عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2010, 01:23 PM
المشاركة 34
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
القفازات البيضاء



عاد هركول بوارو العربي إلى مكتبه متعباً وسأل سكرتيرته فاطمة إذا كان هناك من سأل عنه في غيابه فنفت ذلك. وتصفح الرسائل والبرقيات الواردة إليه بعدم اكتراث والقاها جانباً لخلوها من أي شيء هام ثم تمدد على أريكته المعهودة والقى قدميه بحذائهما على الصحف والمجلات الاسبوعية والشهرية الصادرة ذلك الصباح وراح ينفث دخان سيجارته في الهواء وهو يحلم بالقضية الكبرى التي تهز الرأي العام وتنقذه من خموله الجنائي الذي طال أمده، وتعيد له شهرته الآتية واسمه المدوي في عالم الاجرام والمجرمين كألمع مخبر خاص.

وفجأة رن جرس الهاتف رنيناً متواصلاً ملحاحاً فرفع السماعة واستوى في مقعده مستبشراً متحدثا:
صوت: الاستاذ هركول بوارو العربي؟
بوارو: هو شخصياً.
الصوت: سيدي أنا مفتش الأمن في قطار الشرق البطيء، وقد وجدنا أحد الركاب مقتولاً هذا الصباح وأريد مساعدتك للقبض على الجاني.
بوارو: ومن هو المجني عليه؟
الصوت: مجهول الهوية.
بوارو: ألم تعثروا في أمتعته أو في أو في جيوبه على أي شيء يثبت شخصيته؟
الصوت: لم نجد شيئاً ذا قيمة سوى خريطة مهترئة لفلسطين.
بوارو: وبقية الركاب؟
الصوت: معظمهم عرب.
بوارو: وماذا يفعلون الآن؟
الصوت: يؤنبونه.
بوارو: أنا قادم فوراً، لا تدع أحداً يغادر القطار.
وبسبب تجمع معظم المسافرين فوق جثة المجني عليه وتدافعهم لتقبيله ولثم جبينه وذرف الدموع على صدره لم يستطع هركول بوارو العربي لفت الأنظار إلى قدومه، كما أن أوامره بالتزام الصمت والهدوء لمباشرة مهمته ضاعت سدى وسط صيحات الثأر وحالات الاغماء، وتمزيق الثياب، ودق الصدور بالقبضتين، وتعداد مآثر الفقيد، مثل: يا عمود البيت، يا جسر المحبة، يا جسر العودة، يا زهرة شبابنا، يا معيل كفاحنا.
ولذلك استغل هذه الفرصة وانتحى بالمفتش جانباً.
بوارو: في أي مقعد كان يجلس؟
المفتش: في الحقيقة لم يكن له مقعد محدد. كان يجلس تارة هنا وتارة هناك، إلى أن انتهى به المطاف إلى الممر حيث يرقد الآن رقدته الأبدية. انه يعوق الحركة في حياته وفي موته كما ترى.
بوارو: عجيب. لا بصمات، لا آثار عنف. لا خصلة شعر. حتى ولا رماد سيجارة.
راكب: نحن لا ندخن. الدخان يضر بالصحة.
بوارو: ومن ذلك الشخص الممدد إلى جانب المجني عليه؟
المفتش: لا أعرف، ولكنه يقول أنه يريد أن يدفن معه.
بوارو: انهض يا هذا وعد إلى مقعدك.
الراكب: مستحيل. أريد أن أدفن معه. هاتوا رفشاً ومجرفة. لا استطيع الحياة من بعده.
بوارو: أين كنت عندما اكتشفت الجثة؟
الراكب: كنت في مقعدي استمع إلى إذاعة فلسطين. آه يا حبيبتي يا فلسطين!
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أقرأ ديوان "عاشق فلسطين" لمحمود درويش.
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أقرأ ديوان "الولد الفلسطيني" لأحمد دحبور.
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت أطالع تحقيقاً صحفياً عن ممارسات اسرائيل العنصرية داخل الأراضي العربية المحتلة. آه كم سيتحمل هذا الشعب ويتحمل!
بوارو: وأنت؟
راكب آخر: كنت استمع إلى أغنية "عائدون" لفيروز.
بوارو: وأنت، متى نمت ليلة الحادث؟
راكب آخر: في موعد اطفاء الأنوار، فأنا نظامي جداً وفوراً رحت أحلم بليمون يافا وبرتقال حيفا.
بوارو: خذوا أحلامه للتحليل.
المفتش: أمرك. سيدي.
بوارو: وأنت متى نمت ليلة الحادثة؟
المفتش: سيدي هذا يساري لا ينام ولا يدع أحداً ينام.
بوارو: ومن ذلك الذي يقف وحيداً في آخر القطار ويحك ظهره بالجدران والمساند؟
المفتش: إنه جربان سياسياً. لا يقترب من أحد ولا أحد يقترب منه.
بوارو: وذلك الممتقع الوجه والمتهالك على الأرض؟
المفتش: مغمى عليه.
بوارو: شمموه بصلاً.
المفتش: شممناه بصلاً، تراباً، برتقالاً وكل ما نعرف من منعشات دون جدوى. ولكن عندما شممه أحد زملائه دفتر شيكات صحا.
بوارو: أنت يا هذا، ماذا فعلت عندما سمعتب بالحادث؟
راكب آخر: دعوت فوراً لرأب الصدع وتناسي الخلافات وحشد الطاقات.
بوارو: وأنت؟
راكبت آخر: انهمرت الدموع من عيني ولم تتوقف حتى الآن ولن تتوقف حتى يكتشف المجرم الأثيم وينال قصاصه العادل.
بوارو: ماذا تعشيت في مثل هذا اليوم قبل 25 عاماً؟
الراكب: وما علاقة هذا بالحادث؟
بوارو: أنا أسأل وأنت تجيب.
الراكب: لم نكن نتعشى في تلك الأيام.
بوارو: لماذا؟
الراكب: كانت أياماً عصيبة يا سيدي.
بوارو: ماذا كنت تعمل؟
الراكب: موظفاً بسيطاً في أحد المصارف.
بوارو: والآن؟
الراكب: عندي مصارف.
بوارو: وكيف وصلت إلى ما أنت عليه؟
الراكب: من دعاء الوالدة.
بوارو: وأنت ما هي مهنتك؟
راكب آخر: محسوبك موظف بسيط في القضايا العامة.
بوارو: هل هذه أول مرة تسافر فيها بالقطار؟
الراكب: وآخر مرة. ولن اسافر بعد الآن إلا بطائرتي الخاصة.
بوارو: عندك طائرة خاصة، من أين لك المال لتشتري طائرة خاصة؟
الراكب: من راتبي يا سيدي.
بوارو: من أين أتيت بالمال؟
الراكب: في الحقيقة، في الواقع، في هذه الظروف العصيبة ...
بوارو: كفى. كفى. كيف كانت علاقتكم بالمجني عليه؟
الراكب: أخوية يا سيدي. كانت أحاديثنا أخوية وجلساتنا أخوية وسهراتنا أخوية ، حتى أننا كنا جميعاً نقرأ رواية "الاخوة كارامازوف".
* * *


وبعد أن جمع ما حصل عليه من معلومات اختلى إلى نفسه في مكتب المفتش وراح ينتقل بتحليلاته من متاهة إلى متاهة. وفجأة لمعت في ذهنه فكرة وقف لها شعر رأسه: لقد تذكر قصة "جريمة في قطار الشرق السريع" لأغاثا كريستي، التي كان فيها عدد الطعنات في جسد الضحية مطابقاً لعدد الركاب تماماً، وفي الحال خرج من المقصورة وأعاد التجربة. وعندما وجد أن عدد ركاب القطار مساو لعدد الطعنات في جسد المجني عليه صعق وانطلق هارباً من القطار وهو يصرخ: لن أصدق عيني. لن أصدق أذني. لن أذهب إلى عملي بعد الآن. لن أعود إلى بيتي. لن أسدد ديوني. لن أرسل أطفالي إلى الحضانة. ليخرج أبو سلمى وغيره من شيوخ العودة من قبورهم وليذهبوا إلى الحضانة.