عرض مشاركة واحدة
قديم 06-21-2019, 06:15 AM
المشاركة 13
تركي خلف
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: مقهى منابر والمقاهي الثقافية

مصادفة غريبة في المقهى


خرجتُ من البيت معتكرَ المزاج، بعد مشاجرةٍ معها، صارتْ مشاجراتنا شبهَ دائمة، كادت تصبح جزءًا من حياتنا اليوميَّة، وفي كلِّ مرَّةٍ يتَّهم أحدُنا الآخرَ بأنَّه هو المسؤول عَن "مناكَفة الدِّيَكة"، هذه التي لا تَكاد تَنتهي.
هي تقول لي:
• أنت أصبحتَ غضوبًا، حادَّ الطِّباع، تغيَّرت مشاعرُكَ نحوي، لم تعُدْ تحتمل منِّي هَفْوة، واقف لي وقوف الشوكة في الحلق، وأصبحتَ فضوليًّا كثير الغلبة، تتدخَّل فيما يعنيك وفيما لا يَعنيك.
وأنا أردُّ لها الصاعَ صاعَين، فأقول:
• بل أنتِ أصبحتِ مُهملةً، كسولاً، قليلةَ الاهتمام بشؤون البيت والأولاد، معظم وقتكِ أمامَ هذا الجِنِّي، سارق الوقت والعُمر، هذا الجهاز الذي لا يكُفُّ عن الثرثرة، وأنتِ تتفرَّجين على كلِّ شيءٍ فيه وكأنَّه يتحدَّثُ عنكِ.
ثم أُضيفُ؛ لأكيدها وأغيظها:
• وها أنتِ ذي تذهبين في العرض، لو نظرتِ إلى شكلِكِ في المرآةِ، لرأيتِ أنكِ لم تَعودي تلك الرشيقةَ الخفيفة التي كانت تخطر كالغزال.
يسوؤها منِّي هذا الكلامُ كثيرًا؛ فهو يمسُّ أنوثتها، تُوشِكُ - في كثيرٍ من الأحيان - الدموعُ أن تقفز من عينيها، وتقول مبتئسة ابتئاسًا حقيقيًّا:
• تعني - يا باسم - أنَّكَ لم تعُدْ تحبُّني مثلَ أيَّام زمان؟
تأخذني الرأفة، أحسُّ أنِّي جرحتُ مشاعرها بكلامٍ لا يؤلمُ المرأةَ مثلُه، فأقولُ مترفِّقًا محاولاً إصلاحَ ما بَدَرَ مني:
• ما قصدتُ هذا، ولكن قصدتُ أن أُنبِّهَك على أمرٍ ذي بالٍ، إنَّ رشاقة المرأة كَنزُ الجمال، وقِلَّة الحركة تغتال هذا الكَنز.
• • •
تطوَّرت "مناكفة الدِّيَكة" اليومَ بيني وبيْنها إلى أكثرَ من المعتاد، وخرجَتْ مِن فِي كلٍّ منَّا كلماتٌ أخشنُ من المألوف، شَعَر كلٌّ منَّا بالندم؛ ولكنَّ كبرياءَه أبَتْ عليه أن يعتذر أو يعترف.
دخلتْ هي إلى غُرفتها غَضْبَى باكيةً، وخرجتُ أنا من البيت حانقًا، فصفقتُ من خلفي الباب صفْقًا عنيفًا، بلغ مسامعَ الجيران، فأطلَّت رؤوسٌ فضوليَّة تستطلعُ الخبر.
ظللتُ أمشي على غير هُدًى، حتى وصلتُ إلى مقهى بعيد، لم أتعوَّد أن أذهبَ إليه إلاَّ نادرًا.

قصدتُ طاولةً منعزلة، وطلبتُ فنجانًا من القهوة التُركيَّة، ورُحْتُ أرتشفها بهدوءٍ وتلذُّذ.
كانت الأفكار تُشرِّق بي وتُغرِّب: لماذا أضحتْ حياتي معها على هذه الشاكلة؟ كان يُضرب بنا المَثَلُ في الودِّ والتفاهم، سارت حياتُنا في أوَّلها سمنًا على عسل، أنجبنا بناتٍ وبنينَ يفقأُ كلٌّ منهم عينَ أيِّ حسود.
منذ سنوات فقط بدأت مشاجراتنا مشاجراتٍ تافهة، لم نكن ندري كيف بدأت، وما سببها على وجه التحديد؟ كان يركبُ العِنادُ كلاًّ منَّا، فيتشبَّث برأيه، يأبى أن يتنازل عنه، كانت زوجتي تعتبرُها أمرًا عاديًّا، لا سيَّما وأنَّها كانت تنقشعُ بسرعةٍ مثلَ سحابة دُخَان، أو رغوة صابون، ثم نعود بسرعة كالأطفال إلى التَّصافي والوِئام، لكنَّني – وأنا الذي أحمِّلها كثيرًا على حدِّ تعبير زوجتي – أنزعج، وأتمنَّى لو لم تحدث، تقول زوجتي عندما نتصافى بأسرع ممَّا يتصافى الأطفال:
• هذه أشياء عاديَّة في حياة كل زوجَين، هذه مِلح الطعام، لا بُدَّ منها في كلِّ بيت،
أقول لها معترضًا:
• لا أحب هذا المِلح، أنا مُصابٌ بضغط الدم، وأنتِ تعرفين أنَّ الملح يضرُّني،
تضحك وتهزُّ رأسها مُلاطفةً، وتقول:
• حاضر يا حبيبي، سأحاول ألاَّ يدخل المِلح بيتَنا بعدَ اليوم.
نضحك معًا، ولكن لا بُدَّ في البيت من مِلح!
• • •
وأنا أرتشفُ قهوتي، شاردٌ مع خواطري، حانتْ منِّي الْتفاتةٌ، فوقفتْ عيناي على فتاةٍ جالسة إلى إحدى الطاولات في زاويةٍ بعيدة من المقهى، تسمَّر طرْفي عندها، أهذا معقول؟! إنعام!! يا سبحان الله! بعد هذا الزَّمن؟ كم سَنَة مرَّت؟ خمس وعشرون!
أجلْ، خمس وعشرون، وربَّما أكثر، كانت زميلتي في كلية الآداب، كم فتَنَتْني واستهوَتْني! كم حلُمتُ بها! ولكن كان كلُّ شيءٍ يومذاك يُغلق الطرق إليها.
تعذَّبتُ طويلاً مِن هوًى مكتوم، لم يعلم به إلاَّ اللهُ، ولم أرَ بُدًّا من التجلُّد والمُصابرة، فقصصتُ أجنحةَ الأحلام يومًا بعد يوم، واكتفيتُ بزمالتها، وباحترامٍ مُتبادل وقورٍ، حتى تخرَّجنا، ومضى كلٌّ منَّا في سبيل، ثم لم أعُدْ أراها من يومذاك.
إنعام! يا إلهي! ما الذي جمعَنا بعد هذا الزَّمن الطويل؟!
كنتُ أُحدِّقُ فيها تحديقًا طويلاً، يلفتُ الأنظارَ، والتقتْ عيونُنا أكثرَ من مرَّة؛ ولكنَّها كانت تغُضُّ طرفها بسرعة، حَيِيَّة، إنعام، خجولٌ، كالعهد بها، ولكنَّ إغضاءَها زائدٌ عن الحدِّ، إغضاء مَن لم تعرفْني أو تتذكَّرني قطُّ، معقولٌ أنَّها لم تعرفني؟!
معقول؟ لِمَ لا؟!
هذه خمسٌ وعشرون سَنةً قد مرَّت، لا سنةٌ ولا اثنتان ولا ثلاث، وأنت قد تغيَّر فيك كلُّ شيءٍ.
كانت زوجتي عندما أقول لها:
• ترهَّلتِ، وسمِنتِ، لم تعودي الغزالةَ الرشيقة التي عرفتُها.
تقول لي على الفور:
• وأنت أيُّها العزيز الحبيب، أتحسبُ أنَّك ما تزال ذلك الشاب الوسيم الرشيق الذي كنتَه؟! أبقيتْ فيك يا ابنَ الخمسين شعرةٌ سوداء؟! إنَّه حكم الزمن يا زوجي، أنا وأنتَ وكل أحد.
يَغيظني كلامُها، فأقول مُكابرًا:
• ولكنكِ ترهَّلتِ كثيرًا؛ بسبب قلَّة الحركة.
فتُجيبُ ممتصَّةً غيظي بهدوئها المعهود:
• بل بسبب الحمل والولادة، وأنتَ يا كثيرَ الحركة، قفْ أمام المرآة، وانظر إلى حجم كرشك المستدير مثلَ كُرة القدم.
وأنظرُ إلى المرآة، فلا أملكُ إلاَّ الصَّمت، وعندما تشعر أنِّي استأتُ تقولُ مُداعِبةً مُتحبِّبةً:
• لكل سنٍّ جمالُه يا زوجي العزيز، إنَّك عندي أجمل ممَّا كنت، أنا أحب كرشك ورأسك الأبيض كثلج الشتاء.
• • •
كيف ستعرفني إنعامُ إذًا؟
كنتُ ما أزال أُحدِّقُ إليها وفي رأسي تطوفُ آلافُ الصُّور.
وجدتُّها تقوم من مكانها، وتتجه إلى الهاتف الذي في المقهى لتُجريَ مكالمة.
مرَّت من أمام طاولتي، فاستدرتُ أُحدِّقُ فيها بجُرْأةٍ أكثرَ؛ علَّها تعرفني.

عَبَرَتْ من غير أن تُعيرني أدنى التفات.
عجبتُ - وأنا أُصعِّد نظراتي فيها مِن أعلى إلى أسفل - أنَّها ما تزال فتَّانةً جذَّابة، ما تزال غُصنَ بان؛ بل ما تزال شابَّة، كأنَّها هي التي عرفتُها من خمس وعشرين سنة، كيف لم يُحْدِث الزمنُ فيها ما يُحدِثُه في النِّساء خاصَّة؟!

زوجتُك مثلاً، أنت تعرفُ أنَّ إنعامَ كانت تمارس الرِّياضة، كانت عضوًا في فريق كرة السلة النسائي، هذه ثمرة الرِّياضة إذًا.
كم نصحتَ زوجتك أن تُمارس الرِّياضة؛ لتحافظَ على رشاقتها! لو كانت زوجتُك الآنَ مثل إنعام! ولكنَّها اعتادت الكسل، وأَسَرَها هذا الجِنِّيُّ "سارقُ الوقت والعمر".

تُطيلُ التحديق إلى إنعام مُعجبًا غير مُصدِّق، تلتقي عيناك بعينيها، ولكنَّها تغُضُّ طرْفها مباشرةً في كلِّ مرَّة، إنَّها لم تعرفْك على وجه اليقين، وإلاَّ لكانت هزَّت رأسها لك مُحيِّية على الأقل، كنتما زملاءَ أربع سنوات، استعارتْ منك المذكراتِ أكثرَ من مرَّة، واستفسَرَت منك عن بعض الأمور أكثرَ من مرَّة، وقرأَتْ قوائمَ الناجحين قبلك أكثرَ من مرَّة، فبشَّرَتْك وهنَّأَتْك؛ ولكن، لا تنسَ أبدًا أنك تغيَّرتَ كثيرًا، لم تعُدْ مثلَ أيَّام زمان، تمامًا كما تقول زوجتُك.

ولكن، لماذا لَمْ تتغيَّر إنعام؟
عادَت إنعام إلى طاولتها، وانشغلَت بقراءة صحيفةٍ كانتْ معها، وانشغلتَ أنت بالذِّكريات والمقارنات، إنعام وزوجتك
• • •
فجأة، دخلَت إلى المقهى امرأةٌ باديةُ الكُهولة، مُترهِّلة، شديدة البدانة، مُتحجِّبة حجابًا مُحكمًا؛ ولكنَّها مكشوفة الوجه، اتجهت إلى طاولة إنعام وجلَسَتْ، وراحَتِ المرأتان تتبادلانِ الحديث، عندما نظَرْتُ إليهما بفُضُولٍ، أدرَكْتُ على الفور الشَّبَهَ الكبير بينهما، قامت المرأتان لتنصرفَا.

حانتْ فجأةً مِن المرأة البدينة الكهلة التفاتةٌ، فوقَعَتْ عيناها عليك، وجدتَ وجهَها يُشرِقُ بابتسامةٍ عريضةٍ، ثم تتجهُ إليك:
• أستاذ باسم، السلام عليكم.
أذهلَتْك المفاجأة، مَن هذه المرأة؟!

نظرتَ إليها متسائلاً مأخوذًا، لم تجعل حيرتَك تطول، قالت لك على الفور:
• أنا إنعام، لا شكَّ أنَّك نسيتني، مرَّت خمس وعشرون سنة مُذْ كنَّا زملاءَ في الجامعة، أنا أتابع كتاباتِك، وأرى صورَك في الصُّحف والمجلاَّت، ثم التفتتْ إلى الفتاة الشابة:
• أملُ، أمل، تعالَي أُعرِّفْك على الأستاذ باسم، الكاتب المعروف الذي حدَّثتُكِ عنه أكثرَ من مرَّة، كنَّا زملاءَ في كلية الآداب.
اقتربَت الفتاة حيِيَّة خجولاً، قالت إنعامُ الحقيقيَّة مُعرِّفةً:
• ابنتي أمل، طالبةٌ في السَّنة الأخيرة في كلية العلوم، يقولون: إنَّها صورةٌ طِبق الأصل عنِّي عندما كنتُ في مثل سِنِّها.

أخرَسَتْك المفاجأةُ، فما قُذِفَ على لسانك كلمةٌ تقولها.
سلَّمَت المرأتان، وانطلقتا خارجتين، قمتَ تجرُّ قدَمَيْكَ إلى المنزل، وأنت تحسُّ أنك أكثر رِضًا عن زوجتكَ.

نقلتها لكم

الابتسامة هي قوس قزح الدموع