عرض مشاركة واحدة
قديم 07-12-2013, 03:33 PM
المشاركة 16
صفاء الأحمد
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
رحلة خاطفة مع الزمان / ياسر علي .

أيها الزمان من أنت ؟ من أين لك بهذه القدرة على الاستمرار ، من أين تغذي شجاعتك وبسالتك ، لعل الشعراء أساؤوا إليك مدحا وهجاء ، لعل المتكلمين جاحدوا أفضالك ، لعل الفلاسفة استكشفوا بعضا من عوالمك ، و قد يسافر عبرك العلماء ماضيا و مستقبلا ، لست من هؤلاء جميعهم ، ولن أتقول عنك كما يفعلون ، أنا أريد منك الخبر اليقين ، كاتبني إن تمنع عليك لقائي ، هاتفني إن استعصت عليك الحروف ، سمعت هاتفي يرن ، أحسست قشعريرة تسري في بدني وهاتفي يزداد رنينه ، ماذا يجري ؟ أنا متيقن أني أطفأته و كتمت فيه الأنفاس استعدادا للنوم ، ربما يكون معطلا ، أسرعت نحوه ، تخبرني شاشته عن دعوة حضور موعد هام عند الدوحة العظيمة مع طلوع النهار . أذهلني ما قرأت ، وما رأيت ، تسرب إلى نفسي شك عن سلامة عقلي وكياني ، فركت عيني ، عالجت عمليات حسابية ، فسرت ألغازا ، ما هذا ، استنفرت تجاربي وخبراتي ، بحثت في ذاكرتي استحضرت كل الحكايات القديمة والجديدة ، كلما اقتربت من الحل أجدني أجانب الصواب ، لم يستطع النوم استيطان عالمي ، قمت من جديد إلى هاتفي وجدت الرسالة لا تزال هناك رغم أني رميتها في سلة المهملات بمجرد قراءتها ، ازداد قلقي توثرا ، و عادت كل الهواجس تهز كياني ، شربت كوب ماء بعد أن حليته بقطعة سكر ، فاسترددت بعضا من يقظتي و ذكائي ، هذا أنت يا حسام ، هذه فعالك وأنت الخبير بخبايا التقنية و عالم الأجهزة الإلكترونية ، أنا لك يا صديقي المشاكس تختبر مدى شجاعتي ، وقدرتي على الإقدام ، سأكون هناك قبل مطلع الفجر .
أسير ورجلاي مثقلتان بالسهر ، أحيانا أحس حيوية الفضول والرغبة في الفوز على حسام ، وأحاول أن أجد طريقة أرهبه بها ، أبني له فخا هناك ، عليه أن يدفع ثمن هذه اللعبة ، سأجعل منه أضحوكة أمام أصدقائي ، عليه أن يتعلم أن المزاح له حدود ، نسي ذكائي وفطنتي ، نسي أني دائما أهزمه في كل الألعاب وفي كل الحروب الثنائية نسي أنه هو من لقبني بالمحتال ، سأجعلك تندم ، ستندم لا محالة ، ظننته استسلم منذ سنوات ، لكنه يعود إلى من جديد إلى حيله الصفراء ، كلما اقتربت من الدوحة العظيمة ارتعشت ساقاي ، أصبحت الآن تبدو جليا رغم غبش الصباح ، والظلام لا يزال ينازع سهام النور ، جذعها الضخم ، أغصانها الممتدة في كل الاتجاهات ، أوراقها الكثيفة ، كومة آدمية متقرفصة بلونيها الأبيض والوردي ، متقرفصة على قدم الشجرة و قد دفنت وجهها بين فخديها وتدلى شعرها الناعم على ركبتيها ، خلتني أعرف هذا القوام ، ما إن وصلت حتى تنفس الصباح وأضاء بنوره ولاح ، تشجعت وبدأتها بالتحية ، رفعت رأسها فظهر وجهها الجميل و نظرتها الباردة و هي تقول : " إذن أتيت " فتمتمت مرتبكا : " هذه أنت ، ألم ... كيف حضرت ... لا أعرف ماذا أقول ... مرحبا بك حبيبتي ، حسنا فعلت ، أنت لا تزالين جميلة ، فقط هذه النظرة الباردة تعلمين أني لا أحبها ....أنت تعرفين ذلك ، تذكرني بمرارة ذلك اليوم ، يوم غضبت عليك أنت تسامحيني أليس كذلك .... ما أتعس ذلك اليوم ، لا أحبه ظننت أني لن أراك بعده أبدا .. مضى وقت طويل ، عشر سنوات .... لكن ما أحلى صيفك يا عائشة تذكرين يوم جئت في القطار إنه أسعد يوم في حياتي ما أجمل الذكريات ، أمضينا معا أوقاتا جميلة يا لصعوبة الزمان ، لا يستقر على حال .
ـ أنا الزمان ، يا من طلب لقائي.
ـ ماذا الزمان ، الزمان ، أتريدينني أن أكذب عيناي وأذناي .، ماذا أصابك يا عائشة ؟
ـ أنا الزمان جئتك في صورة عائشة التي تركتها ، فلا تكثر من هذا الحديث الممل ، دعوتني فاستجبت ماذا تريد مني ؟
ـ خلتك ذكرا فوجدتك أنثى .
ـ أنا الزمان و فقط .
ـ أريد أن أعرفك عن قرب ، من تكون ؟ أين تسكن ؟ كيف تعيش ؟ هل تموت ؟ هل لك أصدقاء ؟
ـ أسئلة بشرية ، يا لقصور عقولكم .
ـ أنت تعلمين أنني مجرد بشري ، إن كنت لا تريدين التجاوب معي فلم جئت .
ـ جئت لتصاحبني في رحلة و لك أن تختار واحدا من هذه الخيارات ، إما الماضي أو الحاضر ، أو المستقبل .
ـ أما الماضي فهو ميت ولا يعود ، وقد كتب عنه المؤرخون ما يكفي ويزيد ، وتدل عليه كل الآثار و نحن امتداد له ، أما المستقبل فلا أحب أن أكون تعيسا أعيش منتظرا أفراحه وآلامه ، أريد أن أعيش حاضري بكل تجلياته .

نظرت إلى الزمان فوجدته ليس أكثر من عائشة ، لم تعد عائشة لمجرد أن نعيش لحظة ونفترق ، لم تتحمل كل تلك الصعاب لمجرد أن تشاركني رحلة استكشاف بائسة ، لعودتها أمر عظيم ، انقلاب على المألوف ، طفرة جديدة في الكون ، تصحيح المسارات ، التغلب على الصعاب ، قهر الموت و معانقة الكمال ، أليست هذه بغية كل العلوم ، قامت وخطت خطوتين وهي تقول : " أنا الزمان ، دعك من تلك الوساوس وهيا لتعيش لحظات في حاضرك الذي شغفت به حبا ."
في أعلى الجبل جف حلقي ، جلست لاسترجاع أنفاسي اللاهثة ، وأنا أقول : " أين لي بشربة ماء ؟" فردت عائشة : " يا لضعفكم ، لا مناص من توظيف أجهزة المستقبل " أخرجت من محفظتها آلة في حجم صنبور ، ضغطت على الزر فتدفق الماء من ينبوعه رقراقا باردا منعشا ، غسلت يدي و وجهي و شربت ، وأنا أفكر إن كانت هذه الآلة تستجمع القطرات التائهة في الهواء ، أو تزاوج بين ذرات الهيروجين والأوكسجين لتسقي ظمأ المستقبل . فردت عائشة :"ربما " ، فعجبت كيف تعرف ما يجول بخاطري ، أتكون في محفظتها أدوات أخرى تقيس ترددات الطاقة الحيوية ، ومسارات الدم و السيالة العصبية ، فتترجمها كما يترجمها الدماغ إلى لغة . فردت مرة أخرى : " ربما "
قدمت لي نظارتين سوداوين تنقلان صورا تتراقص أمام عيني بسرعة ضوئية لا أميز فيها شيئا ، تمنيت أن أحظى بتلك الصورة الفوقية لكوكبنا حيث تموجات الجغرافيا و تنوعات المناخ ، والطبائع البشرية و التفاعلات المجتمعية وأسرار المحيطات و كل شيء ، لكن قولها استوقفني : " تمهل ، على رسلك فنظركم لم يتطور بعد بالقدر الكافي يمكنك أن تتبع شريطا واحدا .
حطت عينا الزمان على عجوز طاعنة في السن تسمى مارغريت ، خط الزمان على صفحات وجهها كيد أيامه ، ترتعش قبضة عكازها كما لا يكف فمها الأدرد عن التمتمة ، لو توقف لسانها لعجلت بمصيرها ، إنها تستمد قوة من تلك التعويذات ، تجر رجليها ببطء على رصيف البحر ، تستوي على مقعد وهي تنظر حولها ، يمر شاب تتأبط صديقته ذراعه ، استفزتها العجوز فقالت : " انظر أنطوان تلك العجوز ، ماذا تفعل هنا ، أليس البحر للأجسام الجميلة الرشيقة الكاملة ، كم تؤلمني رؤية هؤلاء العجزة . فرد عليها صديقها :" تجاهليها صديقتي ، أنا أيضا لا أحبهم وأتمنى من كل قلبي أن يتم سن القوانين لتطهير الأرض من كل هؤلاء العجزة والمقعدين و المعتوهين الذين يفسدون جمالية الإنسانية ويلوثون نقاء الطبيعة .
فرجعت إلى العجوز وهي تتمتم ، " ما بال الجيل الجديد ، أين الحياء ، أين الملابس المحتشمة ، أين العفة ، آه يا زمان لو أستطيع أن أعانق مياه البحر ولو لمرة أخيرة ، غدار أنت يا زمان ، لكن لا بأس نلت من هذا المتاع ما يكفيني ، لكن ليس بمثل هذه الميوعة ، فإن رأيت العشيق ، أقصد الحبيب في الكنيسة فهذا يوم لا ينسى ، وإن التقيت معه في فسحة فهذا أقصى المنى ، أما إن ضمك إلى صدره فليأتي بعدها الطوفان ، أما شباب اليوم فهم مهووسون بالرغبة ، أنا أيضا نلت ما يكفيني من أقداح اللذة ، آه أين أنت يا جيلي ، غادرتم جميعا ، سأقوم لأصلي من أجلهم ."
ـ أيكفيك من هذا المشهد ؟
ـ حقا أتعاطف مع تلك العجوز ، لو استطعت أن أساعدها على تقبل واقعها والعيش بسعادة بقية أيامها .
ـ ما أعجبكم ، تشفقون ، تعتدون ، تتعاطفون ، تتمردون ، متناقضات كثيرة تتعايش في دواخلكم .
ـ كلا يا حبيبتي ، عذرا استثارني العاشقان ، نحن قوم محب ، ألا ترين أن هذا الجمال الطبيعي ، هذه الجبال الشامخة ، هذه الجلاميد الضخمة ، هذه السماء الواسعة ، ألا يستحق المكان أن يكون مسرحا لقصة حب ، انظري حولك كل الطبيعة تتلهف شوقا لترانا نعيد مجدنا إلى الواقع ، أنت ما تزالين تسكنين فؤادي ، لك ترق مشاعري ، لك وحدك يعزف قلبي ألحانه العذبة ، يا لعذوبة ملمسك ، يا لحسن ملامحك ، يا ملاكي ألا تزالين غاضبة مني ، ألا ترأفي لحالي ، اقتربي ، فأنا لا أزال على العهد . وضعت يدي على ذراعها فلم أتلمسه ، ضممتها كأنني أضم أشعة الشمس ، بل نحس حرارة الشمس وطيف الهواء ، اخترق جسمي كيانها ، فتسارعت دقات قلبي و أنا أرتعش ذهولا وخوفا فانطلق لساني : " أنت شبح مقيت ، جئت من العالم السفلي ، أنت جنية حقيرة ، أتحسبينني ضعيفا إلى هذا الحد ، أتظنين أنني سأرحمك لمجرد اختيارك لهيئة حبيبتي ، أنا اعرف ضعفكم و قصوركم ن ماذا صنع قومك منذ الأزل ، نحن الأقوى مدي بصرك لتري اختراعاتنا مدي بصرك لتري كنوز ميراثنا ، سأحاربك بطلاسمي ، بقوتي الظاهرة والباطنة ، إن كيدكم ضعيف ، فارجعي إلى عالمك السفلي "
ـ هل أنهيت نفث سمومك علي ، ألم أقل لك أني جئتك في صورة عائشة وليس جسدها .
ـ أف ، كم هو فظيع أن تخترق شخصا هكذا ، بت أخاف منك أيها الزمان .
ـ ههه
ـ هذه الابتسامة ستساعدني على استكمال المشوار .
على عجل أفرغ كوب شرابه وغادر الحانة ، ارتمى بين أحضان سيارته خلف المقود ، و ضغط على الدواسة .
هي شابة في الثلاثين ، أرضعت صغيرها و وضعته في مهده طابعة قبلة على جبينه ، غنغن مداعبا كريات ملونة تتدلى من مظلة سريره الصغير ، أمام المرآة سوت شعرها مطمئنة على صورتها ، و اتجهت نحو سيارتها ، أحكمت حزام الأمان و أدارت العجلات ، يومها ربيعي ، حياتها ملك يمينها ، زوجها منحها الحب والحنان والاستقرار ، مهنة الصحافة منحتها شهرة و شعبية ، تمارسها حتى من بيتها ، زوجها سيد وقته يملك مطعما يوفر له كل احتياجاته ، يتناوبان على رعاية الصغير الذي أضاف لحياتهما مرحا و متعة هكذا كانت تفكر .
هو لا يملك من أمره شيئا ، حياته موزعة بين مكتب المحاماة و الجمعية الحقوقية و الحزب ، أعد مرافعاته و خطابه ليلا ، ترافع صباحا عن موكليه ، وزوالا أعد ملفا حقوقيا ومساء سجل تظلمات نقابيين في مكتبه ، شرب كأسه منطلقا إلى مقر الحزب حيث سيلقي خطابه ، نسي نفسه لا زواج ولا أسرة ولا أولاد ، دارت به الدوامة فلا يملك وقتا لتنظيم حياته ، حياته عصيبة هكذا يفكر .
في لحظة شرود البطلين تعانقت السيارتان فاتجهت الأولى نحو اليمين والثانية نحو اليسار متدحرجتين كعلبتين تتقاذفهما أرجل الصغار ، فتداخلت العربات بعضها في بعض ، ودوت صفارات الإسعاف و حامت حول المشهد طوافات رجال الأمن .
ـ ما هذا أيها الزمان ، ألم تجد مشهدا غير هذا ؟
ـ أنا مجرد ناقل .
ـ كان عليك أن تختار مشهدا مفرحا ، مثل هذه الأشرطة ذات الرؤى المتعددة تتعبنا ، ألا تعلم أننا نريد لأبطالنا شيئا من المثالية و بعضا من الزيف ، فنحن أصحاب الحقيقة الواحدة ، بإمكانك أن تتصرف وتقدم لي قصة ذات بعد واحد تجنبني كثرة التشعبات و التفكير فنحن ميسرون للكسل و بين أحضانه نمارس شهواتنا البليدة .
ـ منذ البداية عرفتك لن تستطيع معي صبرا ، لكن متأسف أنا لا أغير السيناريو، فقط لعلمك في هذا المشهد سأتركك من غير وداع .
شبح فتاة بنظارتين سوداوين يركب قطارا ، يقرب بين الفينة والفينة هاتفه المحمول من أذنه بعد أن يضغط أرقاما على أزراره ، يجد مخاطبه خارج التغطية ، منذ شهور وهما يتبادلان الرسائل القصيرة عبر شاشات الهاتف والحاسوب ، يتمنى أن يجده كما تبينه الصور والكلمات التي يتلقاها ، يحس ببعض قلق كلما عاود الاتصال سمعت صوته يقول :" متى تستيقظ حبيبي ، أنا قادمة إليك " سألت عائشة : لماذا لا يظهر وجه الفتاة ؟ لم تجب عن سؤالي ، أزحت النظارتين فوجدت نفسي وحيدا ، لا عائشة ولا حقيبتها ، رجعت إلى المشهد فوجدت الإرسال منقطعا ، بدأت أصيح وأجري ، انزلقت رجلي على صخرة ملساء فسقطت من على السرير ، قمت مذعورا من هذا الحلم العجيب ، الساعة تشير إلى السابعة ، فتحت هاتفي فبدأ رنينه .
ـ أنا عائشة حبيبي منذ ساعة وأنا في المحطة أنتظر قدومك .
ـ طبعا أنا قادم حبيبتي



أدرتُ ظهري للشفق ، وسرت بخطٍ موازٍ للنور ،
و كأنّ المغيب لا يعنيني !!