عرض مشاركة واحدة
قديم 02-19-2016, 02:25 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ونواصل ...................

قال الشاب : عرفنا أن عهد عبد الناصر اختفي فيه مؤقتا الصراع الأيديولوجى بالمنع المباشر ولم يخرج فى عهده إلا انتماءات الشيوعية والعلمانية على استحياء ومع ذلك نجح عبد الناصر فى تشريدهم وأبقي على تماسك المجتمع من الفتن والتفرق ووجهه ناحية عدوه الطبيعى , فما الذى أعاد الصراع مرة أخرى ؟!
أجاب الكاتب :
من أكبر مصائب السادات رحمه الله , أنه تصور أن حرب أكتوبر قد أعطته حصانة شعبية وجماهيرية منافسة لعبد الناصر , لكنه غفل عن أهم سبب وأخطر مبرر كان وراء وقوف الجماهير خلف عبد الناصر واستمرار شعبيته لليوم ,
وهذا السبب أن عبد الناصر كان مخلصا فى تجربته ــ رغم أخطائه الكبري ــ فلم يستفد من الحكم شيئا تقريبا , ولا ناور أو داهن أو دلس على الناس بشيئ أو استأثر لنفسه بأى ميزة , ولم يستفد من أموال الدولة شيئا غير راتبه البسيط ,
والأهم من ذلك ..
أنه الحاكم المصري الوحيد فى العصر الحديث ومنذ ظهور الدولة القومية فى عصر محمد على , الحاكم الوحيد الذى نجح فى أن ينتقم للشعب من فئة الخمسة بالمائة التى تستولى دائما على تسعين فى المائة من ثروات البلاد بالتواطؤ مع نظم الحكم المستمرة من محمد على حتى عصرنا الحالى مرورا بفترة الملكية كلها ..

فلم يحدث أن جاء حاكم مصري من قلب الشعب نجح فى أن يجعل مشروع عمره هو استعادة ثروات البلاد المنهوبة فى أيدى الإقطاع أو رجال الأعمال الكبار الذين يتجبرون بالإستيلاء على كافة الثروات وبمنتهى التبجح ليظل الشعب تحت أردأ أنواع الفقر
وفى عهد الملك فاروق ــ أى قبيل قيام ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر ــ لم يكن الشعب يمتلك شيئا قط من ثروات بلاده بل تحكم فيها قلة قليلة جدا من باشوات العهد الملكى ورجال القصر حتى أن بعضهم كان يتملك من الأطيان الزراعية ما يعادل مساحة محافظة كاملة اليوم !!
بخلاف أن أقل شخص بين كبار الإقطاعيين كانت مساحة أملاكه تتعدى خمسة آلاف فدان على الأقل , ولهذا كان من المعهود فى ذلك العصر أن كل قرية ريفية مهما بلغ اتساع مساحتها كانت تدخل فى مسمى ملكية أحد الباشوات وحده , ويسميها بالإسم المألوف ( العزبة ) والعزبة هذه ليست كما نتصورها اليوم مساحة شاسعة وفقط من الأرض بل هى قرية كاملة بكل سكانها وما عليها ومن عليها يمتلكها هذا الباشا بل ويمتلك أرواح العاملين فيها إذا شاء دون أدنى محاسبة أو قانون من أى نوع !
فجاء عبد الناصر وبمجرد خلاصه من قضية الإستقلال العسكري قام من فوره بالإستقلال الإقتصادى وصادر كافة هذه الثروات دونما استثناء , وبجرأة غريبة يحسد عليها , ولهذا وقف الشعب معه وقوفا كاملا وحقيقيا لأنه بالفعل رد الحق لأصحابه , فهؤلاء الإقطاعيين لم يرث أحد منهم أو يمتلك شبرا من هذه الأرض بمقابل مشروع ــ إلا الندرة النادرة ــ بل كانت كلها تدخل فى باب العطايا والهبات , هذا فضلا على أن الشركات الأوربية التى كانت تعمل على الإنتاج الزراعى المصري وتستغله أسوأ استغلال تم اخضاعها جميعا للتأميم ,
والأهم من هذا أن عبد الناصر لم يسمح لنفسه أن يستفيد شيئا من هذه الأملاك بل قام بإعادة توزيعها على الملاك الحقيقيين لها وهم عامة الشعب من البسطاء , واستغل الفائض المالى الضخم الناجم عن مصادرة مصالح الإحتلال الإقتصادى ليدفع بمصر لأول مرة إلى عصر تصنيع جبار أسس به القطاع العام الذى ظل نظام مبارك ينهبه ثلاثين عاما !!

ولهذا وحده نقول أن تجربة عبد الناصر فى هذا الصدد تجربة غير مسبوقة فى جرأتها حيث أنه وقف أمام عتاولة الإقتصاد فى الداخل والخارج واستقل ببلاده استقلالا حقيقيا ولم يكتف بالإستقلال السياسي وحده
كما أنه قام بتصحيح أخطائه بعد النكسة ونجح فى تكوين الجيش على أعلى مستوى , وبسبب إخلاصه صبر الشعب عليه ولم يثر , ولم يكن هذا بسبب سياسة القمع كما يتصور بعض الناس , فسياسة القمع نفسها لم تنفع السادات عندما لجأ إليها بعد ذلك , لأن الناس لم تشعر به حاكما مخلصا بعد أن رآه الناس يخترق كل الثوابت القومية التى أسسها سلفه , فشعبية عبد الناصر كانت على أساس اقتناع الناس به فعلا وأكبر دليل على هذا أن الناصريين مستمرون لليوم فى افـتـتــانهم بالزعيم وحبهم له , وهذا ما لم يحدث مع أى حاكم معاصر فيما أعلم

أما السادات فلم يكن واضحا أو مباشرا مع الناس , بل كان مفتونا بألاعيب السياسة , والشعب المصري له طبيعة خاصة جدا أنه يدرك تماما ألاعيب حكامه مهما أخفوها ويـُـعـبّرون عن فهمهم باستخدام طريقتهم الأثيرة وهى التنكيت ..
ولهذا كان الخطأ القاتل للسادات أنه أفرج عن التيار الإسلامى من السجون ــ ليس بهدف رفع الظلم عن المظلومين منهم ــ بل بهدف استخدامهم سياسيا لمواجهة الناصريين والشيوعيين أصحاب الشعبية فسمح للإخوان والتنظيمات التكفيرية التى تكونت فى السجون بالعمل السياسي لقهر شعبية خصومه عن طريق التشنيع عليهم بتهمة الإلحاد والخروج عن الدين
وبالتالى ,,
وبعد أن نجح عبد الناصر فى قتل الخلافات الأيديولوجية بالقوة حتى لا تفتت الشعب , جاء السادات ــ ولأسباب سياسية ــ ليتفجر مرة أخرى صراع الأيديولوجيات القاتل لتعود نفس الدوامة ولكن مع ظهور طرف ثالث متطرف هذه المرة فبعد أن كان الصراع يدور بين العلمانية وما يشابهها وبين الأزهر , أصبح الصراع ثلاثيا بين العلمانية والتيارات الإسلامية والأزهر ,
وانتهى الأمر بالصراع الدموى المعروف فى فترة الثمانينات وما تلاها ,
ثم جاء نظام مبارك فارتكب الجريمة الكبري عندما استمر فى نفس سياسة السادات وبشكل أفدح , وهو استخدام التيارات الإسلامية كلعبة سياسية يلاعب بها الداخل والخارج أيضا لتحقيق أغراضه فى تثبيت حكمه ,
ولهذا دعم مبارك وحلفاؤه من العرب تسفير وإرسال شباب الجماعات للكفاح المسلح فى أفغانستان برعاية أمريكية , ومن تلك اللحظة انتقلت ولاية التيارات الإسلامية إلى الغرب ــ بعلم القيادات وجهل الشباب ــ ومن تلك اللحظة تكونت عشرات التنظيمات التكفيرية التى صارت ألعوبة فى أيدى الحكومات فى لعبة الإرهاب دون أن يقف أتباع هذه التنظيمات لحظة ليسألوا أنفسهم ماذا يفعلون وبرعاية من يقاتلون ؟!! ,
وكانت الجريمة الكبري الثانية لمبارك هى قتل دور الأزهر وتحجيم شيوخه وترك الساحة للإخوان والسلفيين ومنذ عهد الشيخ طنطاوى لم يستعد الأزهر مكانته بين نفوس الناس , بالذات بعد رحيل الأئمة الكبار كالشعراوى وجاد الحق والغزالى وهو الوضع الذى أدى بنا اليوم إلى حصر الصراع بين أنصار العلمانية وبين أنصار التيارات الإسلامية المختلفة , وغاب دور الأزهر الذى أصبح شيوخه وعلماؤه موظفون تقليديون وانشغلوا بلقمة العيش وصعوبة الحياة وأصبحت الساحة خاوية للتيارات المتناحرة ..
وهكذا عاد الصراع الأيديولوجى بأبشع مما كان ,
وبرعاية الدولة أيضا وتمكن مبارك بهذا من شغل الناس عن خطايا حكمه عن طريق إغراقهم فى تحزبات سياسية ودينية لا نهاية لها , كنا استخدم لعبة الفتنة الطائفية عدة مرات , حتى جاءت بدايات القرن الجديد وتكونت أجيال شابة جديدة انتبهت ــ فيما يبدو ــ لهذا الأمر فرفضوا الجميع وثاروا على الجميع وبهذا انطلقت ثورة يناير ,
ونظرا لأن الشباب عديم الخبرة بتلك اللعبة فقد نجح أطراف الصراع أنفسهم فى سرقة مكتسبات الثورة بنفس الأسلوب وهو أسلوب ( فرّق تسد ) , ولست أدرى حقيقة متى ستنتهى هذه اللعبة القميئة ؟!

سأل الشاب :
بعد هذا العرض الكافي لأساس التيارات المتناحرة , سندخل فى فوارق العلم والفلسفة , ولكنى أريد ابتداء أن أسأل سؤالا مفصليا فى النقاش ولا أصبر على إجابته ,
فى البداية عندما بدأ بعض الإعلاميين يتحدثون عن البخارى وكتب التراث كنا نسمعهم ونؤيدهم , ثم وجدناهم يتجاوزون قليلا فى الأوصاف , ولكن عذرناهم من شدة الغضب على السلفيين والإخوان , ولكن الذى أثار الاستغراب حقيقة أنهم بعد عدة أشهر من بداية الحرب ضد الإرهاب , سمعنا كلاما رهيبا ولم نغضب من الكلام بقدر ما أثار تساؤلنا , لأن الأمر وصل للسخرية من الأحاديث والمناداة بانتقاد القرآن !! ,
ثم كلام متجاوز جدا حتى بحق كبار الصحابة والخلفاء الراشدين ! والمناداة بأن الدين الذى نعرفه ليس الإسلام ولكن إسلام اخترعه جيل الصحابة بعد النبي عليه السلام !
ثم الذى يثير العجب أن الكلام والهجوم بدأ مركزا ومنتشرا جداــ تقريبا كل الصحف والقنوات ــ ورغم أننا دوما نسخر من نظرية المؤامرة إلا أن الأمر مريب بالفعل , ما سر هذه الهجمات الغريبة فى هذا التوقيت ؟!
قال الكاتب :
أنا أولا أحمد الله تعالى أنه حتى الشباب وغير المتخصصين فى علوم الشريعة وحتى أصحاب ثقافة انتقاد بعض كتب التراث , لاحظوا مدى التطاول والتبجح الذى يؤذى كل صاحب فطرة , واتضحت لهم أهداف أصحاب الهجوم لأن الله أعماهم عما يفعلون فلم ينتبهوا وأفصحوا سريعا بحقيقة معتقداتهم
ورغم أن إجابة السؤال ــ تشمل تقريبا موضوع الحوار كله ــ إلا أنى سألخص إجابة مختصرة فى ضوئها ستعرف مع من نتعامل , وستعرف أن من حذروكم من الانقياد لهجمات العلمانيين لم يكونوا متشددين أو يتهمونهم بالباطل , بل إن التحذير من سابق الخبرة فى التعامل معهم , وقلنا ساعتها لا يخدعكم ما يظهرون به على أنهم مجددون ويرغبون فقط فى تقديم صحيح الدين , وعما قريب سيطعنون حتى فى القرآن , فقلتم بأننا نبالغ !
وقلنا لكم ساعتها أنهم يستغلون تجارة الإسلاميين بالدين فى الفضائيات , وعندما ينتهوا من انتقادهم سيلتفتون لكل علماء الإسلام والصحابة , فلم تصدقوا

قال الشاب : يا أستاذ بعض الطاعنين الآن لم نسمع أبدا أنه علمانى أصلا بل كانوا مقدمى برامج دينية وتاريخية فكيف انقلبوا ؟!
قال الكاتب :
وتذكرون ساعتها أن كثيرا من الباحثين قالوا لكم , إن المهاجمين للسنة ليسوا فقط العلمانيين , بل إن أهل السنة تعرضوا عبر التاريخ لهجمات كل التيارات المعبرة عن الفرق المختلفة , واليوم يهاجم السنة كل من ينتمون للعلمانية وللشيعة وللخوارج وللإخوان فضلا على العداء التاريخى القديم لحركة المستشرقين وأذنابهم من دعاة الغرب ,
وستعرف خلال الحوار مفاجأة أعتقد أنها تصيب اليوم كل من كان غير متابع , ولكنى سأشرحها فى حينها ,
فرغم أن العلمانيين فى مصر هم من اعتدنا منهم هذا الهجوم , إلا أن الهجوم المكثف والمنظم هذه المرة لا يمثل العلمانيون فيه رأس الأفعى بل هم الذيل فقط , والرأس المدبر فرقة أخرى تعتبر هى شيطان الشبهات الأكبر على أهل السنة فى هذا العصر ..
فالهجوم هذه المرة يشهد تضافرا فى الجهود من سائر الأطراف , لأن حالة الشرق الأوسط بعد الثورات حالة سيولة كاملة , وكل طرف يهمه أن يكون الوريث للنظم السابقة فى الإقليم
فالطرف العلمانى والتغريبي يستغل عداء الناس للإسلاميين المتاجرين بالدين , والطرف المبتدع من أنصار الشيعة والصوفية يستغلون الأمر للهجوم على السنة ولكنهم لا يظهرون فى واجهة المشهد بل يلعبون كعادتهم من خلف الستار , وأنصارهم يستدرجون الناس بسابق حديثهم المغلف بالتدين , ويكفيك مثالا هذا الذى كان يمدح الصحابة وصنع برنامجا عنهم , انظر ماذا قال عنهم الآن والخلافة الإسلامية كانت كلها ــ حتى بخلافة الراشدين ــ خلافة دموية ووحشية , وليس فيها إلا سنوات عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز !! , فأين خلافة أبي بكر وأين خلافة عثمان وعلى عليهم رضوان الله ؟!
بل بلغت به الوقاحة للعيب فى عمر بن الخطاب ووصفه بأنه لم يكن ذلك الحاكم الملائكى أو المعصوم ونحن لم نقل أنه معصوم بل قلنا أفضل الحكام , والغرب المسيحى جاء منه كاتب اسمه مايكل هارت وضع عمر بن الخطاب ضمن أعظم مائة شخصية فى التاريخ الإنسانى !! وهذا الذى يدعى الإسلام يقول أن لديه اعتراضات على أسلوب حكم عمر !!
سأل الشاب : إذا الأهداف مختلفة باختلاف الأشخاص المهاجمين للدين ..
قال الكاتب :
كلا .. الخصوم متعددون وهدفهم واحد , هو علم الحديث , ولاحظ أننى لم أقل الحديث نفسه أو السنة النبوية أو علماء الحديث بل هدفهم علم الحديث نفسه وعليه تركزت هجماتهم , فهجومهم على البخارى ليس هجوما على كتب السُنة أو كتب الحديث النبوى ,
بل هجوم على علم الحديث ــــــــــــ كمنهج نقل ـــــــــــــ الذى هو الوسيلة الوحيدة التى نقلت لنا كلنا شيئ من العصور السابقة , فهو علم اختصت به أمة الإسلام عن غيرها من الأمم , ولا توجد ضوابط النقل فى علم الحديث عند أى أمة سابقة , ولهذا ضاعت منهم كتبهم المقدسة المنقولة عن الرسل وتم تزويرها ,
أما الإسلام , فقد قام أهله ــ بتوفيق الله ــ بابتكار هذا العلم لينقلوا لعشرات الأجيال من بعدهم القرآن والسنة والتاريخ والأدب وكافة العلوم , نظرا لأن الكتابة فى العصور الأولى لم تكن هى الوسيلة المعتمدة فى النقل وكان المعتمد هو علم الرواية الذى ينقل لك الألفاظ بحروفها وتشكيلها النحوى , ولولا ذلك لوصل القرآن محرفا لو نقلوه بالكتابة فقط , فلم يكن التنقيط والتشكيل معروفا فى ذلك الزمان ..
ولهذا فكل أعداء الإسلام ركزوا على تكذيب المصادر , بدء من كفار قريش الذين قالوا عن النبي عليه السلام أنه كاذب وأنه مؤلف أساطير , ونهاية بما يحدث اليوم مع الصحابة والعلماء
سأل الشاب : إذا طريقة الرواية والأسانيد هى التى نقلت كل شيئ وليس الأحاديث النبوية فقط !
قال الكاتب :
بالطبع , فعن طريقها تم تحديد الرواة لكل رواية فى أى مجال وعن طريق علم ( الجرح والتعديل ) تم وضع التقييم المناسب لكل راو , وبناء عليه يستطيع أى عالم حديث فى أى عصر أن يعرف من دراسة السند إذا كانت هذه الواقعة صحيحة أم لا , وهذا الحديث صحيح أم موضوع .. , ولم يكتف العلماء بنقد الأسانيد وحدها أو اعتمدوا عليها فقط , بل وضعوا مناهج لدراسة المتون أيضا واشترطوا خلو المتن من عيوب الشذوذ والعلل وهذا يتضح جليا من التعريف الذى وضعه علماء الحديث للحديث الصحيح حيث قالوا ( هو الحديث الذى ينقله العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه بغير شذوذ ولا علة ) "[1]"
وهذا يبين لك فى وضوح تعمد المهاجمين اللعب بعقول الناس والترويج لأن علم الحديث يعتمد على الأسانيد وحسب وأن العلماء يصححون المتون الشاذة لمجرد صحة السند , وهذا بالطبع لا علاقة له بقواعد علم الحديث بل إن هناك طريقة علمية يتقنها الراسخون فى علوم الحديث تجعلهم قادرين على تمييز الحديث الصحيح من الضعيف بدون النظر إلى السند أصلا , ولكنها طريقة لا يستطيعها ولا يتقنها إلا فطاحل هذا العلم ممن اكتسبوا الخبرة الهائلة بلغة وتعبيرات النبوة , وقد شرح الإمام ابن القيم هذه الطريقة فى كتاب شهير بعنوان ( المنار المنيف )
وبالتالى نجح العلماء فى تحصين الأحاديث عن طريق تحصين طرق النقل والنقد الحديثي , فهو الأساس لكافة علوم الشريعة وبغيره لا يبقي شيئ منها
ولهذا ركز المستشرقون هجماتهم من البداية على علم الحديث وحاولوا بشتى الطرق إيجاد الثغرات فيه , فعجزوا , واليوم يأتى الطاعنون ويسيرون على نفس الدرب , لأنهم لن يـُـتـعبوا أنفسهم فينتقدون الفقه ثم الحديث ثم التفسير ثم العقيدة ثم التاريخ ,
فكل هذا يتحقق تلقائيا إذا نجحت فى الطعن والتشكيك فى علم الحديث , وشككت فى صحة منهج نقل العلماء والرواة الذين نقلوا , وبهذا ينهار الدين له , وحتى التاريخ والأدب أيضا
ولهذا اجتمعت الخصوم على علم الحديث بالذات
,
فالمستشرقون الغربيون يهدفون لهدم الدين كله , والعلمانيون والشيعة والخوارج والفرق البدعية يهدفون إلى إلغاء السنة النبوية الصحيحة التى نقلها الصحابة والتابعون وتابعيهم , وذلك ليـَـحْلوا لهم تفسير القرآن على هواهم وتحريف فهمه دون أن تمنعهم السنة من الاختراع فى تفسير آيات الأحكام , وهذا كله يتحقق بضرب أصول علم الحديث ,
ولتقريب الأمر بمثال ,
فالكتاب السياسي المعتمد فى عصرنا مثلا هو الكتاب الذى يعتمد على التوثيق لكافة المعلومات الواردة فى متن الكتاب والذى يبنى الكاتب عليها تحليله , فإذا نجحت أنت فى إثبات كذب أو تزوير الوثائق انهدم محتوى الكتاب وما يتضمنه من تحليلات حتى لو كانت صادقة
أما مسألة توقيت الهجمات على السـُــنة ,
فهذه تجربة مكررة للعلمانيين وخصوم السنة , فهم يصطادون فى الماء العكر دائما , فالناس كلها الآن تواجه التشدد والإرهاب بنقد أفكار الإرهابيين وهؤلاء يستغلون الفرصة لنشر فكرهم الإرهابي المقابل القائم على شيطنة مجرد ترديد شهادة الإسلام أو الالتزام بفرائضه وأوامر الله ونواهيه , وقد فعلوها مرارا من قبل , فعندما واجهت الدولة إرهاب السبعينات وما تلاها , كان علمانيو اليوم وأساتذتهم لا يكتفون بمهاجمة شيوخ الإرهاب بل ضموا سائر شيوخ الأزهر ودعاته وعلى رأسهم الشعراوى إلى قائمة الهجوم والطعن واتهامه بدعم أفكار الإرهاب !!
قال الشاب : وما دخل مواجهة الفكر المتطرف بالهجوم على الشعراوى أو من كان مثله ..
قال الكاتب :
الهدف تنحية الدين نفسه عن حياة الناس بحيث يصير من حقهم هم ممارسة كل أنواع الزندقة والفجور , ولا يحق لك أنت مجرد تقدير الإسلام أو احترام أركانه أو القول بحرام على أى فاحشة وإلا فأنت إرهابي !

قال الشاب : إذا الهجوم ليس على الجانب السياسي وتاريخ الخلافة فقط
قال الكاتب :
يا صديقي تعال نحسبها بالمنطق المجرد , بغير أى قناعات , وأخبرنى ما الذى يزعج هؤلاء من تاريخ الخلافة الإسلامية , واتهامها بأنها ضيعت المسلمين , مع أن المسلمين عندما كانوا فى الخلافة المتحدة كانت حضارتهم تجوب الشرق والغرب , ليس سياسيا وعسكريا فقط , بل ونهضتهم العلمية لم يكن لها مثيل , وعلى المستوى السياسي كــنـّـا سادة العالم ,
والعلمانية لها فى مصر والعالم العربي قرابة قرن كامل , فأخبرنى بالله عليك ما هو حال المسلمين فى عهدهم التنويري ؟!!
وما النجاح الذى حققوه سياسيا أو أدبيا أو تاريخيا أو علميا منذ بدء الفترة الليبرالية وحتى يومنا هذا ؟!
قال الشاب : ولكن فكر الخلافة هو ما ينادى به الإخوان وجماعات العنف ؟
قال الكاتب :
هؤلاء المتخلفون لا ينادون بفكر الخلافة كأساس لوحدة عربية أو إسلامية متدرجة القوة , بل ينادون بمسماها فقط تحقيقا لأهداف شخصية أو أهداف غربية ,
فما شأنى أنا إذا جاء هؤلاء المتخلفون فتاجروا بشعار الخلافة أو قالوا بأن الخلافة هى اللحية الطويلة والجلباب الأسود ونبذ العلوم والحضارة واتخاذ السبايا والجوارى ؟!
وما شأنى إذا انتشر عبر العالم مخرفون ودجالون يقولون أنهم يعرفون المستقبل باستخدام علم الفلك , فهل نـُـبـْـطل علم الفلك كله ونلغيه لأن هناك من يتاجر به ؟!
وإذا جاء غاوى شهرة أو نصّـاب من النصابين وقال بأنه يعالج الناس بالطب الطبيعى والعشبي فهل معنى هذا أنه لا يوجد طب طبيعى حقيقي تم برعاية العلماء واعتمدوه
؟!
وهل وجدت أحدا يهتم بالاسم والمسمى من كلمة الخلافة أم أن المهم هو المقصود الأساسي وهو التحالف والاتحاد والنهضة العلمية والحضارية والتخلص من التبعية للغرب سياسيا وفكريا بغض النظر عن المسميات ؟!
ولو قامت فى الغد دولة عربية متوحدة المصالح ــ حتى بدون التوحد الفيدرالى ــ واتخذت لنفسها أى مسمى حديث بعيد عن مسميات الخلافة لكانت فى حكم علماء المسلمين خلافة متكاملة الأركان , فالعبرة ليس فى الألفاظ والمبانى ولكن العبرة بالمعانى والمضمون "[2]"
لكن العلمانيين يغفلون هذا الفهم عمدا رغم أنه الفهم المتواتر عن أهل السنة , ويصرون على نقد لفظ الخلافة وشكلياتها باعتبارنا نُـصر على هذه الشكليات كما يفعل مجانين التيارات الإرهابية , وبالتالى فهُم هنا ينتقدون فينا ما لا نعتقده أصلا , ويصمون الدين نفسه بالتخلف باعتباره يعتنى بالشكليات ولهذا يدعون لهجره وهجر حضارته باعتبارها لا تناسب العصر
وأنا أتعجب صراحة لعبقرية العلمانيين الفريدة فى حل المشكلات , فالحل من وجهة نظرهم إذا استغل الإرهابيون الدين , أن نلغي الإلتزام بالدين أصلا , !
وهذا حل فريد من نوعه للمشكلات , فدعونا ــ وفقا لمنطقهم ــ أن نلغي استخدام السيارات والطائرات لحل مشكلة حوادث وسائل النقل , والحل لتلوث الطعام أن نوقف استخدام الطاقة ونوقف الأكل !!
وهم يتهمون المسلمين بالتخلف لتمسكهم بعظمة تاريخهم , ولا يعيبون على الغرب تمسكهم بتاريخهم المحرف
!!
أين كلام هؤلاء المتخلفين من تاريخ الإسلام الذى حفل بآلاف الاختراعات العلمية كتب عنها وعن فضلها الغرب أكثر مما كتبنا نحن , ولو أنك عدت لفلم وثائقي مهم أنتجته قناة ألمانية بعنوان ( علوم الإسلام الدفينة ) ستعرف أى جريمة يرتكبها العلمانيون , فالفيلم يقول صراحة فى نهاية استعراضه لعلوم الإسلام فى الطب والرياضيات والفلك أن أساسيات هذه العلوم جاءتنا من المسلمين , وأن هذه الأساسيات انتحلها بعض علماء الغرب متعمدين , أى اتهموا رموزهم بالسطور العلمى على إنتاجنا , الأغرب أنهم حددوا بالاسم من هم هؤلاء العلماء "[3]"
قال الشاب : وماذا عن احتجاجهم بحقوق الإنسان ؟
رد الكاتب قائلا :
سأتركك تحكم بنفسك , ما هى أخبار حقوق الإنسان فى دولة العلمانيين يا ترى ؟! وما هى أخبار حرية الرأى فى فرنسا وأوربا مهد العلمانية ؟!
هل يستطيع أكبر كاتب أو أكبر عالم أن يخرج هناك وفى عصرنا الحالى فينكر الهولوكوست أو يحارب إرهاب الغرب وحكوماته لتحقيق مصالحه ؟! وما أخبار حقوق الإنسان فى تعامل الغرب معنا ؟!
وما هى أخبار حقوق الإنسان فى المجازر الحيوانية التى ارتكبتها دولة الغرب فى عهدها العلمانى ففاقت فى وحشيتها تاريخ أجدادهم فى عهد الكهنوت ؟!
وهل سمحت فرنسا للمسلمات ــ حتى من مواطنيها ــ بارتداء الأزياء المحتشمة التى يعتقدون بها ؟! وبالمقابل هل منعت اليهود من ارتداء رموزهم الدينية فى الملابس ؟!
وإذا كان هذا يحدث فى عصرنا الحالى فكيف يمكنك تصور توافر حرية الرأى ــ كما يتصورها العلمانيون ــ فى القرون الماضية ,
مع ملاحظة أننا نملك فى تاريخ الخلافة الراشدة وخلافة عمر بن عبد العزيز نموذجا متكاملا لحقوق الإنسان لم يصل الغرب حتى الآن إلى مستواه , فكان عهدا من العدل المتكامل لا توجد فيه سيطرة لطبقة على طبقة أخرى لا بمسمى رجال الأعمال ولا بمسمى العائلات الحاكمة , بينما الغرب حتى فى عصره الحديث لا يملك هذا النموذج , وطبقات رجال الأعمال فى أعرق الديمقراطيات تتحكم فى كل شيئ فعليا فى تلك الدول
وحتى تاريخ الخلافة فى عهد الأسرة الأموية والعباسية وأمراء الدول كان التعرض لحقوق الإنسان فيها وجبروت السلطان مرهون فقط بمن ينازع السلاطين حكمهم , وما عدا ذلك كانت العدالة مفتوحة لآحاد الناس أمام القضاء وهناك حوادث أكثر من أن نحصيها لقضاة اقتصوا لعوام الناس ضد أشرافهم بل وضد الحكام أنفسهم والقضاء فى الإسلام باب مستقل فى التاريخ يحتشد بمئات الأمثلة على نزاهة الحكم والأحكام ,
ولولا هذا لما مكنهم الله من هذا الملك العريض ,
ولولا وجود هذا الجو من العدالة والرفاهية للشعب الإسلامى ما خرج هذا الإبداع وخرجت هذه الحضارة , فمن المستحيل أن تخرج الحضارة والإبداع فى جو من الإرهاب كما يصورونه !
بل الأهم من هذا وذاك ما كانت جيوش دولة الإسلام تنتصر فى كافة معاركها مع القوى العظمى فى ذلك الوقت لو لم تكن الحكومات حكومات تحقق على الأقل العدالة الكافية للشعب كله , فالديكتاتورية تهدم الحضارات ولا تبنيها , كما أن الدكتاتورية تخلق جوا مريعا من عدم الإنتماء فتنهزم الجيوش مهما بلغت قوة عتادها , ولا يوجد جيش فى العالم ينتصر فى معارك خارجية وجبهته الداخلية ممزقة
فهل يمكن لعاقل أن يتصور الوحشية والدكتاتورية كأساس لحكم الخلافة بينما قواتها جابت الأرض شرقا وغربا وردت سائر الهجمات المنظمة التى تميزت بقوات هائلة وتحالفات عدة دول , بل إنه حتى فى فترات الضعف وتفرق الإمارات الإسلامية لم ينجح الغرب بالحملات الصليبية فى النيل من الدول الإسلامية رغم تكراره الأحلاف العسكرية لسبع مرات فى فترة الحملات الصليبية !
وفى نفس الوقت فى أوربا , كان ملوكها يلقون بخصومهم للأسود الجائعة , بل يتسلون بحفلات جماعية للمصارعة بين العبيد لابد أن تكون نهايتها بالموت لأحدهم ؟!
وفى محاكم التفتيش التى تم عقدها للمسلمين فى أوربا ابتكروا أساليب تعذيب تثير شفقة الشياطين على الضحايا !
واتحدي أى علمانى أن يأتى لى بسابقة شبيهة أو حتى مقاربة لذلك فى تاريخ الخلافة الإسلامية وعلى يد حكامها وبمباركة علمائها كما حدث فى الغرب , وكل ما يروجون له , ستجده بين أمرين إما أنه افتراءات محضة جلبوها من قصص الخرافات بلا مصادر مسندة , وإما أنها حوادث تمت فى فترات التفرق والتحزب والفتن التى تخللت التاريخ المستقر للخلافة
وعندما تسأل العلمانيين ما هو مبرر كراهيتكم لفترة الخلافة وهى باعترافكم كانت عصور علم وأدب وثراء وسيادة , لن يجيبوا أبدا لأن حقيقة كراهيتهم لها هى فقط كونها خلافة إسلامية أى مرتبطة بالدين !
ولو كانت هناك دولة ناجحة أو حتى ظالمة فى تاريخ المسلمين لكنها ليست مرتبطة بأهل السنة فسيعظمونها مهما كانت جرائمها ووحشيتها , وهذا يوضح هدفهم تماما أنهم يقصدون السنة وأهل السنة بالذات

الهوامش :
[1]ــ إختصار علوم الحديث ـ الإمام بن كثير ــ بتحقيق العلامة أحمد شاكر
[2]ـ قاعدة أصولية فى علم أصول الفقه
[3]ــ علوم الاسلام الدفينة ــ فلم وثائقي ـ أنتاج ألمانى ـ موقع يوتيوب