عرض مشاركة واحدة
قديم 09-29-2010, 09:09 AM
المشاركة 40
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
غازي القصيبي بعد الطاهر وطار: شهود نصف قرن من الحياة الفكرية العربية
د. إبراهيم صحراوي


2010-09-28


بعد شيخ الروائيين الجزائريين الطاهر وطار الذي رحل عن هذه الدنيا منذ أزيد من أربعين يوما، شدَّ الرِّحال إلى العالَم الآخر ( يوم 15/ 08/ 2010) الأديب الشاعر والروائي السفير والوزير د. غازي القصيبي في المملكة العربية السعودية رحمهما الله.
ومثلما كان الطاهر وطار ظاهرة ثقافية يصعب تجاهلها أو تجاوزها في الجزائر كان القصيبي في السعودية أيضا قامة ثقافية وسياسية دبلوماسية واجتماعية لا سبيل إلى إهمالها أو غضّ الطرف عنها.
ومع ثراء شخصية القصيبي وتعدُّد جوانبها وكثرة مؤلَّفاته التي لم تنحصِرْ في الأدب بأجناسه وفنونه فقط، فإن ما يشدَّني فيها شخصيا هو جانبها الروائي على الرَّغم من أنَّ الشِّعر يغلب على تجربته الأدبية فيبرُز تبعا لذلك شاعرا أكثر منه روائيا لدى الكثيرين.
للقصيبي أعمال روائية عدّة أحدث بعضُها ضجة عند صدوره وشغل بال القراء والنقاد في العالـَم العربي وحُظـّر في السعودية لسنوات. فمن ' شقة الحرية' إلى ' الجنية' مرورا بـ ' العصفورية' وأبي شلاخ البرمائي وغيرها من الروايات والقصص الأخرى، كان الواقع العربي من المحيط إلى الخليج هو الفضاء الروائي الذي جال فيه القصيبي وجعله موضوع تأمُّلاته وتحاليله. ففي ' شقة الحرية' تناول فورة الشباب العربي وتوقه إلى الحرية ومقارعته للاحتلال في الخمسينيات والستينيات إلى ما قبل النكسة، مع اختلاف الأفكار والمبادئ والتوجهات في العالَم العربي حينها الذي جسَّدته الشخصيات، لا سيما وأن الفترة شهدت بلوغ صراع الجبارين الغربيين أوجه فيما عُرف آنذاك بـ ' الحرب الباردة'. اختلاف رؤى الشخصيات وخلافاتها كان صورة للاختلافات والخلافات التي كانت تميِّز الواقع العربي وتقطِّعُ أوصالَه وتسير به إلى ما يعيشه اليوم من تشرذُم وتفرُّق وتفكُّك وتشنُّج في المواقف والقرارات وتوزُّع في الولاءات والتحالُفات وحتى التواطؤات وآثار كلّ ذلك من تخلُّف وضعف وخيْبات وهزائم مادية ومعنوية في كلّ المجالات.
أمَّا ' العصفورية' ـ وهو بالمناسبة اسم مستشفى الأمراض العقلية في بيروت - فقد سارت في النهج نفسه لكن بطريقة مغايرة ومنهج مختلف فرضته الظروف والتغيرات التي اعترت الواقع العربي. قدَّمت ـ في منتصف التسعينيات - قراءة نقدية ساخرة لهذا الواقع على لسان ' البروفيسور' نزيل المستشفى ـ وهو الشخصية الرئيسية - في حوار بينه وبين الطبيب النفساني سمير ثابت ـ الشخصية الثانية في الرواية. حظيَت هذه الرواية باستحسان كثير من النقاد والقراء النوعيين العرب وتقريظهم معتبرينها قطعة جميلة من الأدب الساخر الذكي المثقَّف الهازل اللماح المليء بالرموز خصوصا السياسية منها. هنا لا بدَّ من الوقوف لحظة عند عنوان الرواية، وعند الفضاء المكاني المُفترَض لأحداثها. فالعصفورية كما سبقت الإشارة هو اسم مستشفى الأمراض العقلية في بيروت ومحبس مجانينها وأحد معالمها كما هي الروشة أو شارع الحمراء - أو بالأصحّ ما تبقَّى منه - أو الجامعة الأمريكية مثلا، وهو من اشهر المؤسَّسات المتخصِّصة في هذا المجال في الشرق الأوسط والعالَم العربي عامَّة. والواقع أن لاختيار هذا المكان إطارا لما ورد في الرواية حيثيات كثيرة أهمّها التقاليد المتَّبعة في مجال النقد السياسي في الأدب بالابتعاد عن المباشرة واللجوء قدر الإمكان إلى الرمز والغرابة ممَّا يُبعِد المسؤولية ويُخفِّف من نِقمة من يثيرُهم هذا النقد، ثمَّ إن الأدبية كما نعلم تستهجن التقريرية والمباشرة. هذا إضافة إلى الجنون الذي أصبح يُميِّز الحياة العربية ويقضي على كلّ اثر للتعقُّل فيها جملة وتفصيلا حكاما ومحكومين نُخبا وعامَّة، فالعصفورية في نهاية الأمر ليست سوى صورة مُصغَّرةٍ عن مثيلتها الكبيرة التي تمتدّ من الخليج إلى المحيط. أمَّا بيروت فهي العاصمة العربية الوحيدة التي ـ كانت وما زالت، إلى حدٍّ ما - تُتيح أكثر من غيرها - من أخواتها - هامشا من الحرية يمكِّن من قوْل ما أوردته الرواية. هذا دون نسيان الجانب الفُكاهي الهزلي الذي يعطي للنقد نكهة خاصَّة عندما يَرِدُ على ألسنة المجانين. ثمّ ألا يقول المثلُ عندنا ' خذوا الحكمة من أفواه المجانين'؟ ويقول رسولُنا الكريمُ صلَّى الله عليه وسلَّم: ' الحكمة ضالَّة المؤمن، حيث وجدها فهو أحقّ بُها؟'.
تنتهي رواية ' العصفورية' بإشارة ( السفر إلى عالَم الجنّ) ستكون موضوعا لآخر روايات الراحل: ' الجنية'. تضيع الحدودُ في هذه الرواية بين الواقع والخيال والغرابة والاعتيادية والمعقول واللامعقول وعوالم الإنس والجان والعلاقات المُفتَرَضة بينهما إذْ تتناول موضوع زواج جنية وإنسي مما تتداوله العامَّة في الوطن العربي من حين لآخر. تبدو الحكاية وكأنها هاربة من ' ألف ليلة وليلة ' أو من عصور الضعف والانحطاط التي شهدت ظهور الكمّ الكبير من اللامعقول في الحياة الفكرية العربية الذي يستعرض بعضَه د. زكي نجيب محمود في كتابه الشهير ' المعقول واللامعقول'. وكأن القصيبي استشرف الاستغراب والاندهاش اللذين سيصيبان كثيرا من قرائه في مستويات متعدِّدة فاستعان بعدد كبير من المصادر والمراجع التي تناولت الظاهرة ودرستها وذيَّل بها الكتاب.
وكغيره من كبار الكتاب والأدباء كان القصيبي ـ مثلما كان وطاَّر- في قلب الجدل والمعارك الأدبية والثقافية الفكرية، كما كانا موضوعا للدراسة والانتقاد وتبادل الآراء واختلافها.
نشير أخيرا إلى أن ما يزيد من متعة أدب القصيبي القصصي، خصوصا الانتقادي الساخر منه، ويُعطيه شيئا من النكهة والتميُّز هو كونُه، عاش في الغرب هو أيضا ـ طالبا في الولايات المتحدة وسفيرا لبلاده في لندن - فأخذ عنه فكرة أوضحت له الفروق الكبيرة بين الشرق والغرب ممَّا لا غنى عنه لأيّ مُثقَّف عربي معاصِر.
رحِم الله غازي عبد الرحمن القصيبي والطاهر وطار فقد كانا ـ على غِرار كثير من أمثالهما - شهودا لنصف قرن من الحياة العربية خصوصا الفكرية الثقافية الأدبية منها وعلامات مُضيئة فيها ومن أنشط فاعليها وصانعيها وقادة الرأي وصُنَّاعِه فيها.

' اكاديمي جزائري
saahraoui@hotmail.com