الموضوع: نظرات زائغة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
10

المشاهدات
5532
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
10-20-2014, 07:24 PM
المشاركة 1
10-20-2014, 07:24 PM
المشاركة 1
افتراضي نظرات زائغة
نظرات زائغة

في مقهى شعبي جلست أغزل ثوب فضولي ، فمرة أنسجه بخيوط إصرار وترصد ، لأحشر بصري في تعقب ما يمارسه المارة بعضهم على بعض من فنون التحرش والنصب ، فأحس متعة التشفي و الفرحة حين أشاهد من يزاول نيابة عني خبثا تخمر في أحشائي ، و تعتري راحة عارمة دواخلي و نشوة النصر تنتابني بعد أن غذيت نهم الأحقاد بشحنات سلبية ذائبة في بشاعة ما التهمته عيناي . مرة أخرى أعمل على تفصيل جلباب الواعظ فتفتل مقلتاي خيوطا نورانية يستجيب لها لساني هامسا حوقلة استنكار لما تقدم عليه الأيادي من لمس و صفع ، و العيون من غمز و خيانة ، و الأفواه من سب و تقبيل ، حتى الأنوف لا تفوتها فراستي فأكاد أشتم ما تمتد إليه ، سواء أكان عطرا فواحا أو حشرا غبيا في غير موضعه .

اليوم أحس نفسي على غير طبيعتيّ ، فلا غبطة زائدة و لا إحساس الأخ الأكبر ، فقط أنظر متأملا المشهد ، فالكراسي على عادتها ممتلئة بالأجساد و العيون تمارس رياضتها المفضلة متراقصة بين المشاهد على قارعة الشارع ، و أصناف بشرية بين الذهاب والإياب ، الدراجات يتصاعد أزيزها والسيارات والحافلات تطلق مزاميرها و الشاحنات تنفث دخانها الكثيف ، كان الجو غائما و قهوتي فقدت سخونتها ، لم تمهلني ما يكفي من الوقت للانتشاء بحلاوة حرارتها ، بدأت الأمطار تتهاطل فأخذت الحركة في التسارع لبرهة ، لكن سرعان ما تباطأ الإيقاع و ابتلعت المحلات الأسراب الهادرة ، المقهى أيضا بات مهجورا إلا من بعض الزبائن الذين خيم عليهم الصمت لكأن الجميع يعيش معي لحظة التأمل تلك.

رأيت امرأة خمسينية بجلبابها المبلل تتحاشى برك الماء في الشارع فتعتلي الرصيف أحيانا و تتجرأ أحيانا متوسطة الطريق ، مستغلة فسحة قلة المركبات. مر بجانبها شاب يمتطي دراجة نارية دفعها بيده دفعة خفيفة كادت تسقطه من على راحلته التي انعرجت به يمينا ثم يسارا ، ليوقفها بعد جهد في بركة الماء ، ولسانه يسترسل سبّا وشتما . انخلع قلبه عندما التفت ليجدها جثة هامدة وسط الطريق و بعض المتطفلين يهرولون جهتها محاولين استنهاض همتها المتراخية ، كانت الأمطار تزداد غزارة عندما لحقت بالمتحلقين حول المرأة ، نظرت إلى عينيها اللتين تفتحتا، فحدجتني بنظرة ماكرة قبل أن يزيغ نظرها ولسان الشاب يلومها بافتعال الصرع ، وتماديها في التمثيل قصد ابتزازه حينما يحضر رجال الأمن والسلامة الطرقية .

ازدادت الأمطار قساوة و هبت ريح عاصفة بينما لاتزال المرأة ممددة على البساط الأسود ، تتجنبها العربات كما سيول المياه الجارية ، تفضل واحد من رجال الحسنات فغطاها بغطاء بلاستيكي يقيها رعونة الأمطار التي أجبرت فضولنا على التلاشي ، بينما صاحب الدراجة يتحين الفرصة للهروب من هذا المأزق الذي يراه مفتعلا .

عندما وصلت إلى مقعدي لم أستطع تبين المرأة مع اشتداد الضباب و تقلص مدى الرؤية بينما بعض السيارات أطلقت أنوارها ، بغتة ظهرت شاحنة ممتدة تتطاير المياه على جوانبها وعواؤها المفزع يثير ما تبقى من فضولي ، رأيت شبح المرأة ينتفض بعنف ، تعثرت خطوتها فحاولت التخلص من الغطاء الملتف حول رجلها بحركة بهلوانية ، و يداها ممتدتان لارغام الموت على تغيير مساره ، لكن أطنان الحديد أبت إلا أن تعصر ليونتها و تحطم صلابتها ، تألمت عيناي من ذلك المشهد الرهيب ، أحكمت أغلاقهما و جبهتي على المائدة ، حين رجعت بهما إلى المكان ، غابت الشاحنة و لم أر للدراجي أثرا لكن حمرة الماء كانت بادية .

طفت بعيني المتعبتين المقهي الذي تخلص من آخر زبنائه ، قدماي تبتعدان عن المكان وسياط المياه المتدفقة من الأعالي تنهال على جسدي بينما تحاصرني ظلمة خفيفة يزداد سوادها مع توالي الخطوات .