الموضوع: ما زلت أنتظر !
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
9

المشاهدات
1982
 
خديجة قاسـم
من آل منابر ثقافية

خديجة قاسـم is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
475

+التقييم
0.37

تاريخ التسجيل
Oct 2020

الاقامة

رقم العضوية
16277
12-14-2020, 02:28 PM
المشاركة 1
12-14-2020, 02:28 PM
المشاركة 1
افتراضي ما زلت أنتظر !
اعتدت أن أراه عند الإشارة المرورية، تلك الإشارة البغيضة التي يمرّ الوقت معها كزحف السّلحفاة
بقامته الصغيرة التي تنبئ عن أعوام قليلة ربما لا تتخطّى التاسعة، وقبعته التي تقيه حرّ الشّمس اللاهبة، ونظرته الطفوليّة البريئة التي تجعلني أتساءل عمّا إن كان من أولئك الذين اتخذوا التسوّل حرفة، أم هي الحاجة التي قيّدته بأغلالها ودفعته لترك فراش أحلامه منذ الصباح الباكر حاملا بضعة أكياس من المناديل الورقية منتظرا بلهفة إغلاق الإشارة ليعرض بضاعته المتواضعة على المنتظرين المتذمّرين من الوقوف طويلا مقابل الضوء الأحمر بكل ما يحمل من قوة المنع والزجر
يقبل عليّ حين يراني، يتوسّل ويلحّ ويمعن في إصراره .. وأنا ما بين صوت ندائه وحديث نفسي ما زلت وبإصرار أتساءل إن كانت الحاجة أم العادة.
ألفت نظره إلى الكرسي الخلفي حيث ما اشتريته منه سابقا -أو من غيره لست أذكر- ما زال يقبع ساكنا وبلا حراك دون أي تغيير في تفاصيله ..
يلحّ قليلا ثم تحت إصراري ونصحي له بأن لا يضيع وقته معي يتركني إلى غيري ..
لا أنسى في إحدى المرّات حين لمحني جاء بكل همّة ونشاط وكأنه يقفز ليصل إلي وهو يقول: هيّا منذ مدة لم تشتري منّي، جعلني أتبسّم وغصّة تمازج ابتسامتي في زخم حيرتي: ما حكايته ؟ ماذا وراءه؟ أهي الحاجة أم التسوّل؟ أين العدالة وأين المتشدّقون بحقوق الإنسان وحقوق الطفولة؟ وأي انتهاك أكبر من أن تستباح البراءة وتذبح بسكاكين الفاقة والعوز؟
تتلاشى ابتسامتي و تبقى الغصّة عالقة في قلبي وأنا أواصل سيري وأمضي في طريقي.
آخر مرّة رأيته فيها، جاءني كعادته لكن هذه المرّة لم يعرض بضاعته بل سألني:
- أنت من سكان ....
- أجل
- هل تعرفين أم "فلان"
- كلا
انتابني فضول لمعرفة من تكون أم "فلان" لكن ما رغبت أن أعطّله وهو يبحث عن رزقه بين أكوام السّيارات تائها بينها بحجمه الضئيل وأحلامه المؤودة.
لا أدري لمَ خطر ببالي ذات مساء، فوجدتني أخبر أمّي عن ذلك الطفل الذي كثيرا ما أثار انتباهي دونًا عن غيره من زملاء مهنته سائلة إيّاها عن أم فلان إن كانت تعرفها ..
- أجل هذه السيّدة من أولئك الهاربين من جحيم الحرب فقدت ابنها وتقوم بتربية أبنائه من بعده
يا إلهي كم جاءني الردّ صاعقا.. لا سيّما حين أخبرني أخي أن هذا الصغير حفيدها!
ليتني سألته من تكون أم "فلان " ولماذا يسألني عنها
ليت الوساوس ما دارت في رأسي إن كان محتاجا أم متسوّلا
ليتني في كل مرّة أقبل عليّ طالبا مني شراء ما لديه لبّيت طلبه
ليت وليت وليت .. ويا ليتها تنفع ساعة ندم!
انتظرني يا صديقي، هذه المرّّة أنا التي أتلهف للقائك وحينها، لن أضطرك للكلام، سأشتري منك بسرعة كي أفسح المجال لتذهب إلى غيري تطلب رزقك في زحمة هذه الحياة الظالمة.
ما عادت أمنيتي الاعتيادية أن أجد تلك الإشارة البغيضة خضراء، بل وبكل رجاء أريدها حمراء ليتسنّى للرجل الصّغير أن يراني ويقبل كعادته.
مرّة تلو الأخرى، نظراتي تبحث عنه هنا وهناك لكنّها ترتدّ خائبة متسائلة: كم من مثيل لهذا الصغير وراءه حكاية موجعة تختبئ خلف جدران الخيبة والانكسار ..
ما زلت أبحث عنه في كلّ مرّة أكون هناك .. وما زلت أتساءل بحسرة وندم :
أين أنت؟!

من ذا يخبره أنني ما زلت على ناصية الندم أنتظره ..!