<ميلادة>>. أو بقراءة الكتاب المقدس لوالديه. وثمة إشارة متكررة, في <<سلطانة>> كما في <<وديع..>> وفي كتاب <<أدباء علموني إلى وجود المكتبة في بيت الأخ الأكبر الأستاذ إلياس. وهذا واحد من معالم حياة ثقافية ما.