عرض مشاركة واحدة
قديم 09-14-2014, 01:09 PM
المشاركة 31
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
قراءة ايوب صابر في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

بداية لا يمكن القول أن هذه القصيدة من أجمل قصائد الشاعر الأستاذ عبد اللطيف غسري فكل قصائده جميله إلى حد الإدهاش.
ولا اعرف أن كنت سأستطيع تقديم قراءة معمقة لها فالقراءة الشعرية لمثل هذا الشعر العميق ليس أمرا سهلا.
فهي كالبحر حتما عميقة، وغامضة، والجمال يعبر إلى قلب وعقل المتلقي أمواج فوقها أمواج، لكن البحر يظل غامض وعميق وقد لا نصل إلى كل ما يختزنه من جمال وأسرار في أعماق أعماقه.

طبعا باستخدام هذا العنوان " إلى البحرِأطوي كُلَّ مَوجٍ " يضع الشاعر غسري المتلقي في جو النص المفعم بالحركة والرومانسية والغموض والرهبة والإثارة والخطورة، والخوف، والجمال، والتحدي... وكأن المتلقي انتقل فجأة إلى شاطئ البحر يشاهد الشاعر وهو يطوي الموج ولك أن تتخيل جمال تلك الصورة وأثرها على المتلقي.

فماذا يقصد الأستاذ غسري في البيت الأول؟


يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!


==

قراءة في قصيدة " إلى البحرِ أطوِي كُلَّ مَوجٍ..." للشاعر عبد اللطيف غسري:

يَخُبُّ حِصَانُ الشَّمسِ والظلُّ واقِفُ = وَأنتَ علىتشْذِيبِ حُلْمِكَ عَاكِفُ

تعالوا نستكشف معا أعماق هذه القصيدة الجميلة!!!!

الأغلب أن الشاعر يخاطب ذاته هنا إذ يقول: ألا ترى بأن حصان الشمس، وفي هذا تشخيص للشمس..أي جعلها كائن حي مثل حصان، تعدو باندفاع شديد؟ وفي ذلك كناية عن سرعة حركة الزمان... وكأن الشاعر يقول ألا ترى يا صاحبي بأن الشمس تهرول مسرعة في السماء فيمر الزمن بسرعة فائقة...بينما أنت واقفٌ في مكانك لا تتحرك، وغير مدرك أو منتبه لسرعة مرور الزمن والوقت، ودليل الشاعر على ذلك أن ظله واقف لا يتحرك.

ويضيف الشاعر أيضا محذرا أو معاتبا أو منبها ذاته بقوله... وبدلا من أن تندفع لتستفيد من الوقت وتلحق بحصان الشمس الذي يعدو ويخب مسرعا أنت تقف هناك تداعب حلمك وتعكف على تشذيبه.

وكأن الشاعر يقول لنفسه ايضا تذكر يا صاحبي أن "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" لكنه يقولها من خلال صورة شعرية بالغة الجمال والتأثير وبلغة غاية في التأثير وبأسلوب ساحر... حيث يصور الشمس الجامدة، والحارقة، والبعيدة جدا في كبد السماء...بحصان جميل يخب مسرعا باندفاع... بينما أنت تقف مداعبا حلمك ومشذبا له غير مدرك لسرعة مرور الوقت!

وكأن الشاعر يدعو نفسه للانتباه لسرعة مرور الوقت ويحثها على أن تتجاوز مرحلة الأحلام وتنتقل إلى العمل.

ونجد أن الشاعر يُسخر هنا أهم عنصرين من عناصر الجمال والتأثير على ذهن المتلقي وهما:

- الحركة المتمثلة في حركة الحصان الذي يخب مندفعا في كبد السماء...مما يجعل النص ينبض بالحيوية والحركة والحياة.

- التضاد والمتمثلة في حركة الشمس مقابل وقوف ذات الشاعر، إضافة إلى الشمس والظل...والمعروف أن تسخير التضاد هو أكثر العناصر تأثيرا على عقل المتلقي.

ثم هناك عنصر الحوار الذي يخلقه الشاعر من خلال تجريد شخص من ذاته ليخاطبه ويعاتبه وينبهه بأن الزمن يمر بينما هو يقف هناك يداعب حلمه.

وإذا أضفنا إلى كل تلك العناصر صورة الحصان الذهنية وما يرتبط بها تراثيا في ذهن المتلقي...ذلك الحصان الذي يخب مسرعا في كبد السماء، نجد أن تلك الصورة تستحضر في ذهن المتلقي كل ما يرتبط بالحصان من جمال، وقوة، وعنفوان، وخير الخ....فالخيل مقعود بنواصيها الخير إلى يوم ألقيامه....حتى اننا نكاد نرى حصان المتنبي والذي خلده في اشعار كثيره...

وعليه نجد أن هذا البيت من الشعر لوحده يقول الكثير جدا...وهو حتما بالغ التأثير والجمال...حد السِحر.

==
وَأوْراقُكَ العَذْراءُ سِفْرٌ طَوَيْتََهُ = وَمِنْ شَجَرِ الإحْسَاسِ فِيهِ قطائِفُ

في البيت الثاني نجد وكأن الشاعر يستمر في مخاطبة ذاته فيقول ...أي صاحبي ، لماذا تقف هكذا مشغول بتشذيب حلمك؟ وأنت ترى الشمس تخب في كبد السماء مسرعة...والوقت يمر بسرعة.

وكأنه في هذا البيت يلوم نفسه ويحضها ويحثها بأن لا تقف مكتوفة الأيدي، وان تستمر في الحركة والنشاط وبذل الجهد، وربما كتابة القصائد تحديدا.

حيث يشير إلى تلك الأوراق العذراء التي ضمنها سفر طواه، (سِفْرٌ طَوَيْتََهُ )، وفي ذلك كناية على أن تلك الأوراق جديدة، لم يمسسها القلم بعد فهي عذراء...وطواها الشاعر في ذلك السفر الذي يحتوي أصلا على قطوف من ثمار شجر الإحساس، وهي حتما القصائد حيث يشبه الشاعر القدرة على الكتابة الشعرية بشجر الإحساس، والقصائد بثمار هذه الأشجار.


وكأن الشاعر يلوم نفسه على العزوف عن الكتابة الشعرية، والتوقف عن تسجيل وتدوين ما تجود به قريحته، رغم أن تلك الأوراق الجديدة التي أعدها جاهزة لتستقبل مزيد من قصائده الجديدة، التي هي بمثابة ثمار شجر الإحساس لديه والذي سبق له أن دون مثلها وضمنها ذلك السفر....كل ذلك والوقت يمر مسرعا بينما هو مشغول في تشذيب حلمه بدلا من العمل على مزيد من الانجاز.

وما يميز هذا البيت هو استخدام الشاعر لكلمات غنية يرتبط بها تراث ديني قديم، ويوقظ في ذهن المتلقي ذلك التراث العبق. وذلك يتأتى تحديدا من خلال استخدام كلمات (العَذْراءُ ) و (سِفْرٌ).

ولكن الشاعر لا يكتفي باستخدام تلك الكلمات وما تحمله أو يرتبط بها من معنى تراثي عميق يغني النص ويجعله بالغ التأثير، ولكنه يشخصن الأوراق حين يصفها بأنها عذراء...فيجعل النص ينبض بالحياة والحيوية....وكأنها أنثى عذراء.

وتقفز حدة تلك الحيوية بشكل مهول حينما يجسد الشاعر، في الشطر الثاني من البيت، الأحاسيس بأن يجعلها مثل الأشجار التي تثمر قصائد (قطوف).

ولا شك أن لاستخدام وتكرار حرف الهمس (السين أو الشين) ثلاث مرات في هذا البيت له سحر استثنائي...واثر بليغ على نفس المتلقي.

==
وَلِلماءِ أُخْدودٌ يَقولُ لكَ اقْتحِمْ = عُيُونَ الشِّتاءِ الآنَ.. هَلْ أنتَ وَاجِفُ؟

ويستمر الشاعر في معاتبة الذات، مخاطبا نفسه قائلا....كيف تقف مكتوف الأيدي أي هذا، وأنت ترى الأشعار تتدفق مثل ماء يتدفق في أخدود؟ .. .كيف تقف مكتوف الأيدي وهذه الأشعار تتدفق كما هي عيون الشتاء المنهمرة من السماء؟ هي تناديك وتقول لك اقتحم...أي احمل قلمك ودون ما تجود به قريحتك فلماذا تقف هناك خائفا عاجزا؟
هنا يشبه الشاعر ما يدور في خاطره من أشعار تتفلت بأنها مثل ماء يتدفق في أخدود، أو عيون الشتاء المنهمرة من السماء، وفي ذلك كناية عن غزارة قريحته الشعرية.

وكأن الشاعر يعاني من صراع داخلي بين ما يشعر به من قطوف الأحاسيس التي تحاول أن تتفلت وتخرج إلى الوجود ، وعزوف، ووقوف وعدم رغبة في تجسيد اللحظة الشعرية المتأتية، وعدم ميل إلى تدوين ما يدور في خلده من صور شعرية بل نزيف شعري كما يصفه في بيت لاحق.

ويضاف إلى ذلك الصراع الذي يدور في نفس الشاعر والذي يجعل النص اقرب إلى الحياة كونها صراع متعدد الأوجه، نجد في هذا البيت أيضا الكثير من الحركة المتمثلة في جريان الماء في الأخدود، وفي انهمار المطر من عيون الشتاء...هذه الحركة التي تجعل البيت ينبض بالحيوية والحياة، خاصة انه وباستخدام كلمة " الماء" يستحضر في ذهن المتلقي ما يرتبط بهذه الكلمة من تراث ومعنى، وهي حتما كلمة مرتبطة بالحياة..."وجعلنا من الماء كل شيء حيا".

وباستخدام كلمة ( عيون ) استنفار لحاسة البصر لدى المتلقي...هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تأتي استكمالا لرسم صورة بالغة الجمال تتمثل في أخدود من المياه المتدفقة، وعيون من أمطار الشتاء المنهمر من السماء.

وفي استخدام كلمة أخدود استحضار غير مباشر للتراث المرتبط بقصة الأخدود "قتل أصحاب الأخدود" وهي طريقة ذكية لاغناء النص من خلال حشد كلمات يرتبط بها عمق تراثي غني.

أما استخدام كلمة "اقتحم" ففيه تضخيم للصراع القائم في نفس الشاعر.

وفي كلمات "يقول لك" استثارة لحاسة السمع لدى المتلقي وتعزير للحوار بين الشاعر ونفسه.

وفي استخدام كلمة "واجف" تلاعب على مشاعر الخوف عند المتلقي ومحاولة لاستثارتها.
ونجد في محصلة ما حشده الشاعر هنا، في هذا البيت، من عناصر قوة وجمال، وتأثير، وخاصة عنصري الصراع الداخلي، والحركة، ومن ثم صورة المياه المنهمرة من عيون الشتاء، والأخرى المتدفقة من أخدود الماء، وتلك الكلمات التي تحمل في ثناياها الكثير من الإرث الحضاري والديني، والأخرى التي تستثير الحواس والمخاوف...نجد أن الشاعر نجح هنا في نسج بيت شعر اقل ما يقال عنه انه ...رائع بحق وبالغ التأثير والجمال.
===
دَعِ القَلَمَ الوَرْدِيَّيَرْسُمُ دَرْبَهُ = زَوَاحِفَ ضَوْءٍ ما لهُنَّ حَرَاشِفُ

في هذا البيت أيضا يستمر الشاعر في مناجاته لذاته معاتبا لها على وقوفها مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا، في ظل ما يتدفق من أحاسيس في داخله وأشعار تتدفق في ذهنه وقلبه مثل المطر المنهمر من السماء أو المتدفق في أخدود الماء.

ويخلص الشاعر من هذه المناجاة والعتاب إلى دعوة نفسه إلى المبادرة بحمل القلم أو تركه ليرسم دربه بما يدونه من أشعار وقصائد.

وفي الشطر الثاني من البيت يشبه الشاعر القصائد والأشعار بزواحف من ضوء ولكن ليس لهن حراشف كالزواحف الحقيقية، وفي ذلك كناية عن غزارة ما يتوارد في ذهن الشاعر من أفكار وأشعار وقصائد هي في تدفقها جميلة وأشبه ما تكون بزواحف لكنها من دون حراشف.

وفي هذا البيت يلمح الشاعر إلى غزارة قريحته الشعرية وتلقائية ما يشعر به من أحاسيس وإشعار، تتدفق بسهولة وانسياب ودون عناء، فبمجرد حمل القلم سيبدأ القلم في خط ورسم دربه في عالم الأشعار والأحاسيس، دون تكلف أو عناء أو جهد يذكر، وستكون النتيجة تدوين الأشعار والقصائد والتي ستكون أشبه ما تكون بزواحف من الضوء لكنها خالية من الحراشف.

وفي البيت تلميح إلى أن الصراع الداخلي في نفس الشاعر ما يزال مستمرا، فمن ناحية هناك نزوع إلى الكسل والوقوف دون بذل جهد لتدوين تلك اللحظات الشعرية، ومن ناحية أخرى حث على ضرورة الاستفادة من ذلك الدفق الشعري وتحويله إلى قصائد.

كما نجد في البيت الكثير من الحركة والتي توحي بها كلمات "دع القلم يرسم" وكلمة "الزواحف"، وفي استخدام كلمة زواحف يرسم الشاعر صورة مهيبة مهولة لتلك الحالة التي ستنهمر فيها القصائد من خيالة وكأنها زواحف، والذي يجعل تلك الصورة شديدة الجمال والتأثير هو أنها زواحف من ضوء وليس لها حراشف.

ونجد أيضا أن الشاعر يشخصن القلم ويجعله كأنه قادر بذاته على رسم دربه وتدوين ما تجود به قريحة الشاعر من قصائد.

وفي البيت أيضا تسخير للألوان ( الوردي ) و (الضوء)، ولكن ربما أن أجمل ما في البيت هي تلك الصورة التي رسمها الشاعر بأن جعل الأشعار والقصائد وكأنها زواحف من الضوء.

كل ذلك يجعل البيت عظيما كتلك التي سبقته من الأبيات وهو أيضا ينبض حيوية وجمال، وله وقع عظيم.

==
وَكُنْ وَتَرًا لايَسْأمُ الليلُ عَزْفَهُ = وَكُنْ خَبَرًا فِي جَوْفِهِ مِنهُ طائِفُ

يكمل الشاعر حديثه مع ذاته مناجيا نفسه ويحثها أولا على أن تبادر إلى فعل الكتابة الشعرية وعدم الوقوف مكتوفة الأيدي بينما الزمن يمر مسرعا كما الحصان يخب خبا.

ويدعو الشاعر في البيت السابق نفسه أن تدع القلم يكتب ما شبهه الشاعر بزواحف من الضوء وهي القصائد الجميلة.

ويضيف الشاعر هنا وفي هذا البيت إلى ذلك دعوة ذاته الشاعرة إلى أن تكون مثل الوتر الذي يعزف موسيقى جميلة فلا يسأم الليل من عزفه لشدة جمال ما يقول.

كما يدعو الشاعر ذاته الشاعرة بأن تبدع وتزيد في العطاء حتى ينتشر خبر عبقريته الشعرية ويكون لشدة ما أنجز من عمل فني جميل ومؤثر مثل خبر تتناقله الألسن في جوف الليل.

ومن عناصر الجمال التي ضمنها الشاعر في هذا البيت تشخيصه للوتر وكأنه لوحده يعزف الحان جميلة وتشخيصه لـ الليل والذي جعله كشخص يُسر لما يسمع من الحان موسيقية هي قصائد الشاعر التي يحث ذاته الشاعرة على تدوينها.

وفي البيت ما يُحفز حاسة السمع، وفيه تسخير للألوان من خلال ما يشير إلى اللون الأسود وهو الليل.

ولا شك أن الموسيقى الداخلية في البيت لها وقع مؤثر على مسامع المتلقي خاصة بتكرار الألفاظ كن وترا ثم كن خبرا.

==
أوِاخْتَرْ وُقوفًا عِندَ ناصِيَة اللظى = هُنالِكَ جِسْرٌ نازحٌ بكَ عَارفُ

وهنا يخير الشاعر ذاته الشاعرة بأن تكون مثل الوتر الذي يعزف عزفا جميلا فلا يَمله الليل ولا الساهرين فيه، وحتى يصبح خبرا على كل لسان لجودة ما يقول من أشعار، أو إن كان لا بد من الوقوف فليكن ذلك الوقوف (عند ناصية اللظى) أي بالقرب من الطريق المشتعل نارا (لظى)، لعل ذلك الوقوف يزيد الشاعر اشتعالا واحتراقا وتألقا، فينتقل الشاعر من حالة ذهنية إلى حالة أكثر سموا وصفاء عبر ذلك الجسر.

وكأن الشاعر في هذا البيت يقول ما قاله نيتشة الفيلسوف الوجودي والذي قال " ليكن شعارك أن تعيش في قلق دائم وان تبني بيتك فوق بركان"، وكأن نيتشه بدوره يقول "أن الألماس يصنع تحت الضغط والنار الحاميةDiamonds are made under pressure"، وكذلك الشعراء والنساك، تصنعهم الآلام والمآسي، وإن لم يصبحوا شعراء فأنهم وبفعل تلك النار المشتعلة في ثنايا قلوبهم يتحولون إلى ما يشبه الملائكة في سموهم وصفاء روحهم، وحينما يقفون عند ناصية اللظى.

أو ربما أن الشاعر هنا يقول لذاته الشاعرة إن لم تُقدمي على فعل الشعر، وإن لم تكوني لحنا جميلا لا يمله الساهرون، فربما عليك احتمال ذلك الاحتراق الداخلي الذي ينتج على اثر امتناع الشاعر من تفريغ تلك الشحنات العاطفية الملتهبة في ثنايا قلبه وذهنه والتي تتشكل على شكل قصائد.

ففي البيت إذا مزيد من الدفع باتجاه كسر حالة الجمود أو العزوف والوقوف عن ممارسة فعل اللحظة الشعرية، من خلال تهديد الشاعر لذاته بأن تفعل ما ينبغي، وان تتحرك وتمارس فعل الشعر وإلا فلتشتعل احتراقا بفعل لهيب تلك القصائد التي تتفلت لتخرج إلى حيز الوجود.

وابرز ما في البيت من عناصر جمالية هو ذلك الحوار الذي نسمعه يدور بين الشاعر وذاته الشاعرة ، و ذلك الصراع الذي نراه يحتد ويتعمق بين الفعل والسكون وبين الشاعر وذاته الشاعره، ثم اللعب على مشاعر المتلقي من خلال استخدام كلمات ملتهبة يكاد المتلقي يصطلي بنارها ( ناصية، اللظى ).

ثم هناك استثمار للتضاد من خلال الحث على الحركة والفعل من ناحية وفي نفس الوقت الدعوة هنا إلى الوقوف عند ناصية اللظى، ومن خلال استخدام كلمة (نازح) وفيها ما يشير إلى الحركة.

وكل ما في البيت يجعله جميلا، حيويا، رائعا ويزيد من حدة التأثير للقصيدة بشكل مهول. ويرسم الشاعر من خلال هذه الكلمات صورة شعرية نادرة في جمالها وتأثيرها... بل قَلَ مثيلها.
===

بِعَيْنَيْكَ فَجْرٌ أنتَ تَنْزِفُ طُهْرَهُ = فَهَلْ شَهِدَ الرَّاءُونَما أنتَ نازفُ؟

في هذا البيت يوضح الشاعر سبب دعوته لذاته الشاعرة الى ضرورة الحركة والإقدام على فعل الشعر. فهو يرى بأن ما يكتبه من قصائد تحمل في ثناياها ولادة فجر طاهر جديد يظهر في عيني الشاعر.

ويطرح الشاعر هنا سؤالا استنكاريا: هل يا ترى يقدر المتلقيين (والراءون ) ما تنزفه من أشعار؟ تلك الأشعار التي ترسم ذلك الفجر الجديد.

وفي هذا البيت صورة شعرية جميلة للغاية حيث يشبه الشاعر فعل الشعر بالنزيف، ويشبه اثر الشعر بالفجر الجديد، ذلك الفجر الذي يكاد يطل من عيني الشاعر.

وكأن الشاعر يخاطب ذاته قائلا: كيف تقف مكتوف الأيدي وأنت بما تقوله من شعر جميل ترسم وتصنع فجرا جديدا.

ولا يخفى أن الشاعر هنا يفتخر بملكة الشعر لديه...إذ يرى بأن ما يقوله من شعر إنما يساهم في صناعة فجر جديد. وهو ليس شعرا ينز نزا، وإنما هو شعر غزير وهو أشبه في ولادته بالنزف.

وفي ذلك أيضا وصف للحظة الشعرية فهي ليست أمرا هينا وإنما عملية صعبة ومؤلمة وأشبه ما تكون بالنزيف النازف من العين.

وفي هذا البيت يستخدم الشاعر صورة شعرية ومحسنات أضافت إلى البيت جمالا وسحرا. فباستخدام كلمات ( عينيك + تشهد ) يوقظ في المتلقي حاسة البصر. وفي النزف ما يوحي بالحركة بل ربما بصورة الدم النازف من الجرح، ولكن النزيف هذه المرة هو نزيف قصائد تصنع فجرا جديدا، يولد من عيني الشاعر، الذي نراه يفتخر بأهمية دوره كشاعر.

ففي البيت إذا تأكيد على دور الشاعر في المجتمع ..فالشاعر ينزف شعرا..ويصنع فجرا.

==
تجَلَّيْتَ فِي مَعْنى الحُضورِ وَإنَّمَا = حُضورُكَ طَيْفٌ فَيالقراطِيسِ هَاتِفُ

وفي هذا البيت نسمع صوت الشاعر من جديد وهو يمجد ذاته ويمدح نفسه واصفا ما حققه في دنيا القصيدة من انجازات فيقول: أي هذا ...لقد كان لك حضورا جليا في عالم الإبداع الشعري، حضورا بارزا واضحا، عميق المعنى واضح الأثر، وكأنك الشمس الساطعة تظهر بعد ليل طويل فيكون ظهورها بارزا واضحا جليا.

وهكذا يصف الشاعر ما قدمه من انجازات شعرية، لكنه لا يكتفي بهذا المديح لذاته من خلال وصف حضوره المميز، بل يضيف إلى ذلك وتأكيد على شعوره بالفخر ومادحا نفسه، بأن ذلك الحضور لم يكن عابرا، ولا هامشيا، ولا يصعب ملاحظته... فهو بالإضافة إلى انه جلي واضح، فهو أيضا (طيف والطيف من الخيال والنور وهو ما يمكن أن يعبر إلى الذهن والقلب دون حواجز أو معيقات ).

وهذا الطيف استوطن دواوين الشعر، يكاد يسمع صوته، وهتافه، من بين أوراق تلك الدواوين، وفي ذلك ما يشير إلى مدى افتخار الشاعر بقدرته الشعرية التي يرى أنها أصبحت مثل الطيف الهاتف من بين الدفاتر ليخترق القلوب والأذهان، وكأنه يعيد إلى الأذهان قول المتنبي:

أنا الـذي نظـَرَ الأعمى إلى أدبــي ... وأسْمَعَـتْ كلماتـي مَـنْ بـه صَمَـمُ

لا بل هو يتفوق على المتنبي فهو لا يكتفي بالقول انه ولبلاغته وحضوره الشعري، كان قادرا على أن جعل الأعمى يرى شعره، وان يجعل الأصم يسمع قوله، بل إن شاعرنا يجعل حضوره (هتاف طيف) ذلك الهتاف الذي يخترق كل الأشياء والأجسام فحتى الجماد يمكنه أن يسمع لحن شعره الهاتف من بين ثنايا الكتب وليس فقط الأعمى والأصم.

ويبدو أن شاعرنا في طريقه لان يتفوق على المتنبي في فخره ومدحه لذاته ووصفه لقدراته على القول الجميل المؤثر.

ولا شك أن في البيت صورة شعرية بالغة الجمال فلك أن تتخيل عزيزي المتلقي صورة هذا الحضور فكلمة ( تجلى – تجليت ) توقظ في ذهن المتلقي معاني القوة، والرهبة، والنور الساطع، الذي لا مثيل له، والذي لا يمكن إلا أن يترك أثرا مزلزلا.

وفي الشطر الثاني يعزز الشاعر تلك الصورة الجميلة فيؤكد على أن ذلك الحضور لا يقتصر على التجلي وإنما هو في الواقع يصبح مثل الطيف الذي يستوطن الكتب ولكن الشاعر يشخصن الطيف هنا فيجعل له هتاف، ولا بد أن هتاف الطيف سيكون قادر على اختراق القلوب والعقول.

وباستخدام كلمة هاتف يوقظ الشاعر حاسة السمع لدى المتلقي مما يجعل لبيت الشعر هذا اثرا عظيما ومزلزلا.

ولا شك ان كاتب مثل هذا البيت من الشعر يستحق ان يفتخر بقدرته على قول الشعر الجميل.

يتبع..