عرض مشاركة واحدة
قديم 02-22-2016, 09:48 AM
المشاركة 7
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الكل"الحياة" الدوليةمجلة "الوسط""الحياة" السعودية

سليم بركات في حكايات الشمال*
تفاصيل النشر:
المصدر:
الكاتب: سمير اليوسف
تاريخ النشر(م): 27/4/1998
تاريخ النشر (هـ): 1/1/1419
منشأ:
رقم العدد: 12837
الباب/ الصفحة: 13
الكتاب: السيرتان
الكاتب: سليم بركات
الناشر: دار الجديد - بيروت، 1998
بين دفتي كتاب واحد يعيد سليم بركات إصدار نصي "الجندب الحديدي: سيرة طفل..." و"هاته عالياً، هات النفير على آخره: سيرة صبا"، وكلاهما يعود صدوره الى مطلع الثمانينات. وفرصة قراءة هذين النصين دفعة واحدة تكشف عن اتصال كامل بينهما حتى ليظن المرء أنه يقرأ نصاً واحداً. هذا على اي حال ليس ناتجاً عن قصور في رصد حال الانتقال من طور الى آخر، كان الكاتب أزمع على سرد كل منهما على حدة، وانما لأن ما يرويه ليس سيرتي طفل وصبي، وانما هو سيرة واحدة لمكان وقوم وحفنة أطفال وعصابة من الفتيان، أي ما يشكل عالماً متكاملاً يستعيده الكاتب كمعطى قائم.
إذ لا يرى الكاتب، بل ولا يبدو انه قادر على ان يرى، الطفل ومن ثم الصبي منفصلاً عن العالم الذي ينتمي اليه، ومن ثم فهو لا ينظر بعينيه الطفل الى ما يحيط به كعالم خارجي يتلقاه على نحو تدريجي. والسبب في ذلك انه لا يحاول تصفية حساب مع ماض يحاول الانعتاق من أسره، من ثم فهو يرى الى الطفل في حالة تصالح مع محيطه. ولعل ما يند عنه السرد من نوعة تباه ما يروى تؤكد ذلك. اذ حتى عندما ينعت الكاتب طفولته بكونها "لا طفولة" فإن ذلك لا يأتي كتحسر على نعمة حرم التمتع بها، وانما لكي يظهر بأن طفولته وطفولة أترابه لم تكن رمزاً للبراءة على ما يميل الاعتقاد الشائع الى التصوير.
والحق ان هذه الطفولة لا تقل براءة عن أي طفولة أخرى اذا كان مقياس البراءة هو الفارق بين سلوك الاطفال وسلوك الكبار. فما يُقدم عليه الاطفال في هذه السيرة من عبث وشقاوة لا يبلغ الحد الأدنى مما يقترفه الكبار الذين يهم يتشبهون وعلى خطاهم يتدرجون. فقتل الحيوانات الأليفة ودفن العصافير حية وغير ذلك من إلحاق أدى بمخلوقات مسالمة قد تبدو أفعالاً شريرة، ولكنها مقارنة مع القسوة والعنف الذي يمارسه الكبار وعلى نحو شبه روتيني، تجعلها لا تزيد على عبث اطفال.
لا يسرد سليم بركات سيرة تمرد. ففي عالم لا تحكمه اصلاً الكثير من الضوابط والقيود، ما يجعله الى "حالة الطبيعة" أقرب، ليس ما يبدر عن الطفل أو أترابه الا ما تبيحه هذه الحالة "لهو كلهو ساكني العراء الأول". ومن ثم فإنهم اذ لا يقيمون أدنى اعتبار للقوانين والضوابط، فهذا لأنه ليس هنالك قوانين وضوابط اصلاً تستدعي التمرد عليها.
ولعل وصف الكاتب للمدينة التي نشأ فيها بـپ"اللامدينة" دلالة على إدراكه غياب الضوابط والقوانين التي تفرضها وتمليها حالة التمدن. اذ يوحي ما يرويه الكاتب بأن "الشمال" ميدان طفولة الكاتب وصباه، سابق على التمدن على رغم توافر مراكز ومرافق ارتبط ظهورها بظهور المدن. فغياب القوانين تجعل المستشفى محكوماً بمزاج بغي والمدرسة بإهواء المدرس الذي ينتمي الى الحزب الحاكم.
ولعل ما يبين مبلغ تحكم العشوائية في حياة أهل هذه "المدينة" هي اللحظة التي تقتحم السياسة عالمهم. فدخول الاحزاب السياسية لا يؤدي الى دفع الحياة الاجتماعية باتجاه طور جديد ترسو فيه قيم وقوانين تحد من التلقائية والعشوائية، وانما في الحقيقة تزيد الأمر عشوائية. وهذا عائد من دون شك الى حقيقة ان السياسة بهذه الصورة لم تصدر عن هذا المجتمع وانما اقحمت عليه اقحاماً. ولعل أكثر اللقطات امتاعاً في هذا الكتاب هي تلك التي يروى فيها كيف كان يُساق طلاب المدرسة في تظاهرات تؤيد وتندد: "كنا صبية آنئذ، يخرج بنا المعلمون على هواهم في التظاهرات الوطنية، ولم يبق واحد منهم لم نهتف بشعار حزبه. وكانوا يختلفون فيما بينهم، فيقود بعضهم فريقاً من التلامذة عبر شارع أول، وفريقاً عبر شارع ثان، وثالث، ورابع... بيد اننا جمعنا شعارات الفرقاء جميعاً كما نجمع الطوابع، متسللين من شارع الى شارع، هاتفين في كل منهما كما يهتفون".
ولا يغيب عن انتباه قارئ "السيرتين" المسافة التي تفصل الكاتب عن الزمان والمكان اللذين يسرد ما دار فيهما من وقائع. فهو لا يقص قصة عالم ناء منقض فحسب، بل يبدو ايضاً كأنه يجد لكي يصوره عالماً خرافياً يصعب على المرء تصديق ما جرى فيه.
والحق فإن أي عالم مهما كان واقعياً ومألوفاً، يمكن ان يحول الى عالم خرافي اذا كان الغرض الرئيسي هو سرد قصص تُمتع وتضحك وتثير الدهشة والخوف، بل واحياناً الاشمئزاز. فلن يكون من المستغرب اذا غالب قارئ "السيرتين" الظن بأنه يقرأ فصولاً من كتاب نرفال او فلوبير عن الشرق. اذ ان بركات يبدو أقرب الى قصاص تقليدي، أو حكواتي، منه الى كاتب سيرة حديث، أي انه رجل يسعى الى نقل حصيلة خبرة أكثر من كونه كاتباً يسعى هو نفسه الى اكتشاف ماضيه والتوغل في خفاياه وبواطنه ومساءلة القيم التي سادت فيه. ولهذا فإن السرد لا يتجاوز تسجيل ما تحمله الذاكرة من حوادث وحكايات. ولأنه يقوم بدور قصاص محترف تراه بليغ التعبير، حريصاً كل الحرص على تعالي اللغة عما تصف وتخبر وكأنما خشية ان تتلوث بلغة من يروي حكاياتهم. ولعل الاستعراضات البلاغية التي تأتي خارج سياق السرد ما هي الا إعراب عن رغبة الكاتب في ان يؤكد بأنه ليس مجرد رجل يروي ذكرياته وانما كاتب صاحب صنعة واسلوب يجعله يتميز: "حرس ينتظرون مواثيق الروح المكتوبة، لكن لا ورق للروح، ولا محبرة. حرس انتظار، وهم مؤتمنون على انتظارهم. حلفاء المياه والغبار. حلفاء السنابل، ومنظرو الشعاعات. آآآه".
ما يسترعي الانتباه ايضاً ان ليس ثمة اشارة في ما يرويه الكاتب للأسباب التي حملته على الرحيل عن هذا المكان، كما انه لا يبدى أدنى حنين اليه. وهو ما لا يتفق ونزعة الاحتفاء أو التباهي بالانتماء الى هذا العالم، بل وما يجعل ذلك موضوع تساؤل. فهل الاخلاص للاهل ورفاق الطفولة مبرر اخفاء الكاتب لما يكنه تجاه هذا "الشمال"؟ الكاتب، على أي حال لا يقاوم، وفي أكثر من مناسبة، إغواء الإعراب عن مشاعره حيال هذا المكان وان على نحو موارب: "والشمال امتحان. جهة الضجر الكبيرة سيدة الجهات في امتحانها. تأخذ كل شيء لتعطيك البسالة والتهور. وفي أضعف حال تجعلك وكيلاً على ملك لا يرى، أو حارساً للهواء". ومن، بحق السماء، يريد ان ينفق حياته حارساً للهواء؟