عرض مشاركة واحدة
قديم 09-02-2010, 03:35 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
حياة المتنبي


حياة متعبة ممزوجة بالدم


بقلم الأستاذ شفيق جبري

لم يخلق المتنبي لهذه الطبقات من الناس الذين يرغبون في هدوء الحياة، ويفتشون عن راحة الفكر ونعمة البال، فالعيون الرقيقة التي تؤذيها حمرة الدماء، والآذان الناعمة التي يؤلمها صهيل الخيل وقعقعة اللجم وصرير العوالي، والقلوب اللينة التي تخشى مغالبة الأيام ومطاعنة الدهر، لا تأنس بشعر المتنبي، ولا تنعم بمطالعته. إن هذه الطبقة من الناس التي تحاول أن تعيش في عزلة عن كل مغامرة في الحياة تفر من شعر المتنبي وتستوحش منه، فإن بينه وبينها آفاقا مديدة، فقلوب أهلها لا تخفق خفقان قلبه. فإن شعره يضجرهم ويقلقهم.
قضى أبو الطيب حياته كلها في المغامرات والمنازعات فكانت هذه الحياة سلسلة شدائد. فالمتنبي لم يخلق للحياة الهادئة الذليلة وإنما خلق لحياة الدوي ولحياة العز. فالذين يريدون أن تكون عيشتهم سالمة من كل ضيم بعيدة عن كل ذل، فإنهم يأنسون بشعر المتنبي فلا يبالون بتعب الأجسام وسفك الدماء ولا يحفلون بإبر النحل دون الشهد- خلق المتنبي لهذه الطبقة من الناس الذين يهون عليهم رزء جسومهم في سلامة عقولهم وأعراضهم فلا يحتملون الأذى ولا يغبطون الذليل، يأخذون من هذه الدنيا ما يمكنهم أخذه زاهدين في كل زق وفي كل قينة، راغبين في الفتكة البكر وضرب أعناق الملوك. خلق المتنبي لهذه الطبقة في الأمم التي لا تكسب المجد إلا من تضارب السيوف ومن سنان الرماح. خلق لهذه الأمم التي تقاتل في سبيل العلى وفي سبيل السلم وتبني مملكتها على الأسل وتطلب حقوقها بالطعن والضرب لأن الدنيا لمن غلب.
هذه هي الحياة التي أعد لها المتنبي. إنها لحياة ممزوجة بالدم بعيدة عن الهدوء والسكينة مملوءة بالقلق والاضطراب كلها نزاع وكلها غلاب. إن الحياة التي يريدها أبو الطيب إنما هي حياة القوة: قاتل غالب، هذا هو الهدف الأعلى الذي يرمي إليه المتنبي.
ولكن هل عاش أبو الطيب هذه العيشة التي وصفها في شعره؟ هل قلق هذا القلق؟ هل اضطرب هذا الاضطراب في حياته؟ أو على تعبير أدق- هل كان بين حياة المتنبي الخاصة وبين شعره شيء من التناسب؟
لست أعلم حياة ملئت بالجهاد من أولها إلى آخرها مثل حياة المتنبي. كان في أول أمره في خشونة من عيشه ورقة من حاله يعوزه كل شيء- يعوزه الناعم من الملابس والكريم من المطايا، فقد توفى أبوه فقيرًا فضرب أبو الطيب في مناكب الشام التماسًا للرزق وجال في البوادي والحواضر، ولم يكن له من المطايا إلا النعل والخف ولا من اللباس إلا القطن الخشن. ومع هذا كله ما كان يخلو من حسد الحساد وشماتة الشامتين وكيد الكائدين.
وما زال على هذه الحال حتى اتصل بسيف الدولة فغرق في مكارمه الباهرات فكان سيف الدولة يعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار ما عدا الخيل والجواري والخلع والجوائز والإقطاعات. ولكن نعمة مثل هذه النعمة لم تنج أبا الطيب من حسد الحساد وكيد الكائدين لأنه زاحم في حضرة سيف الدولة غيره من الشعراء على هذه النعم حتى مات بعضهم حسدًا. فلئن شكا أبو الطيب الحسد وهو في خشونة من العيش فأخلق به أن يضجر من الحسد وهو يتقلب في ظلال النعيم. فصعب حينئذ على المتنبي أن يواظب على باب سيف الدولة: الشعراء يحسدونه ويوقعون فيه ويضربونه، وسيف الدولة يهزأ به ويعبث، فإنه لم يصن عرض المتنبي ولا سلمت نعمته عليه من المنة والأذى.
ترك المتنبي سيف الدولة وانحدر إلى دمشقثم إلى الرملة واتصل بأميرها الحسن بن طغج فهدده جماعة علويون فما كاد يسلم من حاشية سيفالدولة حتى أثاره وعيد آخر فكأن بينه وبين المصائب صلة رحم.
غادر الرملة وقدم على كافورالإخشيدي فأمر له بمنزل ووكل به جماعة وأظهر التهمة له وطالبه بمدحه ثم وقعت الوحشة بينهما فوضع عليه العيون والأرصاد خوفًا من أن يهرب، وأحس المتنبي بالشر، ولم يخل أبو الطيب وهو في ظلال كافور من جماعة كانوا يغضبونه ويوغرون صدر كافور، فما أشبه ما كان يقع له وهو عند كافور بما كان يقع له وهو عند سيف الدولة من ابتغاء الغوائل به. فلم يلبث بعد هذا كله أن عجل الرحيل فضرب في البوادي متوجهًا نحو الكوفة.
وتنكر له عبيده في الطريق وفسدت نياتهم وأخذوا يسرقون الشيء بعد الشيء من رحله ولكنه نجا منهم إلى أن بلغ الكوفة. فتحركت نفس سيف الدولة فأنفذ إليه ابنه من حلبومعه هدية وطمع في رجوعه إلى ظله ولكن أبا الطيب اعتذر من العودة إلى سيف الدولة خوفًا من الوشاة.
ثم ترك الكوفةوسار إلى بغدادفثقلت وطأته في دار السلام على أهل الأدب ووقع بينه وبين أبي علي الحاتميما وقع، ولما نجا من شر أبي علي أصابه شر الوزير المهلبيوشر معز الدولة نفسه ونال شعراء بغداد من عرضه وتباروا في هجائه وأسمعوه ما يكره وتماجنوا به وتنادروا عليه.
فاتخذ الليل جملاً وفارق دار السلام قاصدًا إلى حضرة ابن العميد، فورد أرجان وأحمد مورده، ثم ترك ابن العميد وسار إلى أبي شجاع عضد الدولة. وكان الصاحب بن عباد طمع في زيارة للمتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وكتب إليه يلاطفه في استدعائه وضمن له مشاطرته جميع ماله، فلم يقم المتنبي له وزنًا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده، فاتخذه الصاحب غرضًا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته وينعى عليه سيئاته.
لم يعرج أبو الطيب على حضرة الصاحب وإنما قصد عضد الدولة بشيراز فأنجحت سفرته وربحت تجارته بحضرته ووصل إليه من صلاته أكثر من مائتي ألف درهم. واستطاب المتنبي الإقامة ببابه ثم استأذنه في المسير عنه ليقضي حاجات نفسه ثم يعود فأذن له وأمر بأن تخلع الخلع الخاصة ويقاد إليه الحملان الخاص وتعاد صلته بالمال الكثير. ولكنه لما سار من حضرة عضد الدولة ومعه ابنه محسد وغلامه ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والفضة والطيب والتجملات النفيسة والكتب السمينة والآلات- تعرض له قوم من بني ضبة فقتلوه بعد أن قاتل قتالاً شديدًا.
هذه خاتمة حياة المتنبي .
ولكني لم ألخص هذه الحياة المتعبة إلا لأجعل صلة بينها وبين شعر المتنبي فإذا نظرنا في طائفة من شعر المتنبي تبين لنا أن بين حياته الخاصة وبين هذا الشعر كثيرًا من التناسب، فمعظم شعر المتنبي يكاد يكون صورة هذه الحياة التي ملئت بالتعب والقلق والاضطراب. لم تكن الحياة في نظر أبي الطيب حياة هدوء وراحة. فالذين يريدون أن يعيشوا هذه العيشة التي وصفها المتنبي ينبغي لهم أن يهيئوا أنفسهم لكثير من الجهاد. جاهد المتنبي في حياته فزاحم ونازع وطاعن فكانت هذه الحياة المملوءة بالجهاد والمزاحمة والمنازعة والمطاعنة ملء شعره، فهو لم يصف هذا النوع من العيشة إلا بعد أن جربه وقاسى أهواله ولقي منه ما لقي. فالحياة التي يريدها أبو الطيب إنما هي الحياة السالمة من كل راحة ومن كل ضيم، وإذا وازنا بين حياته الخاصة وبين فلسفته في الحياة وجدنا صلة وثيقة بين هذين النوعين. إنه لم يذق الراحة كل عمره. وإنه لم يتحمل الضيم في ظلال سيف الدولة ولا تحمله في ظلال كافور ولا تحمله في ظلال الوزير المهلبي، فالمتنبي يعرض لنا في شعره نمطًا من تعب الحياة وجهدها ثم يضرب لنا مثلاً لهذا النمط. أما هذا المثل فهو حياته الخاصة من مبادئها إلى خواتيمها. علام نخاف الموت فقد يقتل العاجز وهو آمن في سربه؟. والمتنبي لم يخف الموت حتى في الأيام التي تفتر فيها الأعصاب ويميل فيها الإنسان إلى الهدوء. فقد قاتل لما تعرض له بنو ضبة القتال الجديد فلم يجبن ولم يهرب.
ما أتعب حياة المتنبي!

إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة فلا تستعدن الحسام اليمانيا



فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ولا تتقى حتى تكون ضواريا