عرض مشاركة واحدة
قديم 04-03-2012, 10:38 PM
المشاركة 350
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
III. ﮔﺎرَا ، شاهد على الزمن
إن اتراجيديا والدين واختيار المكان والزمن السيسيو تاريخي، تشكل مسوغات أسست خلال الحكي وجوه ﮜارَا المختلفة. والحدث الملهِم الذي انطلق منه الحكي، في مدينة الرياح، كان اكتشافَ هذا الاسم. كانت الفكرة التي سبقت اكتشاف اسم بطل الرواية وكتابتها تتصور عملا روائيا أقرب إلى اللوحة السيسيو تاريخية للمجتمع الموريتاني. هكذا فرضت الفترة المرابطية نفسها كبداية، لأنها المرحلة المؤسسة لتاريخ هذا البلد. في تلك الفترة كان صنهاجة يقطنون شمال وغرب موريتانيا، بينما كان ﮔﻧﮕار َ يسكنون الجنوب والجنوب الشرقي، فيكون إذن المجتمع الصنهاجي-ااﮕﻧﮕارِي هو مجتمع الرواية. ومن ثم جاء دور موسيقى التيدنيت التي أنتجها المجتمع الصنهاجي- ااﮕﻧﮕارِي ، بثلاثيتها التي طبعت ثقافة البيضان والتي شكلت ثلاثية النص. وخلال بحثي عن أسماء شخوص هذه الفترة التي قد ترد في الحكي، اكتشفت أن الاسم الحقيقي لعبد الله بن ياسين، داعية المرابطين، هو سيدي عبد الله مُولْ ﮜارَا ، ووجدت أن "ﮜارَا" اسم يعبر بجلاء عن تلك المرحلة من تاريخ هذا البلد، ببعديها الصنهاجي و ااﮕﻧﮕارِي. ف"ﮜارَ" (قَارَةٌ) كلمة تحمل رنينا سودانيا ﮔﻧﮕاريا، وهي في نفس الوقت كلمة بيضانية عربية تعني –كما ورد سابقا- الجبيل الأسود الشاهد. وبما أن سيدي عبد الله مول ﮜارَا، المعروف بابن ياسين، كان بطل تلك الفترة التاريخية، توصلت إلى نتيجة مؤداها أن اسم بطل الرواية سيكون "ﮜارا". وجاء اسم أبي البطل "فارَا مُولْ" نتيجة لهذا الإلهام: "مول"، إشارة إلى الأصل البربري لاسم ﮜارَا، و"فارا" إشارة إلى أصله ااﮕﻧﮕارِي. وهكذا تكون ثنائية الفترة، بجانبيها الصنهاجي و ااﮕﻧﮕارِي ، قد تجسدت في اسم البطل. عندها بدأت استكشف هذا الاسم، أعني اسم ﮜارَا ٬ لأن الاسم، كما يقول رولان بارت(Roland Barthes) «يمكن أن يستكشف وأن يتكشف وتحل رموزه. فهو وسط بالمعنى البيولوجي، يمكن أن نغوص فيه، ونسبح إلى ما لانهاية في التأملات والمتخيل اللذين ينطوي عليهما٬ كما تحتوي الصَّدَفَةُ درتها، أو كما تختزن الوردة أريجها قبل تفتقها. وبعبارة أخرى فإن اسم العلم يحمل دائما في طياته معنى مكثفا.»
إن تفتق معنى ودلالات اسم ﮜارَا هو الذي أعطى لشخص بطل الرواية وظيفته كشاهد على الزمن الغابر، و الذي يمكن أن يجتاز الحقب. وهذا المعنى المستوحى من طيات الاسم هو الذي أوجد فكرة حكي يتناول فترات زمنية متباعدة؛ كما أنه أوجد فكرة انتقال البطل من الزمن الفلكي إلى اللازمان، لكي يتمكن من الانتقال من فترة زمنية إلى أخرى. ومن ثم جاءت فكرة الزمن الكهفي وفكرة الخضر، مَلَكُ الزمن، الذي يمكن البطل من الانتقال في اللازمان. يظهر من هذا أن الرواية كلها تبلورت انطلاقا من استكشاف دلالات هذا الاسم.
يرمز ﮜارَا لوجوه عدة من أسطورة أُدِيبْ (Œdipe) : فهو مثل لايوس (Laïos) والد أديب، تخبره الكهانة بأن ابنه سيقتله، كما أخبرت Laïos في الأسطورة اليونانية. لكن ﺗﻧﮕَلَّ، قاتل جده والمتزوج جدته، لم يفقأ عينيه ، كما فعل بطل اتراجيديا اليونانية، لأنه الأديب التقاني، الغارق في الظاهر، المنغمس في الخطيئة.

هكذا يُنْزَعُ البطل من الزمن، ليُخلص من مأساته، وليصير شاهدا عليه. فيتحول إلى كائن خارج الزمن، يُنتشل ليدلي بشهادته. إلا أن ﮜارَا كان منقطعا عن ذاته وعن الآخرين وعن الزمن الماضي، عاجزا عن التذكر في كل الفترات التي عاشها بعد الفترة الأولى. النوم وحده هو الذي يمكنه - في نوبات أحلام وجيزة- من الشعور بذاته وبالأزمنة الغابرة التي عاشها. لكنه مع كل يقظة يفقد ذاته ويرجع إلى عبثية وجوده. فقط ٬ وبعد موته٬ عندما انتشل بعد أزمنة طويلة، باح بسره، ودخل دائرة الخلود. بعد تحليل معهد أركيولوجيا الفكر الإنساني لبقايا مادة لَمْيَلِينْ في جمجمته ، ظهرت الأفكار التي اختلجت في نفسه لحظة سكرة الموت، والتي حملت شهادته على القرون التي جابها. وهكذا تكون سكرة موته قد أنتجت لحظة تخيل أدبي، صار بموجبها فعل حياته فعل بطل، وتلك هي وظيفة التذكر التي تسمو بالحياة إلى قدر إلهي، حسب عبارة أفلاطون. هكذا شكلت عظام ﮜارَا النخرة، التي حتها الزمن، الصفحة البيضاء، الفارغة، الموحية باليأس والموت والتي عليها كتب الباحثون الأثريون، بعدما عبطوا الأرض، ملحمة حياة دامت أكثر من عشرة قرون، واسترجعها البطل- الراوي لحظة سكرة موته. فانتفت الصفحة البيضاء، وفُتح الباب لقدر معاكس. فنتجت من حكاية، تبدو تافهة، إرادة خلاقة أعادت إنتاج متيولوجيا مذهلة.
IV. عبقرية المجابات الكبرى
تتضافر أمور كثيرة تجعل من المجابات الكبرى مسرحا روائيا خصبا. فلم يكن من الممكن أن تتجسد لوحات مدينة الرياح ولا أن توجد شخوصها خارج هذا الفضاء الصحراوي المترامي الأطراف، والذي يجعل الإنسان في مواجهة مع نفسه ومع الكون. فلا يمكن مثلا أن نتصور مصير ﮜارَا المأساوي أو كوارث التلوث التي وردت في الرواية خارج هذه المفاوز المهلكة. وهنا تظهر بجلاء جدلية المكان ومسميات الشخوص. فالوجوه الأصلية لاسم ﮜارَا٬ بطل الرواية، ترجع إلى المجابات الكبرى. فكلمة "ﮔَارَ" تعني في الجغرافيا البيضانية "الجبيل المستدق، المنفرد، الأسود، شبه الأكمة، مَلْمَلَهُ الحَتُّ، فبقي شاهدا على طبيعة عبثت بها عوامل التعرية". أخذ منه بطل الرواية اسمه ولونه الأسود، كما أخذ منه وظيفته كشاهد على أزمنة غابرة. فالمجابات الكبرى مملوءة ﮜورًا، كما هو حال ﮜارَا - البطل، الذي تَفَلَّقَ في المجابات الكبرى، فصار ﮜورا (الفتى القنقاري المخطوف، المشدود إلى ذنب جمل، والعبد الثائر في أوداغوست، والفتي الكهفي على جبل الغلاوية، والثائر الإيكولوجي في المجابات الكبرى.)
وبما أن الرواية تنطلق من الزمن والفضاء الموريتانيين كان لزاما أن تدور أحداثها في المجابات الكبرى التي صهرت طبيعتها الإنسان الموريتاني، وأنتجت أساطيره وثقافته. غير أنني اضطررت إلى تغيير التناغم الجمالي في هذا المكان من محطة من الحكي إلى أخرى. هكذا تنتقل الرواية من فضاء طرق القوافل الرحب، المفتوح، في الجزأين الأول والثاني، إلى الفضاء الضيق٬ الحرج٬ داخل مراكز تخزين النفايات السامة التي غزت المجابات الكبرى في الجزء الثالث. جاء هذا الديكور الأخير عندما غير ﮜارَا وجهه، ليغرق في تشاؤم مطلق.
V. دلالات الأسماء
عندما أكتب أترجم، أحاول أن أبث حقيقة جديدة في اللغة والمصطلحات تتجاوز قواعد التلقي والتقبل، لتنتج نصا يوحي - من خلال شرف المعنى- بدلالات جديدة للأمكنة والأزمنة والشخوص والمصطلحات، وأكون مترجما يؤَوِّل دائما الألغاز الكبرى للحياة. هذه الترجمة تنتج معاني جديدة لا توجد في أي قائمة للمصطلحات أوفي أية لغة، وتؤدي إلى النشوة الموسيقية وتحيل على الميتافيزيقا. ويتجلى تفتق هذه المعاني عندما يجتاز الإبداع حدود اللغات. هكذا فإني، ومن خلال اسم واحد من بين أسماء شخوص الرواية، ﮔُوسْتْبَسْتَرْ(Ghostbus ter) الذي نحت ليتناغم مع اسم أوْدَاغُوسْتْ، أتجاوز اللغات لأصل إلى صميم معنى وظيفة هذا الشخص في النص. فتصير كلمة قوستبستر في الرواية اسما لرئيس البعثة الأثرية التي تبحث عن أوداغوست، مدينة القوافل المفقودة التي طمرتها الرمال ولم يعد أحد يعرف مكانها. فتشكلت كلمات ثلاث، تبعا لإيقاعها الموسيقي – Ghost )ﮔوست( "شبح" بالانكليزية، Buster(باستر) "باحث"، و"Aoudaghost" ("أوداغوست"، الاسم الصنهاجي لمحطة القوافل المفقودة في الصحراء)- فجاءت كلمة "Gostbuster" اسما للباحث الأثري في الرواية، الذي يعني اسمه بالانكليزية الباحث عن الأشباح...
ترتبط دلالات الأسماء بمواضع الحكي في روايتي الحب المستحيل و مدينة الرياح. فأسماء الشخوص ليست اعتباطية، وإنما هي ذات دلالات، وتحمل في طياتها مواضيع الحكي، وهكذا تظهر الجدلية بين الأسماء والسرد. وقد تمثل بعض أسماء الشخوص نقطة انطلاق تشكل النص، وفي بعض الأحيان تفرض أسماء الشخوص نفسها انطلاقا من مسار السرد. ففي الحب المستحيل تشكل النص انطلاقا من اسم آدم الذي يرمز للإنسان الكامل، الرجل الأول الذي خرجت من ضلعه المرأة وبسببها وقع في الخطيئة، ونقض الميثاق الإلهي، فطرد من الجنة. وقصة سيدنا آدم تنبئ بزلات البشر في العصر المستقبلي، والتي يتمحور حولها النص. فاسم مَاِنكِي (Manikè) يترادف مع كلمة manikè التي تعني في اليونانية "فن التنبؤ بالمستقبل" و تعني أيضا في اللغة اليابانية المرأة التي عرفت الحب. وترمز هذه البطلة لشخص المرأة المتحكمة في مصير الرجل، وقد مثلت قدر آدم في الرواية٬ الذي تحول إلي امرأة من أجل أن يعيش حبه معها. أما (Androgyne) خُنَاثَةُ في الحب المستحيل ٬ فهو شخص يرمز، كما يوحي اسمه، إلى اختلاط الأدوار وإلى محو الفوارق بين الجنسين، الذي تفاقم في المجتمعات الحديثة. وفي الحب المستحيل يوجد أيضا شخص ريمان(Riman) الذي يوحي اسمه بالشيطانية ويمثل أهل الشر في المجتمعات الحديثة. أما شخص أبو الهامة "الرجل الدميم عظيم الهامة" في روايتي الحب المستحيل و مدينة الرياح فهو سقراط، كما وصفه أفلاطون في كتابه الثناء على سقراط. ويعود وجود شخصي الشيطان وسقراط دون أي تغيير في اسميهما أو في ملامح شخصيهما، من نص إلى آخر، إلى كون الأحداث التي تدور في الروايتين هي تجسيد للصراع الأزلي بين الخير والشر، وذلك من المنظور الديني-الفلسفي الذي جسده أبو الهامة (سقراط) في الجزء الأخير من مدينة الرياح، حيث ظهر وقد أعفى لحيته وجعل على هامته طاقية الأصوليين، وتحدث بوعظهم. يوجد مسوغ آخر لظهور سقراط في مدينة الرياح، وهو أن بعض استتباعات قراءتي لأسطورة المأدبة (الأفلاطونية) التي وردت في الحب المستحيل توجد في مدينة الرياح: فإذا كان العقاب الإلهي الذي نزل بالجنس الآنْدْرُوجيني قد نتج عنه ظهور الجنسين، الذكر والأنثى، فإن هذا الفصل رافقه فصل آخر فصم شعور كل إنسان إلى ثنائية الوعي واللاوعي، التي لا تقل خطورة عن فصل الإنسان الاندروجيني المتكامل، بأنوثته وذكورته، والذي جعل منه الزوجين الذكر والأنثى، كما ورد في أسطورة المأدبة. هذه الثنائية بين الوعي واللاوعي شكلت موضوعا محوريا في رواية مدينة الرياح.
هذه بعض التجليات التي أمكنتني من استلهام التراث في كتابة رواية الخيال العلمي.
1صدرت رواية الحب المستحيل بالفرنسية سنة 1990 عن دارL'Harmattan تحت عنوانL'Amour Impossible قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1999. وأيضا صدرت مدينة الرياح أولا بالفرنسية عن دارL'Harmattan سنة 1994 تحت عنوان Barzakh قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1996.