عرض مشاركة واحدة
قديم 06-30-2019, 12:22 AM
المشاركة 20
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: قردة وخنازير (رواية)
(3)

جلس خارج الكوخ يحاول إشعال جذوة من النار يصطلي بها..
حينما ابتعد عن الفتاة انتابه شعور بالسخف.. ماذا يظن نفسه فاعلاً؟..
لوسي بقايا إنسان.. سيستيقظ في الصباح ليجدها قد سرقته وفرت..
صحيح هو ليس لديه شيء يسرق.. لكنها ستجد ما يصلح حتماً.. ربما ذبحته وباعت جثته لمن يريد قطع غيار بطريق غير شرعي..
ربما كانت تلك التمثيلية كلها مع رفاقها من أجل ذلك في النهاية..
حتى هنا لا تتركك أدران النخبة لحالك..
بعد قليل خرجت الفتاة وهي ترفل في أحد ثيابه بعد أن غسلت ثيابها وتركتها لتنشف.. نظر إليها فوجدها زهرة برية تتحسس طريقها بين عالم من الأشواك القاسية.. وفي لحظة تلاشت من رأسه كل أفكاره السوداء تجاهها..
ـ عماد كف عن ارتداء ثياب والدك إنها لا تناسبك..
ـ حينما أكبر ستناسبني حتماً..
ـ دعيه يا عفاف..
ـ الثياب ستتسخ..
قالت لوسي وهي تمشي بحرص:
ـ سأغسلها لك..
نظر لها وهي تتحرك بحرص كي لا تفسد الثوب ثم جلست بجواره أمام النار.. قال لها ووهج النيران ينعكس على تعبيرات وجهه :
ـ لقد تغيرت مائة وثمانون درجة..
ضحكت قائلة:
ـ لن يعرفني دان لو عاد ليأخذني..
ـ يبدو أنك مهمة جداً بالنسبة إليهم..
ـ في عالمنا تستعمل الفتاة كطعم جيد للإيقاع بالحمقى..
قال وهو ينكت في النار بعود :
ـ لكن ليس كل الحمقى يطلبون منك أن تستحمي كذلك..
ضحكت وقد فهمت ما يرمي إليه.. قالت وهي تمرر يدها في شعرها الملتوي كالحلقات :
ـ لقد كنت على وشك إطلاق النار على رجال دان .. لا أظن أن هذا كان جزءاً من الطعم..
ـ كانوا يريدون شيئاً منك.. شيئاً سلبتيه إياهم..
ـ لم أسلبه منهم.. لقد حصلت عليه بنفسي.. وهم يريدون مشاركتي فيه؟
ـ ما هو؟
مدت يدها في جيب سترته وأخرجت شيئاً في راحتها.. حينما نظر إليه حسن أدرك أنه لم يبتعد كثيراً عن أعين النخبة..

***

لم يصدق دان حينما أخبره المتشردين الثلاثة بما حصل مع لوسي..
كان جالساً باسترخاء أمام كوخه القذر.. وحوله تلال من السيارات القديمة المكومة فوق بعضها البعض، وقطع متفرقة من روبوتات وشاشات حاسب وأجهزة بث ثلاثي الأبعاد، وأثاث منزلي متابين بين العتيق والمتوسط والحديث..
أما دان نفسه فكان في العقد السادس ممتلئ الجسد قليلاً وله عينان خضراوان وبشرة لوحتها الشمس.. وقد كان رد فعله مدهشاً حينما أخبره الرجال العائدون بما جرى.. لقد أوسعهم ركلاً ولكماً وسباًً وبصقاً..
إنه لا يصدق أن لوسي التي رباها على يديه قد فرت بصحبة عجوز إسماعيلي..
ـ لابد أنه قد حدث لها مكروه يا أولاد الأفاعي..
صاح أحدهم وهو ينحني ليتفادى لوح من الصاج قذفه دان في وجهه:
ـ بل قد طمعت في بعض الشرائح التي نتعب ونكد حتى نحصل عليها من أجلك..
ـ وتتهمونها بالسرقة أيضاً!
وحمل أسطوانة غاز وهم أن يقذفها عليهم، لولا أن توقف فجأة وترك الأسطوانة، و بدأ يهدأ.. هو يعرف أن لوسي تربيته.. وبما أنه لص كبير فلا ينبغي أن ينتظر من تلميذته أن تصير قديسة.. بل هو يعرف أنها لن تتورع عن سرقة أحشائه نفسها لو كانت ذات فائدة لها..
قال بصوت أقرب للبكاء :
ـ أريد شرائحي..
ـ إننا نحفظ مكان الكوخ التي تقيم به..
هرش تحت إبطه في غل قائلاً :
ـ كم عددهم يا شامير؟..
قال المدعو شامير:
ـ إنه مجرد رجل واحد ومسن..
تدخل ثان قائلاً :
ـ لكنه يبدو قوياً ومحنكاً..
ركل دان الأرض صائحاً :
ـ وأنا أريد شرائحي أيها الأوغاد..
ثم أشار إليهم بسبابته واحداً تلو الأخر وهو يردد أسمائهم :
ـ شامير.. ديفيد .. إيزاك.. إعادة الشرائح والفتاة هي مسئوليتكم..
سأله المدعو ديفيد:
ـ والعجوز؟
لوح بذراعيه صائحاً :
ـ لا مكان للعجائز..

***

كانت بالفعل مجموعة من الشرائح الذكية تم لفها بشريط لاصق..
نهض كالمجنون وانتزعها من يدها صائحاً :
ـ لو كنت أعرف أن هذه الأشياء معك لما سمحت لك بالدخول هنا..
ثم ألقاها في النار أمام عينيها الذاهلتين..
ـ مجنون..
قالتها وهي تنهض وعيناها تتسع لمشهد الشرائح وهي تتموج وتذوب في قلب النار..
ثم وثبت عليه في توحش وهي تصرخ :
ـ أنت عجوز مجنون..
أمسك يدها ولوى ذراعها قبل أن تخمش وجهه بمخالبها.. بدت له كهرة صغيرة متنمرة لا أكثر..
ـ هذه الأشياء تتجسس علينا..
ـ هذه الأشياء تساوي مالاً يا أحمق..
دفعها لترتطم بجدار الكوخ قائلاً :
ـ أنا في مثل سن أبيك..
اعتدلت وهي تكور قبضتيها كأنها ستعاود الهجوم عليه.. ثم قررت أن تتراجع وهي تصرخ بغيظ :
ـ لن أبيت معك.. أنت عجوز مختل..
أشار إلى ثيابه التي ترتديها ..
ـ ردي إلي ثيابي إذن..
ـ إليك ثيابك اللعينة..
قالتها وهي تخلع الثياب عنها وتقذف بها في وجهه حتى وقفت كيوم ولدتها أمها.. أشاح حسن بوجهه عنها هاتفاً:
ـ يا معتوهة..
لكنها انطلقت مبتعدة وهي تسبه وتلعن اليوم الذي رأته فيه.. وظل هو واقفاً ينظر لقدميه متردداً.. هل يلحق بها أم يتركها لمصيرها.. تخيل فتاة مثلها تجوب الصحراء عارية.. ما المصير الذي ينتظرها؟.. خصوصاً بعد أن استحمت!..
ركل الحصى بحذائه ثم عاد للجلوس أمام النار وهو يزفر.. نظر لألسنة اللهب وهي تتمايل وهمس لنفسه:
ـ مرة أخرى تفشل في أن تكون أباً يا حسن..

***

حينما هم لإطفاء النار والعودة لفراشه لمح خيالها في الظلام يتسلل إلى الكوخ.. انتظر حتى تأكد أنها ارتدت ثيابها، ثم دخل عليها قائلاً:
ـ الثياب لم تجف بعد؟
ـ وما شأنك أنت؟
اقترب منها وقال مبتسماً :
ـ الثياب المبتلة قد تؤذيك..
نظرت له باستغراب ثم هزت رأسها بلا معنى واتجهت لباب الكوخ..
استوقفها قائلاً :
ـ ستعودين لعصابة دان؟
ـ لماذا تهتم؟
ـ لو كانت لي أبنة مثلك لما تركتها تذهب إلى وغد مثل دان.
أدارت وجهها إليه فرأت وجهه متأثراً.. بدا لها عجوزاً تعساً رغم جسد المشدود وبنيته القوية.. مجرد عجوز أصلع الرأس، والذي بقي من شعره على جانبي الرأس لم يتركه الشيب وشأنه..
قالت وقد هدأت حدة لهجتها نوعاً :
ـ ربما عدت لدان.. وربما بحثت عن غيره..
فرك حاجبيه بأنامله كالمرهق وقال :
ـ هذه ليست حياة يا لوسي..
ـ وأنت هل لديك حياة مختلفة؟
سكت قليلاً فظنت أنها أفحمته.. لكنه عاد ليقول لها في صرامة مفاجئة:
ـ أنا اخترت تلك الحياة على الأقل..
ـ اخترت أن تكون متشرداً مثلي؟
ـ قلت لك أنا لست متشرداً مثلك.. أنا أحيا في الصحراء بعيداً عن النظام العالمي الذي أفرز أمثالك من المتشردين يعيشون على هامش الحياة.. يسرقون وينهبون ويفرون في الصحراء.. هدفهم حيواني بحت.. البقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة..
سألته بدهشة:
ـ وهل لديك هدف أخر في الحياة؟
جذب نفساً عميقاً قبل أن يجيب :
ـ بلى..
سألته بلهفة:
ـ وما هو؟
قال بهدوء :
ـ إجابة هذا السؤال قد تحتاج وقتاً طويلا..
هزت كتفيها قائلة :
ـ ليس لدي ما أقوم به حالياً..
أشار للخارج وقال بلكنة ساخرة :
ـ ربما عليك أن تلحقي بدان وعصابته.. قد يحالفك الحظ ويغفر لك سرقة الشرائح.. لكن لا أدري ماذا سيفعل لو علم أن الشرائح قد ذابت في النار..
قطبت جبينها قائلة:
ـ هل ستتركني أعود إليه ليقوم بربطي بسيارته ويجوب بي الصحراء..
أولاها ظهره كي يداري ابتسامته..
ـ بابا أنت لن تتركني هه؟
ضم شفتيه وهو يغمغم :
ـ ممممم.. دعني أفكر..
احتضن عماد ساقيه وهزه صائحاً :
ـ بل لن تتركني.. لن تتركني.. لن..
هنا لا يتمالك نفسه .. ينفجر في الضحك وهو يستدير ليرفعه عالياً و..
اختل توازنه فاستند على قائم الفراش كي لا يسقط.. تسأله لوسي:
ـ هل أنت بخير؟
قال وهو يحاول أن يبدو متماسكاً :
ـ أنا بخير يا لوسي..
وسكت قليلاً وهو ينظر إليها بثبات جعلها ترتبك..
قال بلهجة حانية محت ارتباكها ليحل محله إحساس غامض:
ـ ولن أتركك.. لن أكرر نفس الخطأ مرتين..
تأملته الفتاة كأنها تنظر له لأول مرة.. ولا تدري سر ذلك الإحساس الغامض الذي داهمها وهي تنظر لعينيه المنهكتين التي تشع طيبة وحنان وإرهاق..
هذا العجوز البائس بحاجة ماسة إليها وهي أيضاً بحاجة ماسة إليه..
لذا ستبقى..

***

افترش أمام باب الكوخ ووضع بندقيته تحت الوسادة المحشوة بالقش والخرق القديمة، حملق في سجادة السماء المرصعة بالنجوم وتنهد.. سبحان الله.. كيف بدأ يومه وكيف انتهى؟ بالأمس كان سيد هذا المكان بلا منازع.. والآن صار بواباً لفتاة متشردة من قلب الصحراء..
لم يكد يغمض عينيه حتى سمع صوت محرك سيارة يأتي من بعيد.. قبضت يده على البندقية بتلقائية وغمغم من بين أسنانه وهو مغمض العينين :
ـ بدأنا..

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..