عرض مشاركة واحدة
قديم 09-14-2014, 08:08 PM
المشاركة 34
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
قراءة أخرى في قصيدة ( الجرس الخفي )
بقلم : د مرتضى الشاوي
تبدو للقاريء عتبة العنوان أنّها مكونة من موصوف وصفة يقع الموصوف خبراً لمبتدأ محذوف قد يفهم من السياق لعلم المتلقي به .
إلا أنّ في دلالتها المجازية رمزاً يعود لذلك الشيء المستور بالرغم من مفردة ( الجرس ) توحي بتنغيم خاص ربما تطرب له الإذن ، وقد يكون ثقيلاً لا تحبذه حتى خوالج النفس المطمئنة ، فليس كلّ جرس مسموع محبوب وليس كلّ جرس مسموع مطروب إلا أنّ وصف الجرس بالخفاء لكونه مستوراً دليل على أنّه مقيد مكبوت لا يسمع إلا في حالة نادرة استثنائية .
هل يمثل الجرس الخفي المرموز له صوت الضمير الحي ؟ أو إنّ نوازع النفس في تداخلها
إنّ قصيدة الجرس الخفي بمضامينها الذاتية تعدّ تنفيساً عن الذات وهي من الشعر التأملي الفلسفي لأنّها بوح خاص فريد عن النفس بهواجسها الشفافة .
والقصيدة في مبناها العمودي تمثل شكلاً غرة القصيدة العمودية إذ ابتنت على بحر البسيط بتقفية موحدة في الشطر الأول مع قافية واحدة سينية الروي وهو التزام فني في مراعاة الصياغة الشعرية .
اشتملت القصيدة على معان ومضامين متنوعة تآزرها وحدة موضوعية ليس هناك شطط ولا تكلف ولا اجترار في الوصف .
والقصيدة كلّها أنغام وترانيم هواجس النفس في خلجاتها وشفافيتها وهذا دليل على هدوء الشاعر وقدرته على ضبط النفس وعدم انفعاله داخل القصيدة مما لا يؤدي به إلى الزلل الفني .
من المضامين والمعاني الإنسانية في أبيات القصيدة :
1- تنطوي على معالم الاعتزاز بالنفس بمكامنها ومشاربها كما في قوله :
بِدَاخِلِي مِنْ كِنايَاتِ الأنَا جَرَسُ = مَعْنَى السُّكونِ بِهِ نَاءٍ وَمُلْتَبِسُ
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
2- البحث عن غاية مهمة للوصول إليها عبر وسائل نافعة كما ورد في قوله :
أيْنَ الوَمِيضُ وَهَذا الصَّدْرُ بَوْثَقَةٌ = حَمْرَاءُ مِنْ كُلِّ إحْسَاسٍ بهَا قَبَسُ
أيْنَ السَّبيلُ... مَسِيرُ الذاتِ هَرْوَلَةٌ = فِي مَهْمَهِ الليْلِ لَمْ يَفْطِنْ لَهَا العَسَسُ

3- التحلي بالثبات والتصبر دليل على الاستقرار على حالة واحدة لا تتغير والحنين إلى الماضي والتذكير به بسبب تأنيب الضمير كما في قوله :
وَما بَرِحْتُ مَكانِي قَيْدَ أُنْمُلَةٍ = وَما شَهِدْتُ زَمَانِي وَهْوَ يَنْتَكِسُ
أنا المَشُوقُ إلى ما فاتَ مِنْ زَمَنٍ = أطْلالُ قَلْعَتِهِ تَهْوِي فَتَنْدَرِسُ
هَذِي نسَائِمُهُ حَمَّلْتُهَا كُتُبِي = وكُلُّ حَرْفٍ بِها فِيهِنَّ مُنْطَمِسُ
4- الاستئناس بهذا النداء الخفي القادم من موطن الروح لما يملك من علة الاستيقاظ كلما ابتعدت النفس عن خطها للوصول إلى الهدف لأنّ الإنسان في تحركه الطبيعي يمثل مرايا عاكسة للكون .
لَكِنَّمَا الجَرَسُ المَخْبُوءُ فِي جِهَةٍ = مِنْ مَوْطِنِ الرُّوحِ يُغْرينِي بهِ الأنَسُ
يَهُزُّنِي كُلَّما أغْفَيْتُ عَنْ هَدَفِي = وَالكَوْنُ فَوْقَ مَرَايَا النَّفسِ يَنْعَكِسُ

5- اعتزاز الشاعر بنفسه في ضوء الفخر بشعره .كماورد في قوله:
وَلَسْتُ آنَفُ إنْ أسْرَجْتُ قافِيَتِي = إلى المُنَى، حَوْلَهَا مِنْ أدْمُعِي حَرَسُ
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ

6- الإشارة إلى التواضع في العيش في الملبس والمأكل وهذا ناتج عن ترويض للنفس في الحياة كما في قوله :
مِنْ أنْ أنامَ على أسْمالِ خاطِرَةٍ = أوْ أنْ يَكونَ طعَامِي التَّمْرُ والعَدَسُ
7- الإطالة في التفكير الصافي للوصول إلى نهاية المطاف برجاء اللقاء وبوساطة اكتشاف مكامن هذا الصوت التأملي المخفي في أعماق الروح ولا يتم ذلك إلا بأشياء :
1- مجالسة الطبيعة وتحقيق الهدوء والطمانينة والنهر يمثل رمزاً للطبيعة بوصفه المادي ويتضمن معالم العطاء وسر الحياة في الوجود .
2- طلب الرحلة في رجاء الوصول ناتج عن إلقاء زورق النجاة بعاطفة الهجر للتغريب النفسي في أعماق الروح رغم التحدي القائم على إنكار استحلال الدنس من الخبائث وعدم الإرتكاس إلا أنّ أشرعة الرجاء والأمل في أعماق الروح تجوب حاملة البلاء بسبب الانغماس في التفكير ورغم كلّ ذلك إنّ دلالات النهر المتنوعة تمرّ في خشوع لإستئناسه إياها لأنّ صوت الفكر قد أطبق عليه بعدم الكلام وهي نتيجة حتمية قد أملاها الشاعر في طمأنينة النفس البشرية التي جبلت على صفاء التفكير وترويضها وابتعادها عن كمائن النفس في رغباتها غير العقلية .
إذا يَضُخُّ المَدى فَوقِي غَمَائِمَهُ = مَاءُ التَّفَكُّرِ مِنْ عَيْنَيَّ يَنْبَجِسُ
أُجَالِسُ النَّهْرَ مَفْتونًا بِجِدَّتِهِ = لا يَسْتَحِلُّ خُدُودَ الضِّفَّةِ الدَّنَسُ
أُلْقِي بهِ زَوْرَقِي المَشْبُوبَ عَاطِفَةً = لعَلَّهُ عَنْ لِقائِي لَيْسَ يَرْتَكِسُ
لعَلَّ أشْرِعةَ الآتِي تَجُوبُ بهِ = أعْمَاقَ رُوحِي فَيَبْلوهَا وَيَنْغَمِسُ
تَمُرُّبِي كَلِماتُ النَّهْرِ صَامِتَةً = صَوْتُ التأمُّلِ مَحْفُوفٌ بِهِ الخَرَسُ
من الملامح الفنية والأسلوبية الطارئة على القصيدة :
فقد وظف الشاعر أدواته الفنية في إنتاج معاني أدبية رائعة تتساوق مع البعد الدلالي لهواجس النفس .
ويبدو ذلك من العنوان الذي أطل بترميز وإشارة إلى ذلك الضمير الحي الذي يختفي تحت جوانح الصدور ومكامن النفس .
وكل ذلك جاء عن وصف مكثف قائم على توليد المعاني بوسائل المجاز الإستعاري من أنسنة وتجسيم وإغراق قي الوصف .
وقد ورد ت الصور المجازية بكثرة نتيجة لتوليد قدراً من المعاني الجديدة مؤطرة بحيوية وموسيقى هادئة
مثل ( هرولة الذات ، تجنيح المسافات ، تلابيب المدى ، جعل النفس مرآة عاكسة ، إسراج القافية ، أسمال الخواطر ، انبجاس ماء العين ، أنسنة النهر بمجالسته للصحبة وتجسيمه برسم ملامح له مثل خدود الضفة ونهر هاديء مثل إنسان صامت إلا أنّ صوت التفكير لا يبان له بصوت فهو يشبه إنساناً اخرس ، أنسنة الزورق وجعله المعشوق في مرتبة الحب ، جعل للأمل أشرعة بوصفه السفينة الناجية في أعماق الروح )
وكذلك ورود الصور الكنائية مثل ( طعامي التمر والعدس = للدلالة على التواضع ) و( ماء التفكر = للدلالة على انسيابية الفكر وصفائه ) و( جيب الوقت = للدلالة على الثبات والاستقرار والاحتواء )
وأيضاً توافر الرموز الهادفة مثل ( الجرس الخفي ، ، الوميض ، البرذون والفرس ، البوصلة ، الجرس المخبوء ، صوت التأمل ) في دلالتها على التفاعل الحيوي الكامن في خبايا النفس البشرية .
2- من الملامح الأسلوبية الصوتية :
حقق الشاعر ملمحاً أسلوبياً في الانتقاء على مستوى ( المفردات ) من أجل إضفاء الحس الإيقاعي الذي ينسجم مع النفس البشرية بصفائها وهدوئها .
لهذا السبب قد اختار المفردات الإيحائية ربما جاءت عن قصد أو عفوية بسبب الخبرة والممارسة وقوة الحافظة في جلب المعاني باستعمال مفردات تتناغم دلالياً وحسياً على مستوى الصوت مع الإيقاع الخارجي ولهذا نجد شيوع المفردات المتضمنة على حرف ( السين ) بكثرة على مستوى القصيدة وعلى مستوى البيت الواحد لتشكل منعطفاً بارزاً في الانزياح الأسلوبي على مستوى الصوت مثل مفردات القافية كلّها وغير ذلك .
كما نجد ذلك بارزاً على تواجد صوت داخل القصيدة يتجاذب في الإيقاع الداخلي في قوله :
بداخلي من كنيات الأنا جرس = معنى السكون به ناء وملتبس
أين السبيل ، مسير الذات هرولة = في مهمه الليل لم يفطن لها العسس
ولست آنف أن أسرجت قافيتي = إلى المنى ، حولها من ادمعي حرس
أجالس النهر مفتوناً بجدته = لا يستحل خدود الضفة الدنس
فوجود صوت السين وتكراره في القصيدة على مستوى القافية ومستوى المفردات في داخل القصيدة قد شحن القصيدة بجو من التنغيم الهاديء كأنّه همس في الإذن وتطريب للمشاعر والأحاسيس فضلاً عن ذلك أنّ صوت السين من الأصوات الذي يتناغم مع مثيله أو ما يناضره كصوت الصاد فوجود الصاد بالأقرب من السين يفاجأ المتلقي بهمس خفي دون أن يشعر به مثل ( يصب ، الصدر ، بوصلتي، صامتة ، صوت ) كما في قوله :
يُدَقُّ حِينَ يَصُبُّ الغَيْمُ أحْرُفَهُ = رَذاذَ حَشْرَجَةٍ يَهْمِي بهِ الهَوَسُ
أين الوميض وهذا الصدر بودقة = حمراء من كلّ إحساس بها قبس
فَهَلْ أضَعْتُ بِجَيْبِ الوَقْتِ بَوْصَلَتِي = إنِّي لَأطلُبُ آثَارِي وألْتَمِسُ
تمر بي كلمات النهر صامتة = صوت التأمل محفوف به الخرس
وكلّ ذلك جاء عن طريق التراكم الصوتي الذي يسجل للشاعر ميزة في تداعي الأصوات داخل القصيدة وأبعادها النفسية ؛ لأنّ صوتي السين الليّن والصاد المفخم من الأصوات المهموسة والرخوة جاءا في تناسق خاص قائم على الانسجام والملاءمة.