عرض مشاركة واحدة
قديم 02-10-2016, 02:57 AM
المشاركة 6
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

ونواصل .....
قال الشاب :
وكيف تمكنوا من فك الترابط بين عوامل الانتماء المتحدة إلى الدين والعروبة واللغة ؟!
قال الكاتب :
عن طريق دعم كل تيار حسب نوعه الذى يتحدد بميله الأكبر ناحية أى عامل من العوامل الثلاثة , فمثلا ظهر تيار الإخوان المسلمين ينادى بإعادة الخلافة التى سقطت , وبالتالى فهم تيار أقرب للدين فركزوا عليه ودعموه فى مواجهة التيار الليبرالى الذى اشتد عوده فى مصر عقب دستور 1923 م , واتخذ الطابع السياسي الغربي الذى يميل للعلمانية ولا يري أى دور للدين فى السياسة بل يري علماء الدين له وظيفة وعظية وفقط , وهذا بالطبع اختزال لدور علوم الشريعة فى الخطابة وحسب , وبالتالى كان من الطبيعى أن يتصادم هذا التيار مع التيار الإسلامى
ومع التعصب انحاز كل تيار إلى المرجعية التى اختارها أكثر وأكثر , فبالغ التيار الإسلامى فى رفض أى مظهر غربي حتى لو تم تمصيره وكان ضروريا لمقتضي العصر بل كانوا هم أول من تطرّفوا وقالوا بأن القومية والوطنية ضد الدين فزرعوا أول بذرة لهذه الفكرة الخبيثة التى تخلق تناقضا بين الدين والوطنية وهذا هو الذى يفسر لك لماذا سمعنا من التيار الإسلامى ــ فى تجربة حكمه ــ أقوال عجيبة تحتقر الانتماء الوطنى وتعتبره من خارج الدين ,
مع أن مرجعية أهل السنة تجعل أرض المسلمين وبلادهم من أساسيات التدين ولا تنبذ إلا التعصب سواء فى للدين أو للوطن
وفى المقابل رفض الليبراليون والعلمانيون أى وجود لعلماء الدين ــ حتى الأزهر ــ فى الحقل السياسي وظهرت فى تلك الفترة أشرس معركة ضد ثوابت الإسلام بدأت بالشيخ على عبد الرازق , وطه حسين , ولويس عوض , وغيرهم من دعاة التغريب لمحو أى هوية حضارية إسلامية وعربية فى مصر .. وجاهدوا لفك العلاقة بين الشريعة الإسلامية والقانون
وسكت الأزهر عن منعه من السياسة ــ بعد أن كان هو قائد الجماهير فى مجال السياسة ومواجهة الاحتلال والحكام ـــ لكنه لم يسكت على اتهامات المستشرقين التى أعاد العلمانيون والمتغربون نشرها والتى كانت تطعن فى وضوح حتى فى قدسية القرآن وأبطلوا هذا التغريب وحافظوا على عقائد الناس , لكنهم اكتفوا بمواجهة تلك الأفكار ولم يتدخلوا بشيئ فى المسائل السياسية إلا إصرارهم على عدم مخالفة الشريعة فى قوانين الأحوال الشخصية والقانون المدنى أو سلوك المجتمع وعدم الاعتراف بالفوضي الفكرية التى دعا لها دعاة التغريب تحت عنوان ( حرية الفكر ) وتصادموا طويلا مع هذا الاتجاه
وأما فى المجال السياسي أنشأ الإخوان وغيرهم من الحركات الإسلامية تكتلات وتيارات تعادى الليبرالية والعلمانية واشتعلت المعركة بين الجانبين ,
وكان الاحتلال البريطانى يدعمهما معا !
وبالطبع لم يكن أحد التيارين يـُـعبر عن مجموع الجماهير , فالجمهور ينتمى للإسلام والوطنية المصرية واللغة العربية فى قالب واحد , ولهذا كان الجمهور ــ غير المستـقطب ــ بعيدا عن هذا الصراع حول الهوية , وحتى المسيحيين فى مصر فى ذلك الوقت كانوا ــ كما هم ــ مندمجين حضاريا فى قالب واحد مع المسلمين بلا تفرقة من قبل ظهور التيار الليبرالى بمئات السنوات , وهذا ينفي ادعاء التيار الليبرالى أنه جمع بين عنصري الأمة , فهذا كذب محض فالمسلمون والأقباط مجتمعون فى وطن واحد منذ الفتح الإسلامى وحتى العصر الحديث ولم يفرقهم حتى زعماء الحملات الصليبية الذين حاولوا استغلال فارق الدين ففشلوا
ولكن فى المجال السياسي المحض ــ بعيدا عن معركة الهوية ــ كان الجمهور يقف مع حزب الوفد وزعمائه سعد زغلول ومصطفي النحاس فى مواجهة الانجليز والقصر والأحزاب التابعة لهم ,
ولو أن حزب الوفد أعطى الاهتمام للانتماء الحضاري الإسلامى بدلا من الإنتماء الثقافي للغرب , لما تمكّن الإخوان من كسب أى أنصار لهم فى الشارع المصري , ولكن لأن شعاراتها استقطبت الحس الدينى فى النفوس تمكنت من تجنيد الكثير من الشباب بل وبعض رجال الأزهر , مع أن اتجاههم السياسي الذى اتخذوه فى بدايات دعوتهم كان كفيلا بسحق أى شعبية لهم بين الجمهور لأنهم ناصروا الملك فاروق ضد الوفد , وناصروا أيضا رئيس الوزراء إسماعيل صدقي المعروف بجلاد الشعب !
واستخدموا الدين فى الترويج لسياسة الملك ورئيس الوزراء وبطريقة فجة , فعندما خرج الشعب يؤيد النحاس فى مواجهة القصر رافعين شعار ( الشعب مع النحاس ) رد الإخوان برفعهم شعار ( الله مع الملك ) , وعندما ثارت الجماهير ضد سياسة إسماعيل صدقي رفع الإخوان شعارات من القرآن لمناصرته ! , ورغم هذا النفاق الواضح إلا أنهم وجدوا أنصارا بسبب هيبة الدين فى النفوس

تساءل الشاب :
هذين التيارين أحدهما يؤيد الدين والآخر يرفضه ويؤيد القومية المصرية , فأين تيار العروبة ؟!
قال الكاتب :
ظهرت حركة القومية العربية كرد فعل على إنشاء إسرائيل عام 1948 م , بعد أن تجمعت أربعة جيوش عربية لتلك الحرب , وقصة الحرب والمؤامرة الغربية فيها منتشرة ومشهورة , "[1]"
لكن القومية العربية كحركة سياسية اكتسبت شعبية ساحقة فى ذلك الوقت , تبلورت على يد جمال عبد الناصر ــ لا سيما بعد حرب 56 ــ ورغم أن القومية العربية كحركة سياسية لا تتخذ الدين عاملا كمعيار مشترك للعرب بل تتخذ العروبة , وبالتالى فهى تصلح لأن تكون عاملا للفرقة لا للتجميع ,
إلا أن الصياغة والإخلاص الذى قاد بهما عبد الناصر تجربته أفشل به مخططات الغرب لفترة طويلة لأنه جعل من الاستقلال عن الغرب رسالته الرئيسية فى الحياة , ونجح فى تجنيد بعض الدول العربية التى تابعته وكذلك دول آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية لتكوين جبهة موحدة أرهقت الغرب كله , ورغم استناد تجربة عبد الناصر للاتحاد السوفياتى كخصم معضد ضد الغرب إلا أنه حافظ على استقلاله تماما فى مواجهته فمنع استخدام أراضيه كقواعد عسكرية للسوفيات رغم انتشار القواعد الأمريكية فى المنطقة ,
والأهم من هذا ..
أنه ظهر كممثل جديد للكتلة الصلبة من الجماهير التى عانت من صراعات النخبة بين الدين والعلمانية والشيوعية والقومية , فرفض استغلال الدين كأيديولوجيا , وبعد نجاحه فى الصراع بينه وبين الإخوان , حل الجماعة مرة أخرى ولم يكتف باستخدام القوة والاعتقال معهم وحدهم , بل امتد الاعتقال والحكم إلى من يمثلون الليبرالية والرأسمالية وأنصار التغريب بل حتى كل معارض سياسي له , وبالنسبة لمصالح وثروات الكبار فى ذلك الوقت
صادر هذا كله لصالح الدولة التى أعادت تقسيم الثروة من جديد , ثم كانت المفاجأة الغريبة فى أنه عامل الأحزاب الشيوعية فى مصر بقوة أكثر من الجميع رغم أنه كان حليفا للسوفيات , فأنشأ قسما خاصا بمكافحة الشيوعية فى المباحث العامة وتعقبهم كما تعقب غيرهم , وبهذا لم يعد هناك على الساحة خلاف أيديولوجى من أساسه , خاصة أنه فى سنوات ما قبل الثورة كاد الصراع الأيديولوجى ينقلب لحرب أهلية بعد أن استخدمت التيارات المختلفة القوة والسلاح
وفى نفس الوقت ,
أيقن مدى قوة ونفوذ الأزهر كمؤسسة عالمية , ومن أغرب الغرائب حقيقة , أنه أدرك العلة التى تعانيها المجتمعات الإسلامية فقام بتأسيس ( مجمع البحوث الإسلامية ) ونص فى قرار تأسيسه على ما نعتبره اليوم حلما بعيد المنال وأكتفي هنا بنص قرار قانون التأسيس :
( وجاء في قانون تأسيسه نصاً عام 1961 م :
المجمع هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية، وتقوم بالدراسة في كل ما يتصل بهذه البحوث، وتعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي، وتجليتها في جوهرها الأصيل الخالص، وتوسيع نطاق العلم بها لكل مستوى وفي كل بيئة، وبيان الرأي فيما يَجِدُّ من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة“!!)
ولو لم يؤسس عبد الناصر للأزهر سوى هذا المجمع بهذا الهدف .. لكفاه إنجازا , ولو ظل مجمع البحوث الإسلامية بنفس نظامه ونفس نفوذه حتى اليوم لحقق هدف الوحدة بأيسر السبل
كما لم يكتف عبد الناصر بذلك , بل أصدر قرارا باعتبار مادة ( التربية الدينية ) مادة إجبارية فى التعليم العام بعد أن كانت اختيارية , ثم عدّل القوانين المدنية بإلغاء إباحة الدعارة المقننة من العهد الملكى , فضلا على إلغاء إباحة القمار وصدر قراره بغلق كافة المحافل والنوادى والمطبوعات الماسونية "[2]" ,
ثم أقام لأول مرة المسابقات العالمية فى حفظ القرآن الكريم وكانت يعقدها سنويا ويُـسلم فيها ــ بصفته رئيس الجمهورية ــ الجوائز للطلبة
ثم أنشأ إذاعة القرآن الكريم , والتى جعلت لعلماء الدين ومشاهير قراء القرآن ذراعا إعلامية لا يُستهان بها , وفى عهده تمت طباعة الصحف الشريف مترجما بعدة لغات وتم توزيعه على أنحاء العالم بالذات فى آسيا وإفريقيا , وفى عهده أيضا تم جمع القرآن الكريم على أسطوانات مسموعة ترتيلا وتجويدا , ثم أضاف انجازا آخر فى تأسيس المعاهد الأزهرية بكثافة والتى سمحت للطالبات بالدخول إلى الأزهر لأول مرة , بخلاف الإنتاج السينمائي التاريخى , ومعظم الأفلام الدينية المشهورة التى يتم بثها فى المناسبات الدينية حتى اليوم هى من إنتاج فترة الستينات , بخلاف التوسع فى إنشاء المساجد التى بلغت فى عهده 21 ألف مسجد ..
ثم أسس أيضا مدينة البعوث الإسلامية التى فتحت أبوابها لاستقبال الطلاب الأفارقة ومن سائر أنحاء العالم ليدرسوا فى الأزهر ,
كما كـثـّــف إرسال البعثات من الدعاة إلى عمق إفريقيا لمقاومة موجات التنصير الأوربية ونجح فى دحرها ,
خاصة وأنه تنبه لأسلوب البعثات التبشيرية حيث كانت أوربا لا ترسل القساوسة ورجال الدين المحترفين فقط , بل كانت ترسل القساوسة ممن يمتهنون الطب والهندسة ونحوها , ليستقطبوا أهل تلك البلاد بالخدمات المادية والدعوة
,
فأصدر عبد الناصر تعديلا لقانون الأزهر ليضم الجامع الأزهر إلى جواره جامعة فيها مختلف تخصصات العلوم الكسبية يتم تدريسها إلى جوار علوم الشريعة فيتخرجون فى الأزهر علماء ودعاة فى نفس الوقت , ومن الغريب أن معظم شيوخ الأزهر رفضوا هذه التعديلات رغم أن الكليات المتخصصة فى الشريعة بقيت كما هى , إلا أنهم عادوا بعد ذلك بسنوات طويلة يعترفون بصحة قرار عبد الناصر بعد أن وجدوا فى إفريقيا أجيالا كاملة من المسلمين تحفظ لمصر هذا الصنيع ولا تنساه , وكانت هذه الأجيال هى ثمرة الدفعات التى تخرجت فى جامعة الأزهر دعاة وعلماء فى مختلف التخصصات ,
وقد نجم عن هذه العهود أن ارتفعت نسبة الدخول للإسلام فى إفريقيا وآسيا إلى نسب غير مسبوقة أوردها تقرير مجلس الكنائس العالمى بنسبة 7 من كل 10 وصلتهم الدعوة
هذا بخلاف إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامى وهى الجامعة الإسلامية التى كانت لها أدوار إيجابية أيضا فى تلك الفترة , "[3]"
أما العيوب الخطيرة فيما انتهجه عبد الناصر فقد تمثلت فى أن قانون الأزهر الجديد سحب ــ وإلى اليوم ــ الإستقلال الأزهرى الذى كان مبنيا على أوقاف الأزهر والتى كانت تكفل الإستقلال المادى والإدارى عن الحكومة , ولهذا أصبح الأزهر لأول مرة منذ نشأته تابعا للحكومة فى الإدارة والأوقاف , وبمعنى أصح لم يسمح عبد الناصر فى نظامه الجديد بوجود أى مؤسسة مستقلة يُـمكنها أن تعطل معاركه أو تمثل نقطة ضعف فى المواجهة مع خصومه
ولهذا السبب بالذات وبسبب اعتقاله للإخوان عقب مؤامرة تنظيم سيد قطب عام 65 تم تصوير عبد الناصر بأنه يعادى الإسلام , وهذا ما لا يمكن قبوله لأن الأهداف هنا سياسية محضة لا علاقة لها بالدين وتجربة الإخوان خير دليل على استخدامهم الدين كمنطقة نفوذ للسلطة بغض النظر عن المبادئ , والنقد الموضوعى لتجربة عبد الناصر يلزم له الحكم على أفعاله مع مراعاة الأجواء التى كانت دائرة فى عصره فلا يوجد حاكم يحمل الخير المطلق ــ بعد الراشدين ــ كما لا يوجد حاكم يحمل الشر المطلق إلا الندرة عبر التاريخ ,
والحكم الموضوعى للأسف يغيب تماما ــ بالذات فى العصر الحديث ــ بسبب الإستقطاب الأيديولوجى
فخلاصة تجربة عبد الناصر مع الأزهر أنه دعم جانبه الدعوى والدينى , ولكنه قضي على دوره السياسي الذى كان يقود به الجماهير قبل فترة محمد على , ولهذا استمر دور الأزهر الدينى كما هو
أكمل الشاب فى سخرية : المصيبة الكبري أننا لم نعرف عطاء عبد الناصر فى المجال الدينى من الناصريين , بل عرفناه من خصومه , بعد أن ظللنا فترة طويلة نصدق أنه كان يحالف الشيوعيين ويعتقد بمذهبهم المضاد للدين , ورغم هذا لم نقرأ كثيرا من الناصريين دفاعا عنه بسرد تلك الحقائق
قال الكاتب :
نعم , لقد ظل جيلنا يعتقد بهذا لفترة طويلة "[4]" ولم نكن نملك مصدرا نعرف به من أنشأ تلك المؤسسات حتى عرفناها من خصومه كما تقول , مع أن المتأمل المحايد كان يدرك ببساطة أن اتهام عبد الناصر باعتناق الفكر الإشتراكى سياسيا ودينيا ــ لا سياسيا فقط ــ يتضاد تماما مع تقويته لدور الأزهر واعتباره مصدرا للنفوذ المعنوى للدولة , بالإضافة إلى أنه مزّق الشيوعيين فى مصر ورفض كل وساطات الاتحاد السوفياتى للسماح لهم بالعمل , بل إنه غامر بالدخول فى مصادمة سياسية عنيفة مع الاتحاد السوفياتى بسبب أن طلبة البعثات المصرية فى موسكو اشتكوا له بأنهم لا يدرسون تخصصاتهم فقط , بل يصر السوفيات على تدريس المنهج الشيوعى لهم رغم أنه قائم على الإلحاد الصريح ويتعارض مع عقيدة الطلبة , فما كان من عبد الناصر إلا أن أصدر قرارا بتحويل الطلبة من الاتحاد السوفياتى إلى الجامعات الأمريكية , وبالطبع وافق الرئيس الأمريكى أيزنهاور ,
وبهذا أدرك السوفيات أن عبد الناصر يصر على موقفه , فأذعنوا واكتفوا بتدريس مواد التخصص لطلبة البعثات دون المنهج الفكرى الشيوعى
تساءل الشاب :
ولكن ما سر ولغز سكوت الناصريين عن الدفاع عن عبد الناصر فى تلك النقطة ؟!
قال الكاتب :
السبب الأول , أن الخلل كان من ناحيتنا نحن الشباب , لأننا وقعنا فى دائرة الاستقطاب فترة طويلة حتى خرجنا منها ,
السبب الثانى , هو أن عبد الناصر لم يكن ينتمى أيديولوجيا لشيئ , وإنما كان يلتزم إلتزام الرجل العامى بدينه ووطنيته وعروبته , لكن القوميين العرب من حوله لم يكونوا كذلك بل كانوا مؤدلجين بالكامل , فمنهم قوميون يساريون أو شيوعيون صرحاء لا يرون للدين دورا فى الحياة أصلا وينادون بفصل العروبة عن الإسلام , وكان منهم قوميون يرون الدين أمر شخصي لا مجتمعى , وكان منهم المعتدلون أيضا ,
والقوميون العرب الذين أحاط بعضهم بعبد الناصر كانوا يستميتون فى جذبه لصفوفهم واتخاذ العروبة واللغة العربية أساسا وحيدا للوحدة العربية , وتنحية الدين خارج اللعبة باعتباره ــ فى زعمهم ــ يفـرّق الناس ولا يجمعهم , والواقع أن أساس الدين هو التجميع لا التفريق لكن هؤلاء ــ فى تلك الفترة بالذات ــ وبدايات عصر الذرة والتقدم العلمى الهائل اعتقد الكثيرون منهم أن الأديان كلها خرافة ! , بالذات فى فترة شبابهم , ورغم أنهم تراجعوا عنها بعد ذلك ولم يعودوا بنفس الفكر , إلا أنهم إلى اليوم لا زالوا يعتبرون العروبة هى أساس الوحدة , "[5]"
مع أنهم لو تأملوا القضية ــ بدون انتماء أيديولوجى ــ لعرفوا أن العروبة نفسها ــ كعامل مشترك من المحيط إلى الخليج ـــ لم تولد أصلا فى التاريخ إلا على يد الإسلام , ولم تتوحد البلاد العربية من قبل قط على مفهوم العروبة وحده , لا فى التاريخ القديم ولا فى التاريخ الحديث ! , وأكبر دليل على فشل دعوة القوميين العرب هو فشلهم الذريع فى تأسيس الدولة العربية المتحدة ــ بينما دولة الخلافة امتدت أكثر من ألف عام ــ لأن الدول العربية التى رفضت موقفهم من الدين دخلت معهم فى خصومات مستعرة حول الرجعية والتقدمية , وحتى الدول العربية التى نهجت نهج القومية دخلت مع بعضها البعض فى صراعات حول مبادئ القومية نفسها فاصطدم الحزب البعثي الشيوعى فى سوريا والعراق واصطدم كلاهما مع الحركة القومية فى مصر .. إلخ هذه المناطحات التى لم تجلب إلا مزيدا من التشتت لأنها تبنت فكرة العروبة وحدها
ولو عدنا لتاريخ الجنس العربي ,
فالجنس العربي كان محصورا فى الجزيرة العربية من قبل الإسلام , وكانوا عبارة عن قبائل مختلفة متناحرة لم يتوحدوا على شيئ أبدا إلا على حج بيت الله الحرام , وفيما دون ذلك كانت المعارك بين القبائل متوالية ومستمرة وصراعات الزعامة كانت تشبه إلى حد كبير صراعات الزعامة بين العرب فى الفترة القومية !
ثم جاء الإسلام كحل سحري ربانى , يقول عز وجل :
( وألف بين قلوبهم .. لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم )
والآية صريحة وهى ــ إلى جوار حقائق التاريخ ــ تقرر أمرا واقعا أن الدين الإسلامى على مفهوم القرآن والسنة هو الذى وحّد العرب وألّف بين قلوب المتخاصمين , وأنه من المستحيل أن تكون العروبة وحدها عاملا للتجميع بل هى إن انفردت فهى عامل تفرقة فى منتهى الخطورة , لأن الدين الإسلامى كان هو السبب الرئيسي فى منع الأقليات العرقية من الصراع مع العرب فى مناطق نفوذهم بعد الإسلام فى آسيا وإفريقيا مثل الأكراد والأمازيغ والترك فكل هؤلاء استوعبهم الإسلام تحت رايته ولم تستوعبهم العروبة , فإن رفعت راية العروبة فسيرفع كل هؤلاء رايات قومياتهم ويحدث التناحر ..
ولهذا قامت الخلافة الإسلامية بجمع كلمة الشعوب فى آسيا وإفريقيا وأوربا وليس فقط فى المنطقة العربية , بل إنه لولا الإسلام , لما خرج العرب وانتشروا فى آسيا وإفريقيا وظل جنسهم محصورا فى الجزيرة , ولكن الفتوحات سمحت لهم بالهجرات المكثفة التى جعلت للسان العربي الجماهيرية الأكبر فى مصر والمغرب العربي والعراق والشام والداخل الإفريقي , وهى البلاد التى ينادى القوميون بالاتحاد بينها
لهذا منذ فترة القومية فى الخمسينات وحتى اليوم دخلت الدول العربية فى صدامات مختلفة مزقتها ومنعتها حتى من مجرد الإتحاد فى المصالح الاقتصادية وإنشاء سوق عربية مشتركة , بينما نجحت أوربا فى تكوين الاتحاد الأوربي رغم أن دول أوربا تحمل فى التاريخ القريب صراعات دموية وحروب أوقعت ملايين القتلى , ورغم هذا نجحوا فى الاتحاد رغم اختلاف الأديان واختلاف اللغة والتراث
وفشلنا نحن لأننا مضينا على الخط الذى رسمه الغرب ففصلنا بين عوامل الاشتراك الثلاث الدين واللغة والعروبة , فتمزقت البلاد العربية بين من ينادى بالدين وحده ــ وعلى فهمه هو ــ كأساس للتوحد , وبين من ينادى بالعروبة وحدها ويفتعل معركة حول الهوية المتجذرة فى التاريخ , وبين القوميات الضيقة التى تفجرت فى السبعينات فخرج من كل بلد من ينادى بفصل بلاده عن محيطها العربي والانسلاخ منه والتوجه نحو أوربا !

وبالمقابل ..
فالتيارات التى تبنت فكرة الإسلام وافتعلت بينها وبين القومية معركة فكرية , سقطت فى فخ التشرذم أيضا لأن تلك التيارات قدمت نفسها على أنها الراعى الرسمى للإسلام ! , وهذا هو عين التفرق لأنه ربط مرفوض بين الدين والأشخاص , وبالتالى فلابد أن يظهر التناحر ,
وجاء التغريبيون والعلمانيون فنبذوا العوامل الثلاث مجتمعة , وقالوا بأنهم متوجهون نحو الحضارة الغربية الحديثة , وليتهم اكتفوا بنقل التقدم العلمى , بل أصروا على أخذ باقة الغرب كاملة فنادوا بالطباع والتقاليد والفنون والآداب الغربية وحاولوا إدخالها لمصر على أن الغرب لم يتقدم بالتكنولوجيا وحدها بل تقدم بأفكار العلمانية والمذاهب المختلفة , فأهملوا التاريخ الحضاري الإسلامى واللغة وغيرها , وتفننوا فى استبدال ذلك كله بالأدب الغربي واللغات الغربية وبالطبع فتح لهم الاحتلال الإنجليزي سائر أبوابه ودعمه ,
واغتر كثيرون بفلسفة الغرب فى تنحية الدين عن مجالات الحياة دون أن ينتبه هؤلاء الحمقي إلى أن الغرب نجح بتنحية الكهنوت الذى كان عائقا للتقدم العلمى , أى أن الدين والكهنوتية هناك كانت سببا رئيسيا للتخلف , بينما نحن فى الإسلام لا كهنوتية عندنا بل الكهنوت محرّم تحريما باتا , والدين كان مقياس ومشعل حضارتنا بالأساس ولولاه لما تكوّن التقدم العلمى العربي ولا الحضارة العربية أى أن الدين عندنا كان سبب التقدم
وهكذا تحقق المراد الغربي الكامل للاحتلال بأن تفرقت الأمة العربية كلها على تلك التيارات الضيقة , وبالتالى انعزلت أكثرية الجماهير عن كل تلك الفرق , لا سيما وأن الإتهامات المعلبة التى صكتها الإتجاهات الأيديولوجية المختلفة كانت تتناثر منهم ضد مختلف خصومهم وكافة من ليس على مذاهبهم , وهى اتهامات مأثورة ومعروفة ولا زالت تثير استخفاف عامة الناس ,
فإذا عاديت أى تيار إسلامى حتى فى المجال السياسي فقط , فأنت بين خيار الكفر والبدعة , وإن صححت لأى تيار أو انتقدت الاتجاهات الفقهية والعقائدية المتناحرة , فلن تختلف التهمة كثيرا
وإن انتقدت القومية والشيوعية فأنت إمبريالى وعميل للمخابرات الأمريكية , وإذا خالفت ووقفت ضد دعاة التغريب والعلمانية فأنت ظلامى وإقصائي وتعبد كتب التراث وترفض التحضر والتجديد !! , وإن ناديت باستخدام اللغة العربية الفصحى وآدابها , ونبذ استخدام اللغات الغربية كأساس للتعامل والثقافة , فأنت متخلف وتخالف روح العصر !!
وهذا بعينه ما تنبأ به النبي عليه الصلاة والسلام للأمة فى آخر الزمان , وكانت وصيته القاطعة هى اعتزال كل تلك الفرق جميعها فى الحديث الشهور :
( عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم". وقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: "نعم، وفيه دخن". قلت: وما دخنه؟. قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر". قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟. قال: "نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: يا رسول الله صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك" )
وقد تحدث العلماء فى ذلك فبينوا أن الاعتزال يكون بالتزام منهج أهل السنة ــ الصحابة ــ فى العقيدة والأصول والثوابت , ثم اعتزال كل المتناحرين الذين ستعرفهم بعلامة توضح لك بسهولة أنهم ليسوا من الجماعة , ألا هى التفرد والتميز عن الناس إما بالعقائد المخالفة أو بفقه مخصوص ينبذون ما سواه أو بشخص ــ أو عدة أشخاص ــ يتخذونهم أئمة لهم دون سائر أئمة المسلمين , أو حتى بسمت وزى وهيئة تميزهم عن عامة المسلمين ..
واعتزالك لكافة المتناحرين وتمتعك بالإستقلال فى مواجهتهم , واتخاذك مبدأ ( معرفة الحق ثم الرجال ) هذا كله سيجلب لك عداوات كافة التيارات دون استثاء , وهذه النقطة بالذات أجدها علامة الطريق الصحيح ــ إن شاء الله ــ لأن أهل السنة ــ عقائديا ــ اكتسبوا عداوة جميع الفرق , وأهل الصواب من عامة الناس ــ سياسيا ــ تلقوا الاتهامات من كافة التيارات التى لا يؤيدون أحدا منها

الهوامش :
[1]ــ حرب 1984 م , هذى من مساخر التاريخ العربي فى الحقيقة وشر البلية ما يضحك , فالبلاد العربية التى أرسلت جيوشها بعتادها مهيض الجناح كانت كلها تقريبا محتلة وتحت سيطرة الانجليز الذين زرعوا اليهود فى فلسطين ,
ومع هذا سمح الانجليز بتحرك الجيوش العربية إلى فلسطين وكانت القيادة معقودة فى ذلك الوقت لعاهل الأردن الملك عبد الله وبالتبعية كانت القيادة الميدانية لقائد الجيش الأردنى الذى هو فى الأصل جنرال بريطانى يدعى جلوب باشا !!
واكتملت المساخر بانسحاب الجيش الأردنى فجأة أثناء المعارك مما أوقع الجيش المصري فى حصار الفالوجا الشهير وانتهت الحرب باستيلاء اليهود على أضعاف المساحة المقررة لهم فى قرار التقسيم الذى رفضه العرب آنذاك
[2]ــ من سخرية القدر أن عبد الناصر ألغى هذا البغاء وعندما جاء الإخوان للحكم قاموا بمد تراخيص الخمور والملاهى لثلاث سنوات بدلا من سنتين فى عهد مبارك بالإضافة إلى زيادة الضرائب عليهما
[3]ــ مقال إحصائي لعصر عبد الناصر نشرته شبكة التجديد العربي فى مايو 2011 م
[4]ــ كاتب هذه السطور وقع تحت الدعاية المضادة لعبد الناصر وكان مجمل الاعتراضات على عصر عبد الناصر تتمثل فى عنصرين رئيسيين , عداؤه للإسلام ( كما كان يروج الإخوان ) , والعنصر الثانى الاستبداد السياسي وتمكين أهل الثقة الذين أشاعوا الفساد فى البلاد , وبعد ظهور حقيقة موقفه من الإسلام لابد أن نعترف أنه كان اعتراضا فى غير محله , وبالتالى تظل مشكلة عبد الناصر وعصره فى القمع والسكوت عن القيادات الفاشلة بالذات فى الجيش وهذا الانتقاد يعترف به حتى الناصريين أنفسهم
[5]ــ من يطالع كتابات وأفكار عمالقة عصر عبد الناصر فى تلك الفترة يصاب بالذهول من الإلحاد الصريح الذين يتكلمون به لكن معظمهم تراجع عن هذه الأفكار وظهر التراجع واضحا فى كتاباتهم الحديثة بعد تقدمهم فى العمر والتجربة

يتبع ..