عرض مشاركة واحدة
قديم 05-19-2012, 11:24 PM
المشاركة 618
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
82- ونصيبي من الافق عبد القادر بن الشيخ تونس

تمظهرات الخطاب السردي العربي بين توثيق الذاكرة وآليات اشتغال المنجز
قراءة في كتاب"الرواية العربية والفنون السمعية البصرية" للدكتور حسن لشكر

استهلال

نروم في هذه القراءة العاشقة لكتاب الدكتور حسن لشكر" الرواية العربية و الفنون السمعية البصرية"، الصادر عن سلسلة كتاب المجلة العربية 169 ، الرياض 1431 ه، إلى إعادة تفكيك العلاقة الفنية ـ الجمالية بين السرد العربي ومختلف أنماط الفنون السمعية البصرية، التي استثمرت كاشتغال تقني أو خطابي ينزع نحو رصد أهم التحولات التي عرفتها بنيات الرواية العربية.
إن السرد العربي، وهو ينفتح طوعا على هذه الفنون، يشكل بذلك هامش حركيته خارج المألوف والمتعارف عليه، وليس ما يمكنه أن يجعله ينط داخل أنفاق مغلقة ومتكلسة، بحيث إن اهتمامه بهذا الرصيد من التعبير الفني المتنوع والمتجدد، يحفزه على المضي في بناء منجز سردي مأهول بنضج التخييل الذاتي والغيري، وململم لشظايا الحكي المنفلت من أنساغ الذاكرة، والمتلبس بأقنعة سطحية الواقع و المجتمع والتاريخ والذات، لذلك فمن الضروري أن تخرج الكتابة السردية عن هذا الصوغ التنميطي والمنمذج للشكل، و تباشر هدمها ونسفها لجاهزية المعمار الروائي ويقينية ومطلقية رؤيته، سارحة بكل بذخ تحررها في سماوات الاستعارة والمجاز، ومختلف المحسنات اللفظية والمعنوية، قصد إعادة تشكيل الكتابة الروائية وفق بلاغة سردية جديدة واستثنائية، ومخصبة لرحم خطابها التحديثي الضاج بالعنفوان والجدة، وبهذا تكون محاولة الوقوف على أطروحات المؤلف وأسئلته غير قارة وثابتة، وإنما مستقرئة لها حسب مظاهر تفاعلها ، ومدى مجاوزتها لاستشكال "التكنيك" الحكائي الغارق في الكلاسيكية دون استساغة ومضات التأسيس والتأصيل الأولى، أوالتفكير في التطوير والتجديد والتحديث.
هذا الجنس الأدبي الذي نتحدث عنه هنا هو ابن المدينة بامتياز، كما هو شأن السينما والتشكيل و المسرح، وإذا كانت النظرة المدينية قد أرغمت التجربة الإبداعية السردية، على المثول أمام مرايا غير متجاورة، فإنها منحت الرواية بالخصوص مساحة من الحرية، امتدت من المكان إلى الزمن، أي أنها أولت اهتمامها الكلي وشغبها للممارسة الكتابية الحكائية عبر أبعاد تلفظية دالة وأنساق خطابية تشخيصية حاملة لمعان متعددة، دون المساس بالشكل أو المضمون، بل مستلهمة بعض التمظهرات الفنية ـ الجمالية التي تؤطر الفنون السمعية البصرية، وتشكل ألوان وأطياف تعبيرها.
الرواية العربية: من النصية السردية إلى معنى الخطاب
لاشك أن السرد مهما تعددت أشكال صياغته وأنساقه وتداوليته، وانخرطت ضمن دائرة المحكي الشفهي والمكتوب والبصري، فإنه يخضع بالضرورة إلى انتعاش مدونته الحكائية وتزويدها بروافد التجربة الروائية المتعددة، بحيث إن " أنواع السرد في العالم لا حصر لها، وهي قبل كل شيء تنوع كبير في الأجناس، وهي ذاتها تتوزع إلى مواد متباينة، كما لو أن كل مادة هي مادة صالحة لكي يضمنها الإنسان سروده، فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة شفوية كانت أم مكتوبة، والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء(Le geste) مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم من كل هذه المواد، والسرد حاضر في الأسطورة، وفي الحكاية الخرافية((Légende، وفي الحكابة على لسان الحيوانات، وفي الخرافة، وفي الأقصوصة، والملحمة، والتاريخ، والمأساة، والدراما، والملهاة، والبانطوميم، واللوحة المرسومة(ولنفكر هنا بالقديسة أرسول دوكارباشيو)، وفي النقش على الزجاج، وفي السينما، والكومكس، والخبر الصحفي التافه، وفي المحادثة"1 . بهذا أطر المنظور البارتي البنية السردية، وربطها بالتنوع والاختلاف في إطار فهم وتفسير البنى الخطابية ضمن التحليل البنيوي للحكاية.
إن السرد هنا يمكنه أن يستفيد من آليات وأدوات الفنون الأخرى، كما هو أيضا غير قابل لأن يبقى رهين المثل الأعلى، أي لصيقا بالنماذج الرائعة التي خلفها لنا تاريخ الإبداع الكوني، " وفضلا عن ذلك فإن السرد بأشكاله اللانهائية تقريبا، حاضر في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، وفي كل المجتمعات، فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون سرد، فلكل الطبقات ولكل الجماعات البشرية سرودها، وهذه السرود تكون في غالب الأحيان مستساغة بشكل جماعي من قبل أناس ذوي ثقافات مختلفة إن لم تكن متعارضة"2 ، وبما أن النص السردي هو دليلنا في هذه القراءة لكتاب "الرواية العربية والفنون السمعية البصرية" لصاحبه الدكتور حسن لشكر، فإنه بجعلنا ننفتح على أسئلة مغايرة تصب في المنجز المشترك بين المبدعين، من روائيين ورسامين وسينمائيين ومسرحيين ونحاتين وموسيقيين وتشكيليين وغيرهم، لهذا نرى أن مفهوم النصية السردية، ليس نصا يقتصر على بنية لغوية تتكون من شبكة من العلامات والرموز التي لها دلالاتها ومقصدياتها، بل نريد أن يكون هذا التوصيف دالا على نسق أسلوبي يتجاوز مفهوم النصية اللسنية الأفقي إلى مفهوم النصية السردية التحاقلي، أي أنه يبتغي النظر في سميأة خطاب النص التأويلية أكثر من وصفيته المنمذجة، بحيث إن مجرد التفكير في المنجز الروائي العربي هو بالأساس وعي بالاشتغال البلاغي المتعدد، لذلك لا يمكن قراءة الرواية باعتبارها لغة مكتوبة ترتبط بحكي تتابعي أو متقطع، بل " إن تصورا للبلاغة من هذا القبيل يتضمن أمرين: أولهما ضرورة وجود علم عام للنص يكون صالحا، لا لدراسة النصوص الأدبية وحدها، بل لدراسة غيرها من النصوص على اختلافها، وثانيها الفكرة المتضمنة في أن كل نص هو بشكل ما " بلاغة"، أي أنه يمتلك وظيفة تأثيرية، وبهذا الاعتبار فالبلاغة تمثل منهجا للفهم النصي مرجعه التأثير. وعندما نفكر حسب المفاهيم البلاغية فإننا ننظر، مبدئيا، إلى النص من زاوية نظر المستمع/ القارئ، ونجعله تابعا لمقصدية الأثر"3 ، فهل يمكن التعامل مع السردياتLa narratologie باعتبارها نمطا من المحكيات الواحدية هكذا، تتوفر على فيض من اللغات التخاطبية، أم أنها مظاهر للقول المتعدد و المفتوح على أجناس وفنون تتقاطع في ما بينها؟ لقد حسم التصور عند السيميائيين، خاصة عندما تم الاشتغال على مكونات النص اللغوية، وما تشمله من خطابات تتناسل فيها الدلالات والرموز بكثافة، و" إذا كانت سلسلة التأويلات غير نهائية كما وضح ذلك بيرسPeirce ، فإن عالم الخطاب يتدخل لتحديد شكل الموسوعة، وليس النص إلا الإستراتيجية التي تؤلف عالم هذه التأويلات ـ إن لم تكن مشروعة فهي قابلة لذلك على الأقل كل قرار للاستعمال الحر للنص يتفق وقرار تحديد عالم الخطاب، فحركية عمل الإشارة Sémiosis غير المحدودة لا تمنع تلك التأويلات بل تشجعها، ولكن يجب أن نعرف ماذا نريد: إما أن نعود عمل الإشارة على دلالة معينة أو نؤول النص"4، بهذا تكون النصية السردية من حيث تشكلها وانبناؤها قصة، أما الخطاب من خلال مسعاه التأويلي، فهو لغة مسرودة بوصفها نسقا من العلامات والرموز، وليست غير نظام مؤسس على الإختلالات والخرق، بحيث إن الرواية العربية، وهي تستند إلى بعض الآليات الفنية ـ الجمالية والتقنية، فإنها تستجيب إلى نزعة التجريب الروائي، التي ما فتئت تستثمر أدوات مستحدثة تلغي المسافة بين الأساليب التعبيرية السمعية البصرية، إذ نلاحظ أن الروائي لم يعد يقتصر على مبدإ الكتاية السردية التتابعية في الزمان والمكان، بل استبدلها بالعدولL écart والتناوبAlternance والتضمينEnchaissement و مختلف مقتضيات السرد الأخرى، من إعادة خلق الخلفيات، كاستعمال التراث والتاريخ والأسطورة وما شابه ذلك.

الرواية العربية والفنون السمعية البصرية: من الوصف إلى الاستقراء

يؤكد الناقد الدكتور حسن لشكر في مقدمة كتابه أنه اهتم بمظاهر التفاعل بين السرد العربي ومختلف أنماط الفنون السمعية البصرية، موضحا طريقة التناول والاستعمال والاستثمار، حيث يقول" وقد حاولنا في هذه الدراسة التطرق إلى هذا الموضوع المهمش على مستوى البحث والدراسة انطلاقا من المنجز النصي، أي أن العمل ذو طابع تطبيقي يعتمد الوصف و الاستقراء النصي المباشر"5، وبذلك قسم محاور كتابه إلى أربعة فصول، هي:
ـ السينما.
ـ البناء الموسيقي.
ـ الرسم والفنون التشكيلية.
ـ المسرح.
إن هذا التقسيم الذي ارتآه الباحث، ساهم في تطويع الأدوات التحليلية لكي تخدم التوجه النقدي، وهو ما يمكن رصده من خلال ملامسة تراكم المنجز الروائي العربي عامة والمغربي على الخصوص، فمثلا في الفصل الأول، يستهل دراسته بتوثيق مجمل الروايات العربية وغيرها، التي وظفت تقنيات السينما واشتغلت عليها كلغة فنية وجمالية، بدءا بآثار على الرمال ليوسف السباعي، ثم دعاء الكروان لطه حسين، ورد قلب ليوسف السباعي، وبداية ونهاية و اللص والكلاب لنجيب محفوظ، وتحريك القلب لعبده جبير، والحرب في بر مصر ليوسف القعيد، وثلاثة وجوه لبغداد لغالب هلسا، والحب في المنفى لبهاء طاهر، وذات لصنع الله إبراهيم، والغربة واليتيم وأوراق سيرة إدريس الذهنية لعبد الله العروي، واللاز للطاهر وطار، و نصيبي من الأفق لعبد القادر بن الشيخ، والخماسين لغالب هلسا، وحارس المدينة وتحول الأمواج البرية لإبراهيم نصر الله، ويا بنات إسكندرية ورامة والتنين لإدوار الخراط، ووليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر، وكانت السماء زرقاء لفهد إسماعيل، وأصوات الليل لمحمد البساطي، وألف ليلة وليلتان لهاني الراهب، وحشيش ليوسف فاضل، والطوق والأسورة ليحيى الطاهرعبد الله، وعرس الزين للطيب صالح، و الضوء الهارب لمحمد برادة ، وخطوط الطول خطوط العرض والوشم لعبد الرحمان مجيد الربيعي، والنزول إلى البحر لجميل عطية إبراهيم، ووردية لإبراهيم أصلان، وشرف و اللجنة وبيروت ييروت لصنع الله إبراهيم.
أما في الفصل الثاني الذي خصه للبناء الموسيقي، فقد استهله بتقديم استحضر فيه تجربة كل من هرمان هسه من خلال روايته لعبة الكريات الزجاجية، و أندريه جيد الذي ألف كتابا هو قوت الأرض يشبر فيه إلى تعاطيه للموسيقى، ثم انتقل إلى عرض نماذج من الرواية العربية التي حاورت الفن الموسيقي، واستلهمت بناءه المركب من سيمفونيات وسوناتات وغيرهما.
في هذا الفصل حاول الباحث أن يقوم بعملبة إحصائية لمجمل السرود العربية التي وظفت الموسيقى، ومنحتها مساحة داخل فضائها الدرامي، لذلك نلاحظ وقوفه على تجارب روائية من مثل: عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وقالت ضحى وقصة بالأمس حلمت بك والحب في المنفى لبهاء طاهر، وتحريك القلب لعبده جبير، والبحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا، وعودة الطائر إلى البحر والصمت والمطر والرحيل بين السهم والوتر لحليم بركات، وبيروت بيروت وشرف لصنع الله إبراهيم، و نصيبي من الأفق لعبد القادر بن الشيخ، ويقين العطش ورامة والتنين والزمن الآخر لإدوار الخراط، والضوء الهارب لمحمد برادة، ووردية ليل لإبراهيم أصلان، وعصافير النيل لسمير اليوسف، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، والتجليات والخطط والزويل للغيطاني، وخطوط الطول خطوط العرض للربيعي، واللاز للطاهر وطار.
وفي الفصل الثالث " الرسم والفنون التشكيلية"، بستعيد الناقد مجموعة من مظاهر الحوار التي وشجت بين السرد وعناصر الرسم أو التشكيل، مصغيا بذلك إلى الأعمال التي وثقت لهذا التكون، من مثل تجربة عبد الرحمان مجيد الربيعي في جميع رواياته كالأنهار، وفي قصصه كمثل النساء، إضافة إلى إطلالة الباحث في بداية الفصل على تجارب غربية، مثل تجربة فكتور هوجو، وميشال بوتور وجان كوكتو وليوناردو فانشي و بيكاسو، مع استحضار أسماء لأعلام في الرسم والفنون التشكيلية، أمثال: كليمت، ورامبراندت، و سيزان، وبراك، وموني، وماتيس، وجياكوميتين وديبوفيه، وهوكيزاي. هذه المحاولات التي أطرت العلاقة بين السرد والرسم أو التشكيل، يمكن اعتبارها عنصرا أساسيا، حرر الكتابة الروائية من أسار الكلاسيكية المنمذجة والخاضعة إلى الثبات والتقعيد.
لقد استعان الباحث في هذا الفصل بعدة نماذج، منها: يابنات إسكندرية وحريق الأخيلة ورامة والتنين والزمن الآخر ورقرقة الأحلام الملحية وإسكندريتي وترابها زعفران لإدوار الخراط، ويوميات سراب عفان والغرف الأخرى وشارع الأميرات لجبرا إبراهيم جبرا، ومدينة براقش لأحمد المديني، والضوء الهرب لمحمد برادة، ونجمة أغسطس و اللجنة وذات وبيرت بيروت وأمريكانلي لصنع الله إبراهيم، والحب في المنفى لبهاء طاهر، وتجارب سالم حميش و صلاح الدين بوجاه وجمال الغيطاني وإميل حبيبي، وتجربة سليم بركات في الأختام والسديم.
وفي الفصل الأخير المعنون ب " المسرح "، يدبجه بتقديم يربط فيه بين الرواية والمسرحية، بحيث يبدأ بعرض تجربة توفيق الحكيم من خلال عمله بنك القلق، الذي منحه نحث اصطلاح المسراوية، أي الجمع بين المسرح والرواية، وهو ما شهدته هذه المرحلة، حين تداخل الفن الدرامي والروائي في ما بينهما إلى درجة لم يعد فيها استسهال التمييز بين الجنس والآخر، وهكذا بدأت المحاولات السردية تنفتح على التقنيات المسرحية، كالسد لمحمود المسعدي، والنجوم تحاكم القمر لحنا مينه، يحدث في مصر الآن ليوسف القعيد، وتحرك القلب لعبده جبير، ويوميات سراب عفان لجبرا إبراهيم جبرا، ونصيبي من الأفق لعبد الفادر بن الشيخ، وملف الحادثة 67 لإسماعيل فهد إسماعيل، وشرف لصنع الله إبراهيم، وبراري الحمى لإبراهيم نصر الله، والجبل الصغير لإلياس خوري، وشجر الخلاطة للميلودي شغموم، ولكع بن لكع لإميل حبيبي، وقالت ضحى وقصة محاورة جبل من مجموعة أنا الملك جئت لبهاء طاهر، وبحيرة المساء ومالك الحزين لإبراهيم أصلان، ولعبة النسيان لمحمد برادة، وبعض أعمال عبد الرحمان مجيد الربيعي، مثل نص بعد الخريف الوارد في مجموعة الخيول، ونصي الممثلون و ترنيمة المحبين في مجموعة صولة في ميدان قاحل، والخماسين لغالب هلسا.
إن هذا التوصيف الذي قام به الناقد، وهو يدرس تنوع الخطاب السردي العربي، جعله من مرتكزات الكتابة الروائية الجديدة في بداية تكونها وتشكلها، بحيث إن الهدف من هذا الكم الهائل من النصوص التي اشتغل كتابها على آليات وتقنيات فنية وجمالية، هو بالأساس يخضع إلى التوجه الذي بات من الضروري يلتجئ إليه الروائي في بحثه عن أساليب جديدة وتكنيك مستحدث، " لقد مس التجديد كل عناصر المعمار الروائي وسجلات الكلام وطبيعة ووظيفة الكتابة. فقد أصبح النص الروائي خبرة جمالية ونسقا فنيا وإبداعيا ذا نكهة خاصة، ولكنه ـ مع ذلك ـ لم يضع قطيعة مع مرجعياته الواقعية وأبعاده التاريخية. فهو يعمل على إعادة إنتاج التاريخ والواقع وينميهما في قالب روائي متفرد عبر شبكة من العلاقات الدلالية والبنائية. بحيث نجد أنفسنا ـ في الغالب ـ أمام نسبج روائي لصيق بالواقع يعيد صياغته في بناء تخييلي خاص"6 ، وبالتالي فإن الرهان في الكتاب يتجاوز هذا التراكم، وذلك من محاولة توصيفه إلى إعادة كتابته استقرائيا، إذ أن الجانب المرتبط بالاشتغال على التقنيات السينمائية، نجده يهم بالدرجة الأولى التمثلات البصرية، التي استطاعت أن تحول المنتوج السردي إلى لغة انزياحية، تستند إلى أدوات بلاغية تهدم العلاقة الكلاسية بين النص والواقع، ثم تبنيه من جديد على أساس خلق نوع من التفاعل بين النتاج والآليات التقنية المعبرة عن دلالات معينة، وفي هذا الصدد، يقول الباحث:" ... لجأ الروائيون إلى استعارة بعض التقنيات السينمائية كالمونتاج واللقطات المكبرة والمصغرة والمتوسطة، والانتقال السريع من مشهد إلى آخر..."7 ، لمنح الكتابة الروائية مساحة من التدفق المعجمي والدلالي والتداولي، وهو ما نجده أبضا في اعتماد السرد لبناء الموسيقي، بحيث لم يعد النص بنية خطية مكتوبة على الورق فقط، بل أصبح جماعا من النغمات اللحنية المكونة لسيمفونية تتناغم فيها الأصوات والأفعال والوضعيات والحالات، وهو ما يبعد الرواية عن الابتذال وعدم الاستساغة الفنية، ففي بعض السرود نلاحظ ثرثرة عقيمة تستدعي شروحات خاصة بالموسيقى، وهي غير ذات قيمة تذكر أو وظيفية، أما بالنسبة للرسم والفنون التشكيلية، فالرواية انسجمت مع ضرورة الاهتمام بالصورة، وهو ما حفزها على إعادة قراءة الخطاب البصري وموروثاته، وهكذا تم التركيز على الحواس والألوان والكتل والأحجام والمنظور والضوء والخطوط والظلال والأبعاد والإطار والإلصاق، والبحث في المواد المستعملة وغيرها، لذا باتت الرواية عند البعض بمثابة لوحة فنية أو منحوتة تنضح بجمالية أخاذة.
وفي قراءته للعلاقة التي جمعت بين الرواية والمسرح، تمكن من بسط وجهة نظر، تتمثل في الربط بين الكتابة الروائية والمسرحية، أو بين صيغ الوعي الروائي وصيغ المنجز المسرحي الذي هو مستمد من عناصر تمسرحية قابلة للمسرحة، لأن الرواية قد تتم مسرحتها بواسطة ما يمكن أن يحصل لها في المدونات الأولى، وهذا عمل تشترك فيه مع طرائق الإعداد القبلية، أي عندما ينظر في المحاولات الدرامية المشكلة من العمل الدراماتورجي، خاصة عندما يتم الانتقال من المدونات القبلية الأولى إلى الختامية، وهكذا تستثمر الرواية الحوار والأقنعة والتقطيع المشهدي والحركات والأصوات والعلامات، وذلك من خلال تنظيم فضائي يعتمد سينوغرافيا تتآلف فيها الإرشادات المسرحية لتحقق بذلك تناغمها في هندسة النص الروائي.
هذا الاشتغال على التقنيات المسرحية التي لها خصوصياتها الفنية والجمالية، يخلق أسلبة جديدة تراهن على منح الخطاب الروائي متسعا ممكنا للتعبير عن التجربة الانسانية ومتطلبات حاجات العصرالضرورية، إذ يفترض أن تستوعب الكتابة الروائية كافة التقنيات الدرامية، باعتبارها آليات تنجز دلالات استعارية ومجازية غير قابلة للنمذجة والأحادية، وبهذا ف" إن دلالات النص تمتح دراميتها من داخل المقام التلفظي ومن أبعاده وجذوره السينوغرافية التي تلعب دورا وظيفيا في تفعيل الأحداث"8، بحيث لا تقتصر على اللغة السردية المنتهية في لحظة القراءة، بل تتجاوزها إلى لحظات شفهية ومكتوبة إيقونيا ، وذلك من أجل تفعيل ميكانيزم الفرجة الذي تتعدد في تلقياته القراءات والتأويلات.
إن الرواية العربية، حين تستثمر عناصر المسرح، تنزاح عن قوالبها الكلاسية والرومانتيكية، وتتبنى بذلك أشكالا حداثية تساعدها على خلق لغة إبداعية متطورة وحركية غير ثابتة أو محنطة، ومن بين أهم الطروحات التي عرضها الكاتب بخصوص التو ضيف المسرحي والاشتغال على تقنياته ضمن المنجز الروائي، نقف على بعضها ، وهي على الشكل التالي:
ـ اهتمام المتلقي بالمشاهد والاستمتاع بها، إلى درجة أنها تصبح طيعة وفق قانون الانتقال من التأسيس والتأصيل إلى التطوير والتجديد بتفعيل التعليقات و الحوار وتوظيف ما يمكن تسميته بالنصوص الموازية التي تسعى إلى استثمار عناصر القوة ضمن الفضاء الدرامي و السينوغرافي والمشهدي في المسرح وتوليفه حسب تقطعات الكتابة الروائية وامتداداتها الحكائية، نموذج رواية يحدث في مصر الآن ليوسف القعيد.
ـ تقليص المكتوب على حساب منح العين الدور الوظيفي في التصوير والضبط الفضائيين، لهذا فالرواية يمكنها أن تستعد لقبول التوليف الدرامي، خاصة أنها تنطلق من آليات المسرحة كالإضاءة والمؤثثات الركحية، وبهذا فهي منفتحة على عناصر خارجية مكملة للملفوظ الروائي، مثلا الأصوات والأضواء وفضاء البيت والشخوص والإشارات الجسدية وتبئير الحوار ضمن نسق الكثافة السردية، نموذج تحريك القلب لعبده جبير.
ـ استثمار مكون الحوار كآلية تعبيرية من طرف الشخوص، ودفعه إلى رسم معالم الأدوار والمسرحة والأحداث، نموذج يوميات سراب عفان لجبرا إبراهيم جبرا.
ـ وضع الكتابة الروائية مقابل الكتابة المسرحية التي تعتمد التقطيع المشهدي، إذ تخرجه من انسيابيته السردية وتجرفه نحو الحركية السريعة، التي تلتزم باللعب المسرحي من خلال إعادة إنتاج العوالم المتخيلة دراميا، والمتحققة سيميولوجيا وسينوغرافيا، نموذج ونصيبي من الأفق للعبد القادر بن الشيخ.
ـ اعتماد التداعي والتذكر والحوار، بحيث يمكن للتجربة أن تنفتح على الكتابة المفتوحة على خصوصية الروائي والمسرحي إضافة إلى تقنية كتابة السيناريو الفاصلة بين المنطوق والبصري، وبما أن هذه الرواية اشتغلت على القضية الفلسطينية، فإنها لم تجعلها مقحمة وزائدة، بل وظفتها كمضمون ساهم في إرساء بناء النص الدرامي وتقوية نفسه ودعم إيقاعه، نموذج ملف الحادثة 67 لإسماعيل فهد إسماعيل.
ـ يضع الكاتب استنتاجا عاما في النهاية يقدم من خلاله العلاقة التي جمعت بين الرواية والمسرح على مستوى الكتابة والتفاعل، يركز فيه على العناصر، هي: الحوار المسرحي، و المونولوج، والمشهد، والملابس والديكوروالإنارة، والتوجيهات الركحية، والبناء أو التركيب المسرحي.

خاتمة

إن الوعي بالكتابة الروائية وهي تنفتح على السمعي ـ البصري، كامن بالدرجة الأولى في مدى قدرة المبدع الروائي على تحمل مشاق البحث في أحراش المتون السردية الحديثة، بمختلف مشاربها وطرائقها التداولية، وطبيعة أساليبها المنتهجة والمبتكرة، لذلك فكتاب الأستاذ الدكتورحسن لشكر يمكن اعتباره مدونة نقدية تنزع نحو إعطاء الرواية العربية مكانتها الخاصة، وذلك بفضل محصلات المغامرات وارتياد الآفاق الرحبة والمجهولة لاكتشاف مكامن القوة والضعف في الوعي السردي الحديث والاشتغال على المتخيل المتعدد، وبما أن هذا الخطاب لم يتم الإلماح إليه ضمن المؤلف، فقد ورد في البداية، يقول الكاتب:" إنه خطاب متعدد الأبعاد والأنساق يستخدم وسائط تشخيصية متعددة لبناء المتخيل، كما يشغل عدة أنماط معرفية مستوحاة من علوم ومعارف وفنون مختلفة( علم نفس، الخطاب الإيديولوجي، تاريخ، سياسة، أسطورة..)لإثراء العالم الدلالي وتخصيب فعل القراءة"9. هذا المؤشر يدفعنا إلى إعادة التفكير في التناول النقدي للسرد الحديث، وذلك من زوايا مغايرة تحرص كل الحرص على تمايزه وتفرده واختلافه.