عرض مشاركة واحدة
قديم 01-27-2016, 12:33 PM
المشاركة 21
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرحبا الأستاذ ناريمان

- يا ليتك تتحدث باستفاضة .. فسرّ حياة أي إنسان تكمن في تفاصيل أوجاعه.

-سأحاول ان اتحدث باستفاضة، وأركز على الوجع ان كان ذلك هو جانب التشويق في السيرة الذاتية وكاشف خبايا النفس، مع حرصي حتما على ان يظل السرد مشوقا للمتلقي...ولعلني في النهاية أكون بفضل اسئلتك الجميلة والذكية وتفاعل الزملاء قد حصلت على نسخة ولو أولية من سيرتي الذاتية.

س‌-أود أن تحدثنا عن طفولتك والظروف التي أحاطت بها غير تلك الظروف السياسية؟

الولادة وظروفها:

للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة بالذاكرة الي البدايات وأقدم الذكريات أولا ثم التالي فالتالي. لكن أولا دعونا نتصور ونتخيل الظروف التي كانت سائدة في فلسطين عام 1954 وهو عام ولادتي.

لا بد ان الظروف كانت شديدة الصعوبة والقسوة، فقد كان الاحتلال قد سيطر على الجزء الأكبر من فلسطين عام 1948 وظلت مساحات محدودة من الأراضي الداخلية الجبلية في فلسطين حيث تقع قريتي...بدون حكومة او حتى جهاز اداري او أي مقومات اقتصادية لان الوحدة الفلسطينية الأردنية حصلت عمليا عام 1950. وحتى بعد حصول الوحدة لا بد ان الظروف ظلت صعبة قاسية فلم يكن شرق الأردن بلدا بأفضل حال من الناحية الاقتصادية ليوفر ظروف اقتصادية أفضل في المناطق التي تبقت من فلسطين، فقد كانت المعاناة مشتركة حتما...

ولا بد ان الفقر كان سيد الموقف بالإضافة طبعا الى الشعور بمرارة الهزيمة وفقدان وطن بكل ما في الكلمة من معنى بالإضافة الي فقدان مواقع تشغيل العمال في المستعمرات والموانئ والبيارات والحقول الساحلية.

في مثل هذه الأجواء اتيت الي الدنيا...وكنت السادس في الترتيب 4 ذكور واخت واحدة انثى. كان عمر والدي 54 عاما عند مولدي فهو من مواليد عام 1900 وهناك رواية تقول انه من مواليد 1898 أي انه كان في السادسة والخمسين من عمره، وكان تصغير العمر بهدف تجنب اللحاق بالجيش التركي عند اندلاع الحرب العالمية الأولى كونه الوحيد عند والده جدي خليل الحمد.... ويبدو ان والدتي كانت مريضه عند ولادتي او بعدها بقليل...فقد أخبروني بأنني عشت سنوات رضاعتي الأولى على حليب المرضعات والماشية...ويبدو ان مرضها كان مرتبط بعدد الولادات المرتفع في زمن خلى من الرعاية الطبية تقريبا، فقد ولدت ما مجموعه ثمانية بطون...سبعة قبلي..لكن البنت الاولى البكر، ماتت بعد الولادة بقليل كما قيل لي، اما الاخيرة فقد ماتت اثناء الولادة...

بعد عامين أي في العام 1956 ماتت امي...ولا بد ان مرضها كان ذلك المرض الذي دفع والدي لاقتراض 5 دنانير من أحد المرابين في قرية مجاورة وخسر لاحقا على إثر هذا القرض، الذي تراكمت فوائده بصورة فلكية، قطعة مهمة من الأرض المزروعة بشجر الزيتون...وهو ما يشير الى حالة الفقر التي كانت سائدة اثناء تلك السنوات العجاف...

وقيل لي انها ماتت اثناء الولادة حيث كانت تحاول إنجاب اخت أخرى سابعة، لكنها توفيت معها فكنت أنا الأخير من بين الابناء...وهذه الحادثة مهمة في حياتي لأنها مرتبطة بقصة مروعة كان لها اثرا مهولا على نفسي اثناء طفولتي وكادت ان تطيح بي وسوف ارويها لكم فيما يلي من صفحات الذاكرة......

وعلى القبر الذي دفنت فيه والدتي وهب جدي من جهة الام اختها، أي خالتي، لابي زوجة أخرى ثانية، بحكم العادة والعرف وحتى تقوم على تربية الأطفال الايتام، انا واخوتي كما يقال...

والدي تعلم القراءة والكتابة في "الكُتاب" وكان يحفظ القران الكريم، وقد علمه خاله الكفيف امام المسجد في حينه...

اخي الأكبر لم يتعلم وكذلك اختي التي تلته في الترتيب ...وكان اخي الأكبر يعمل مع والدي في زراعة الأرض وكلفتها، فقد كان دخل الاسرة الرئيسي من الإنتاج الزراعي والحيواني خاصة انتاج العسل، فقد كان ابي صاحب منحل تزيد خلاياه أحيانا عن 500 خلية ...والتي حققت جميعها نوعا من الاكتفاء الذاتي، بينما كان يتم بيع الفائض في حال وجوده لتوفير الاحتياجات الأخرى للأسرة...

سافر هذا الأخ الأكبر للعمل في الكويت في العام 1965 على الرغم من إرادة والدي...مما وفر للأسرة دخلا إضافيا...كما ساهم اخي الثاني في الترتيب والذي اُخرِج من المدرسة في الصف السادس، بسبب تجازوه للسن القانوني المعمول به في حينه، ساهم في توفير دخل للعائلة حيث عمل مبكرا كعامل بناء ليصبح مقاول في تلك المهنة، مما أتاح لباقي الأبناء التعلم والالتحاق بالمدارس والجامعات فتخرج اخي الثالث من الجامعة الأردنية، تخصص فيزياء، واكتفى الرابع بشهادة التوجيهي العلمي، وتحول لتعلم مهنة الطباعة واصبح لاحقا مدير مطبعة...بينما أنجزت انا شهادة الماجستير في تخصص الادب الإنجليزي من الولايات المتحدة الامريكية.

خالتي اخت امي وزوجة ابي الثانية انجبت طفلة فصار لي اخت أخرى، اما باقي محاولات الانجاب فقد فشلت بسبب الاختلاف في فصيلة الدم وهو امر كان مجهولا على ما يبدو للأطباء .. وتسبب بكثير من الالم والمعاناة...فقد عانت منه خالتي اشد المعاناة، وقد انعكست تلك المعاناة بشكل او باخر على افراد الاسرة..وقد كانت خالتي كثيرا ما تندب حظها في الزواج، ربما بسبب فارق السن بينها وبين والدي ، وكذلك بسبب فشل محاولات الانجاب والذي كان عبارة عن مسلسل موت الامل والابناء وتكرر واحدا تلو الاخر ولاكثر من اربعة او خمسة مرات دون فائدة...وقد المتني حالة خالتي النفسية جدا اثناء تلك الظروف القاسية وما تزال بعض المواقف التي كانت تذرف فيها خالتي الدموع بالم وحسرة محفورة في اعماق ذاكرتي...

ومن تلك المواقف كانت في احد الايام تجلس بالقرب من شجرة التين، في الارض القريبة من المنزل، وكانت حينها تدق القش لتحضيره كمادة توضع مع روث الحيوانات حول الطابون ليشتعل ويجعله حارا للخبز...ورايت عيونها في ذلك الموقف تذرف دموعا حارة فسألتها عن السبب؟! فاجابت انها خائفة من المستقبل، لان ليس لها ولد يعتني بها اذا شاخت...فوعدتها حينها بأنني ساكون الي جوراها...وقد وفقني الله عندما كبرت وصارت في الستينيات من العمر واحتاجت الي غسيل كلى... فوقفت الي جانبها اخدمها بكل ما اوتيت من قوة وصبر..وكلما تراخيت في خدمتها او تلبية احتياجاتها تذكرت تلك الدموع الحاره... وتذكرت ذلك الموقف وذلك الوعد الذي قطعته على نفسي، وانا في مقتبل العمر...وقد زرتها في المستشفى اثناء واحدة من عمليات غسيل الكلى واعطيتها مبلغا من المال، ووعدتها ان اعطيها المزيد بعد عودتي من السفر، وسافرت الى الاردن لحضور اجتماع عمل، فوصلني اتصال هاتفي في حوالي الساعة الواحدة ظهرا من احد ايام السبت التي يكون فيها الجسر على نهر الاردن مغلقا، واخبروني فيه انها توفيت وهي تدعو لي...

حزنت لموتها اشد الحزن وحاولت العودة لحضور جنازتها من خلال ترتيب سفر خاص يوفره الصليب الاحمر لمثل هذه الحالات الطارئة، ولكن عودتي تعذرت بسبب السبت....واتصور ان ذلك كان من ترتيب الله عز وجل فلم اكن لاستطيع احتمال مشاهدتها وهي تدفن، واظن ان ذلك جاء تلبية لرغبة دفينة كانت موجودة عندي منذ زمن بعيد...لان اشد ما أحاول ان اتجنبه وأحيد عنه هو المقابر...فانا مسكون بالخوف من الموت ومل ما يمثله فكيف لو انني اضطررت للوقوف هناك وانا اشاهد جثمانها يودع في القبر وينهال عليه التراب ؟

توفي والدي عام 1991 عن 91 عام...او ربما 93 عاما...بينما توفي جدي من ناحية الاب قبل ولادتي بعامين تقريبا، وهو ما دفع والدي وسمح له منحي اسم جدي ( خليل ) على الرغم، وكما علمت لاحقا، ان جدي كان يرفض رفضا قاطعا ان يتم تسمية احدنا، اي احفاده، باسمه لغرض في نفسه كان قد كشفه في مرحلة ما لوالدي...وسأرويه لكم فيما يلي...وهو مرتبط بصورة او بأخرى بموت امي او هكذا ظن جدي وظننت أنا أيضاً حينما علمت بتلك الراوية الكارثية، وكان لتلك القصة اثرا مزلزلا على نفسي وكياني لفترة طويلة ...

كان هذا الجد طويل القامة، قوي البنية، لم يراجع طبيب طوال حياته كما قيل لي، ويقال انه كان يصرع بعضا من شباب ثورة الستة وثلاثون الاشداء وهو في الثمانينيات من عمره. حينما كان يمازحهم ... اصبح هذا الجد يتيم وهو في سن الثانية، حيث مات ابوه وظل وحيدا عند والدته، وكان يعتقد على ما يبدو ان موت والده جاء بسبب تسميته باسم خليل ...ولاحقا اصبح شاعرا مفوها يقال انه كان يفوز في كل المناظرات التي يدخلها في الاعراس.

اما مكان ولادتي فهو قرية كفل حارس وهي قرية قديمة، قدم التاريخ ربما، والشاهد على ذلك وجود قبور او مقامات عدد من الأنبياء في ارضها، ذو الكفل، ومنه اخذت اسمها الحديث، وذو النون، واليسع، ويوشع ... ويقول كتاب بلادنا فلسطين ان اسمها القديم كان "تمنة ساره" وهي كلمات كنعانية تعني نصيب من الشمس، وهي مقامة على راس تله مرتفعة ، وتحيط بها الوديان وحقول الزيتون من جميع الاتجاهات، وتسطع فيها الشمس طوال النهار، بحيث يكون لكل حي او ركن من اركانها نصيب من الشمس...

ويوجد فيها بالإضافة الي قبور الانباء مغارة تسمى مغارة "ستنا ساره" ويقال انها كانت سكن لستنا سارة زوجة سيدنا إبراهيم الخليل إذا ما مرت في كفل حارس، كما يوجد فيها مقر يسمى بنات الزاوية ويقال انه كان سكن لبنات سيدنا يعقوب... وموقع اثري يسمى الشيخ منسي... ولا احد حاليا يعرف قصته...

ويقع مقام النبي يوشع في وسط البلد ويقال ان فناء المبني يحتوي على قبر لاحد قادة صلاح الدين الايوبي كما كتب على الشاهد، ويحيط بالمبني جدار يمتاز بنمو شجرة بطم قديمة نمت من داخل الجدار، ولا أحد يعرف عمرها، كما يوجد بالقرب من هذا المقر شجرة سدر ضخمة قديمة تخدم كمضافة لسكان القرية، وملتقى للسمر، وكانت قديما مكان تقام فيه الافراح...ومكان يلتقي فيه الرجال ليتسامروا او لممارسة بعض الالعاب الشعبية مثل لعبة السيجة....



يتبع

ذكريات سنوات الطفولة المبكرة...