عرض مشاركة واحدة
قديم 02-01-2018, 01:48 AM
المشاركة 13
صبا حبوش
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
* الشّعر ثمرة الفكر :


وهنا يؤكّد مهيار على فكرة مهمّة ؛ فالشعر نتاج الفكر ، وليس أي فكر ، فالشّاعر الذي يجهد فكره في الوصول إلى قصيدة تلاقي الإعجاب بين الناس هو الشاعر الذي يستحقّ شعره الخلود.

يقول مهيار في هذا السياق:


أقِلْني العجزَ إن قَصَّرتُ وصفاً ...... لِما أوليتَ أو قَصَّرتُ شكرا
فإنَّ عليّ جَهْدَ الفكرِ قولاً ...... وليس عليَّ عند الغيثِ قَطْرا(1)

ومن هنا نستطيع معرفة المكانة الكبيرة التي كان الشعراء يشغلونها لدى القبائل ، وقد أشار ابن رشيق إلى هذه المكانة قائلاً : "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها ، وصنعت الأطمعة ، واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر ، كما يصنعون في الأعراس ، ويتباشر الرجال والولدان ؛ لأنّه ـ الشاعر ـ حماية
لأعراضهم ، وذبّ عن أحسابهم ، وإشادة بذكرهم ، وكانوا لا يُهنَّؤون إلاّ بغلام يولد ، أو شاعر ينبغ فيهم ، أو فرس تنتج".(2)
فالشعر بالنظرة الديلميّة صناعة فكريّة معقّدة ، فالقوافي لا تتولد بالسهولة التي يظنّها بعض الجاهليين بالشعر ومحاسنه وأدواته ، لكن شاعرنا وحده يستطيع ترويض القافية العصيّة ، والوقوف في وجهها حتى ترضخ لسلطان فكره وتستجيب لأبياته ، يقول في ذلك:
وقافيةٍ باتت تحارب ربَّها ..... فنازلتُها شيئاً فألقت يدَ الصلح(3)
وربما هذه الصعوبة تأخذنا من زاوية فرعيّة لنتذكر ما يرويه الشعراء من تعرضهم لخيانة الفكر في أوقات معينة ، فالإلهام لا يحلّ في جميع الأوقات " وكان الفرزدق يقول : أنا أشعر تميم عند تميم ، وربما أتت عليّ ساعة ونزع ضرس أهون عليّ من قول بيت"(4) ولكلّ شاعر طقوسه الخاصّة التي تبزغ فيها بنات أفكاره أو تخبو ، وتذكر كتب الأخبار أنّه " قيل لكُثيّر : كيف تصنع يا أبا صخر إذا عسر عليك الشعر ؟ قال: أطوف الرباع المحيلة ، والرياض المعشبة ، فيسهل عليّ أريضه ، ويسرع إليّ أحسنه"(5) .
ويعبّر شاعرنا الديلمي عن موقف مشابه لهؤلاء الشعراء ، حيث يقول :
وقُصَّ جَناحُ الشِّعرِ لا الطبعُ جارياً ..... يَرِقُّ ولا مستولَدُ الفكر يُنْجِبُ(6)
فهو لا يبتعد كثيراً عن تلك الأوقات "عصيبة الفكر "، حتى يشعر أنّ جناح الشعر قد قُصّ ، وماعاد الخيال يحلّق عالياً في فضاءاته الواسعة ، كما أنّ الطبع لم يعد يسعفه ويقصد هنا الحالة الإلهاميّة التي تستفز كوامن الشاعر الداخليّة، فتوقف فكره عن توليد البواكر وتقفية الأبيات أو تحفزّها. فإذاً هو يؤكّد على حالة الاستعصاء الفكريّة التي تمرّ بأمزجة الشعراء ، وتبعدهم في أوقات عديدة عن وضع القصائد وصوغها . فالشعر حالة مرتبطة بأمزجة الشعراء من جهة ، وبقضيّة الإلهام من جهة أخرى.




إلاّ أنّ هذه الحالة يعقبها انفتاح فكري كبير ، حيث تبدأ القوافي بالهطول على سكينة الشاعر فتأتي عذراء لم يمسّها خيال من قبل ، ولم يظفر بها فكر شاعر آخر ، يقول مهيار في هذا الصدد:
أعرنِيَ سمعاً لم تزل مطرباً له ....... إذا ما تغنَّته القوافي الفصائحُ
وأَصغِ لها عذراءَ لولاك لم تُجب ....... خطيباً ولم يظفَر بها الدهرَ ناكحُ(1)
ويبدو أن كلّ شاعر كان يفخر بعذرية قوافيه ، فلم تُنجب مخيلة غيره مثلها ، ودرجت سمة القوافي هذه على ألسنة الشعراء ، فنجد أنّ السّري الرفّاه* يفتخر بقوافيه العذراء ، فما مسّها فكر سواه ، ولم ينكحها إلاّه شاعر ، يقول:
إليكَ زَففتُها عذراءَ تأوي ...... حِجابَ القلبِ لا حُجُبَ النِّقابِ
أذَبْتُ لِصَوْغِها ذَهَبَ القوافي ...... فأَدَّتْ رونقَ الذَّهَبِ المُذاب(2)
فالسّري يزّف قوافيه كالعروس العذراء ليلة زفافها لقلب ممدوحه ، وهي ليست ككل القوافي ؛ فهي مصوغة بذهب الإبداع الذي لا يضاهيه فيه شاعر آخر .

وإن كانت القوافي سبائك ذهب عند السري الرفّاه ، فهي تحف نادرة في عيني مهيار ؛ تحف غريبة لم يُرَ مثيل لها بين القوافي ، تفخر بها الأسماع إذا قُدّمت عطيّة لوجه ممدوح يستحقّها .
يقول شاعرنا الديلميّ:

حَملن إليك من تحف القوافي ..... غرائبَ من مثانٍ أو وُحادِ
هدايا تفخر الأسماعُ فيها ..... على الأبصار أيّامَ التهادي(3)
وربما مهيار استقى هذه السمة للقوافي من أستاذه وصاحبه الصدوق " الشّريف الرضي " ، فالأخير بدوره كان يرى قوافيه تحفة لم يُصغ مثلها ، وقلائد تزيّن الصّدور كوسام شرف رفيع على صدر ممدوحها.
يقول الشريف :
أبا قاسمٍ جاءت إليك قلائدٌ ..... تُقلّد أعناق الكرام مناقبا
قلائدُ من نظمي يودّ لحسنها ..... قلوب الأعادي أن تكون ترائبا
إذا هدّها راوي القريض حسبته ..... يقوم بها في ندوة الحيّ خاطبا(4)





والسّر الذي يريد الشعراء البوح به ، ليس فقط الفخر بقصائدهم ، ونعمة قولهم الشعر ، بل أرادوا بتلك السمات التي نسبوا قوافيهم إليها ؛ تحديد القيمة التي تستحقها القوافي ، فالقصائد بدونها تأتي عقيمة لا معنىً لها ، فهي ركن أساسي وثابت في الصياغة الشعريّة .
وتأتي القيمة الكبيرة للشعر عند مهيار ، من قدرته الخارقة على التأثير في قلوب الناس ، فهي تفوق تأثير
السيوف القواطع ، وذلك بقوله:


جاهدتُ فيك بقولي يوم تختصم ال ..... أبطالُ إذ فات سيفي يومَ تمتصِعُ(1)
إنّ اللِّسان لوصَّالٌ إلى طرقٍ ..... في القلب لا تهتديها الذُّبَّلُ الشُّرَّعُ(2)

فالشعر يملك تأثيره القوي لمحاكاته دواخل النفوس ، لذا تفوّق على حدّة السيوف القاطعة التي تترك أثرها على الجسد الخارجي ، بينما الشعر يكون أثره وتأثيره أعمق بكثير.
ومنه فالشعر في مفهوم مهيار هو مؤثر خارجي ، يحاكي النّفس الداخليّة ، ويطبعها بتأثيره ؛ ليثير الإعجاب والتعجب من سحر ما مرّ على الأسماع.
وهذا التأثير يدفع الشاعر لحمل همّ شعره ، فهو يعتبره طفله الغالي على قلبه ، لذا كان يعتني به ، ويوجب الآخرين على عنايته أيضاً ، معبّراً عن ذلك بقوله:
واحنُ عليه فإنّه ولدٌ ..... أبوه قلبٌ وأمُّه خاطرْ(3)
فمشاعر الأبوّة التي يُعبّر عنها الديلمي ، لا يفهمها إلاّ الشّعراء أنفسهم ، فنتاجاتهم الشعريّة هي بمثابة ولادات تحمل أسماءهم وتحفظ ذكرها على مدى السنين ، وكأنّ الشّعر طفل صغير ، والده القلب المفعم بالأحاسيس الذي يتزاوج مع الخاطر والإلهام الذّاتيّين للشاعر ، فينجبان سوياً أبياتاً تحمل الخلود لذكرهم.

وإن يكن الشّعر في مثل هذا الموقع، كانت العناية به واجبة، وقد يرقى واجب صون الشعر وعدم امتهانه إلى مستوى الواجب الديني.
يقول مهيار :
والشعرَ صنْه فالشعرُ يحتسب ال ...... لَهَ إذا لم يُصَنْ على الشاعرْ
انظرْ إلى مَنْ وفي مدائح مَن ..... أنت وقد بات نائماً ساهرْ
لا تمتهنه في كلّ سوقٍ فقد ...... تربَح حيناً وبيعُك الخاسرْ(4)
،فهو يصونه عن الهجاء ، والمدح الكاذب ، فليس من السهل عليه أن ينزل من قدر شعره في مديح بعيد عن محله ، أو استجداء الملوك على أبواب بلاطاتهم ، ويعبّر عن ذلك بقوله:
وهل أظمأ وهذا الشِّعرُ سَجْلٌ(5) ..... أمدُّ به وراحتك القَليبُ(6)



فشعره يرويه من مياه التعبير والمدح ؛ وكأنّه دلو من الخواطر يغرف من صفات الممدوحين ليروي شغف الشّاعر إلى إخراج ما يعتمل داخله على صورة أبيات مدح نابعة من قلبه ، وبذلك يرتقي بشعره إلى المكانة التي يستحقها.وهو يعطي لشعره مهمّة شكر المحسن على نعمه وعطاياه ، عن طريق الثناء والمدح ، فجزاء الإحسان عند الله ليس إلا الإحسان ، وجزاؤه عند الشاعر أبيات مدح تخلّد صنيعه .


يقول مهيار :
ومهما تُعِرْ من نِعمةٍ فجزاؤها ..... على الله ثُمَّ الشعرُ عني يُثيبُها(1)
ونجد في مواطن كثيرة أنّ شاعرنا الديلمي يحمل فوق كاهله همّ الحفاظ على الشعر من السلب و الضياع ، وهو همّ مؤرق ، بخاصّة لمن يمتلك رؤية ، ويلتزم مبادئ ، ويريد لشعره أن يُكشف على أضواء هذه الرؤية وضمن تلك المبادئ.يقول مخاطباً إحدى الوزراء في الدّولة "شبيب بن حمّاد بن مزيد" قائلاً:
وتحمون البلادَ وفي ذَراكم ..... حريمُ الشِّعرِ منتهَكٌ سليبُ(2)









https://sebaahaboush.blogspot.com/
باحثة عن الرّوح..