عرض مشاركة واحدة
قديم 09-02-2010, 03:40 PM
المشاركة 13
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
شخصية المتنبي في شعره


بقلم الأستاذ: عباس محمود العقاد


".. فهو حيث قلبت من حكمته أو فخره أو غزله أو رثائه،
هو هو المعتد بفضله، الفاشل في أمله، الساخط على زمنه.."
شخصية المتنبيالتي نعرفها في شعره هي شخصيته التي نعرفها من تاريخه وتاريخ عصره وقد كان عصره عصر مغامرات ودعاوي سياسية ودعاوي دينية وخصومات مذهبية وشكوك جاءت من التفكير والاطلاع، وشكوك جاءت من اللجاجة في المناقشة والحوار. وكان أناس من طلاب المناصب يرتقون في ذلك العصر كما ارتقوا في العصور التي قبله إلى مناصب الوزارة وليست لهم من شفاعة في الظاهر غير شفاعة الكتابة والأدب. فكان في العصر ما يغري الأديب المغامر بالتطلع إلى جاه الدنيا من طريق المغامرة، ومن طريق البراعة الأدبية.
وكان المتنبي رجلا لا يعوزه الاعتداد بالنفس ولا الطمع في الجاه ولا ملكة البلاغة والقدرة على المنظوم والمنثور مع شيء من الفروسية كما ثبت من مجمل تاريخه ومجمل كلامه. فالشعر الذي نقرأه في الديوان لا يستغرب من الشاعر الذي نظمه ولا من الرجل الذي علمنا بسيرته من أنباء الراوين عنه، و"شخصيته" ماثلة هنا وهناك على صورة واحدة جلية متفقة لا تعقيد فيها ولا تنافر بين القول والحقيقة.
وقد غلبت هذه الشخصية حتى لا تشابه بينها وبين شاعر آخر في باب من الأبواب ولو تشابه العنوان والموضوع.
فالمتنبي متشائم، والمعري متشائم، ولكن الفرق بين المذهبين في التشاؤم كالفرق بين شخص المتنبي وشخص المعري في المزاج والخليقة والمطلب، وهو دليل على صدق الشخصية الشعرية عند كل من الشاعرين الكبيرين.
فالمعري متشائم لأنه حكيم يتدبر أحوال الخلق ويرثي لما هم فيه من الجهالة والشقاء لغير مأرب يريده إلا التأمل والحكمة.
والمتنبي متشائم لأنه صاحب رجاء خاب في الناس على غير انتظار، ولو لم يخب هذا الرجاء لما كان من المتشائمين.
والمعري ينظر إلى الناس في جميع الأزمان والأجيال لأنه يطلب المعرفة والعلم بالنفس الإنسانية. المتنبي ينظر إلى الناس في عصره ولا يعمم الحكم على الناس جميعًا إلا لما أصابه من زمانه وأهل زمانه، وذلك هو الفرق بين من يدرس الإنسان لتحقيق بحث ومن يدرس الإنسان لتحقيق أمل، أو ذلك هو الفرق بين الحكيمين المتشائمين والمذهبين المتباعدين جد التباعد على تقارب الكلمات والأسماء.
ولهذا يقول المعري:

كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء
وانصرفوا والبلاء باق ولم يزل داؤك العياء
حكم جرى للمليك فينا ونحن "في الأصل" أغبياء


أي نحن "بني الإنسان" أجمعين، وهو منهم، كما صرح في موضع آخر حيث قال:

كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفة وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا


أو قال:

بني الدهر مهلا إن ذممت فعالكم فإني بنفسي لا محالة أبدأ


أما المتنبي فمعظم تشاؤمه - بل تشاؤمه كله في جوهره - من قبيل قوله:

أود من الأيام ما لا توده وأشكو إليها بيننا وهي جنده


أو من قبيل قوله:

أريد من زمني "ذا" أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن


أو قوله:

وإنما نحن في جيل سواسية شر على الحر من سقم على بدن
حولي بكل مكان منهم خلق تخطي إذا جئت في استفهامها بمن
لا أقتري بلدًا على غرر ولا أمر بخلق غير مضطغن
ولا أعاشر من أملاكهم ملكا إلا أحق بضرب الرأس من وثن
إني لأعذرهم ممَّا أعنفهم حتى أعنف نفسي فيهم، وأني


أو قوله:

وقت يضيع وعمر ليت مدته في غير أمته من سالف الأمم
أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم وأتيناه على الهرم


أو قوله:

وبالناس روى رمحه غيرراحم ومن عرف "الأيام" معرفتي بها


فهو يتشاءم لعلة عارضة وهي أن زمانه وأهل زمانه لا ينيلونه ما ينشده من الجاه. ومن هنا كان الذنب عنده ذنب جيله ولا شأن له فيه. أما المعري فكان أصيلا في تشاؤمه لا يعيب أبناء جيله خاصة إلا لأنهم جزء من الناس أجمعين منذ كان آدم إلى أبد الآبدين. ولعل المتنبي لو نظر إلى الإنسان هذه النظرة لخرج من التشاؤم إلى التفاؤل، لأن رجاءه أن ينال على أيديهم ما ناله أمثاله ومن هم دونه في اعتقاده، دليل على أنه يرى الشأن فيهم أن يعدلوا ويعترفوا بالفضل ويعطوا ذا الحق حقه، ولو كان متشائمًا بطبعه لما عجب لفساد طباعهم وحاجة المرء بينهم إلى الدس والخداع والحيلة وإرضاء اللبانات والشهوات، وما من رجل يعتقد أنه صاحب حق ويعجب لفواته إلا وهو أقرب إلى التفاؤل منه إلى التشاؤم.

***

وهذه الشخصية ظاهرة في شعر المتنبي كله ظهورها في حكمته وتشاؤمه، ونعني بها شخصية الطامع المغامر المعتد بنفسه: فهو يتغزل كما يفخر ويصف كما يشكو أو يتهكم، وأعجب من هذا أنه يمدح أبطاله على هذا النحو، فيقول وهو في معرض العتاب والاسترضاء لسيف الدولة:

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم


إلى أن يقول:

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم