عرض مشاركة واحدة
قديم 08-18-2014, 03:04 PM
المشاركة 26
عبد اللطيف السباعي
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
عبد اللطيف غسري شاعر يمسك بلجام القصيدة
بقلم الشاعر والناقد المصري عبد الله جمعة


اللغة : كلمة مشتقة من لغا يلغو إذا تكلم فمعناها الكلام .
وفي اصطلاح علم اللغة : فقد عرفت تعريفات عدة أشهرها ما ذكره ابن جني في كتابه ( الخصائص ) حيث قال : " حد اللغة أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم " وقد وردت بعد ذلك تعريفات عدة على يد كثير من علماء اللغة إلا أن كل هذه التعريفات قد اتفقت على أن اللغة ترتكز على أربعة ركائز هي :
1 – أصوات منطوقة 2- أن وظيفتها التعبير عن أغراض
3- تعيش بين قوم يتفاهمون بها 4- أن لكل قوم لغة
فهذه – تقريبا – هي الأركان التي يدور عليها تعريف اللغة عند جميع من عرفها وإن كانت بعض التعريفات الحديثة تتوسع فتدخل الإشارة وانفراجات أسارير الوجه وتقطيبها إلخ إلا أننا في بحثنا هذا معنيون باللغة التي هي كما عرفها ابن جني وجعلها في صورة صوت منطوق يعبر عن أغراض أقوام يتفاهمون من خلالها ...
وهنا نقف على سؤال : إذا وقف بشريان من منطقتين مختلفتين في اللغة دون أن يعرف أحدهما مدلولات الأصوات اللغوية للآخر فهل يحدث بينها تفاعل فكري ؟ بالقطع ستكون الإجابة لا ... وهذا أمر طبيعي .. ولكن غير الطبيعي أن يقف بشريان من منطقة لغوية واحدة وأحدهما ينطق بالصوت المتعارف عليه بين أهل هذه المنطقة ولكن لا يحدث تواصلا فكريا بينهما ,
ومن هنا أتساءل : ما الذي قطع التواصل الفكري بينهما على الرغم من توحد المفاهيم الصوتية بين المتحدثين الاثنين ؟ إن أشياء أخرى دخلت غير التعارف الصوتي للمنطوق أحدثت خللا في المنظومة التفاعلية بينهما فالمدلول الصوتي للغة واحد بين الطرفين ولكن حدث قطع لصلة التفاهم ومن هذا الأشياء :
1 – عدم القدرة على تركيب أحدهما للجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه على الرغم من فهمه مفردات الصوت المنطوق
2- فقد ملكة الإبهار والإدهاش لدى المرسل ومن ثم فتور المستقبل عن الاستقبال
3- ضعف المؤثرات الصوتية الأخرى كالموسيقى المصاحبة للفظ المنطوق وفي الشعر تكون ممثلة في الأوزان والتفعيلات ومن هنا أنوه على قيمة الصوت التفعيلي في الصوت الشعري لمن يدعون الحداثة وينكرون التفاعيل حيث يفقدون أهم مقوما من مقومات الصوت الشعري
4- اللجوء إلى الأصوات الغريبة الشاذة ذات المخارج المتداخلة الخشنة والتي تعسر العمل على وعي المتلقي فتشوشه وتجعله خارج نطاق خدمة الاستقبال السليم لما في الألفاظ من غرابة ووحشة
ومن هنا كان لزاما على الشاعر الواعي أن يحقق تلك المبادئ في منتجه الشعري ساعيا بكل طاقته أن يوظف مهارته في الوصول إلى المتلقي من أقصر السبل ولا يتأتى هذا إلا شاعر خبر واختبر وتفاعل واعتبر وهنا في القناديل مذ دخولي وأنا أتحسس طريقي إلى تلك الزمرة من الشعراء المبدعين الذين يقبضون على آلتهم الشعرية بإحكام وطمأنينة تجعل المرء يتساءل وما السر في هذا المنتدى الذي لا يجمع إلا تلك النوعية من الشعراء القادرين على بلوغ حالو السمو التعبيري ؟ حقيقة لم أصل إلى إجابة بعد ؟ فالويب تنتشر عليه المنتديات الأدبية ولكن حقيقة لا تقبل الجدل أن هذا المنتدى له رونق خاص في جمع هذا العقد الألق من الشعراء وذوي الفكر المتقد والبصيرة النافذة
ومن الشعراء الذين شغلوني كثيرا بمنتجهم الشعري لدرجة أن ملكتني الحيرة من أي الزوايا أغوص في بحره الشعري ... الشاعر ( عبد اللطيف غسري ) ذلك الشاعر الرصين الذي يشعرك حين تطالعه أنك تعيش في عالمين متناقضين جمعهما في ألفة شديدة ؛ عالم الشعر التقليدي الرصين وعالم المعاصرة الشعرية ومواكبة معطيات العصر ... فمن أين أتت تلك المقدرة على الجمع بين هذين النقيضين ؟
إن عبد اللطيف غسري يقبض على ملكات عدة نوهت عنها في بدء قراءتي هذه وهي :
1 – القدرة على تركيب الجمل بصورة تستدعي تفاعل الآخر معه وأعني بالآخر المتلقي ومن ذلك :
قوله في قصيدة سيف الكلام :


وَالليلُ جـاثٍ علـى أنَّاتِـهِ ضَجِـرٌ
هَل ضَمَّدَ الصَّمتُ جُرْحَ الليلِ أمْ نَكَأَهْ

والشاهد هنا قدرته على صياغة الجملة العربية حيث أصر على رفع كلمة ( ضجرٌ ) عن عمد وافتنان على الرغم من اقترابها من الحالية فإن جوزناها على الحالية نصبت فقلنا ( ضجرا ) حيث تصبح حالا لاسم الفاعل العامل عمل فعله " جاث " ولكن اسم الفاعل العامل عمل فعله أحدث السيولة المعنوية اللازمة فلم يحتج الشاعر إلى حركة الحال المعنوية فجمد لفظة ( ضجرٌ ) على الابتداء المتأخر ليحول الجملة من معنى الفعلية إلى الاسمية البحتة وما تحققه من ثبات في المعنى فضلا عن أن رفع الكلمة على الابتداء يفتح مساحة المعنى فيجعل من التعبير مركبا من جملتين إحداهما ( الليل جاثٍ ) والثانية ( على أناته ضجرٌ ) وكلاهما جملة اسمية ولكن الأولى أحدثت السيولة والحركة لما فيها من مشتق يقوم مقام الفعل في العمل ( جاث ) والثانية اسمية صرفة ( على أناته ضجرٌ ) وإصرار الشاعر دليل على وعيه التام بمدلول الجملة ومساحة التعبير الذي سيزيد اتساعا بجملتين بدلا من تضييقه باستخدام جملة واحدة وتحويل العمدة ( ضجرٌ ) المبتدأ إلى فضلة ( ضجرا ) على أنها حال ... وشاعر كهذا يمسك بزمام المعنى والمبنى معا عارفا كيفية تطويع المبنى لخدمة المعنى يقف أن يوقف عليه ويدرس شباب الشعراء كيف يمكن هذا التطويع الذي لم يتأتَ من فراغ وإنما من علم وطول دربة وممارسة شعرية
2- القدرة على إحداث الإبهار والدهشة مما يجعل المتلقي في حال من اليقظة الدائمة سواء بالالتفاف حول المعاني والبعد عن المباشرة أحيانا أو بالمباشرة المبهرة وإجادة توقيف المعنى مع مراعاة الوحدة الموسيقية ومنه قولهفي قصيدة ( قدر القصيدة ) :


ولكنْ بَهجة ُ الشعراءِ فـي أن
يقولوا ما يَضيقُ بـه المَقـالُ


أنهى البيت موسيقيا دون أن يتمه معنويا حتى يشغل المتلقي لمتابعة الحدث الشعري دون أن يتفلت منه أو يذهب مذهبا أخر وكأنه يشد المتلقي معه فلا يشعره بتمام المعنى إلا مع نهاية الوحدة الشعرية (البيت)
3- وجود المؤثرات الموسيقية إلى جانب صوت اللغة المنطوق كداعم ومؤثر خلفي للمعنى فيحيل النغم الموسيقي المتلقي إلى مستشعر بموسيقى تصويرية متفاعلة مع المعنى الشعري ومن ذلك في قصيدته ( سيف الكلام ) التي يقول في مطلعها :


سَيفُ الكلامِ أتانِي حامِلاً صَدَأَهْ
والليلُ يَنْفُثُ فِي أنفاسِهِ حَمَـأَهْ


لجوء الشاعر إلى قافية (الهمزة) ثم الإتيان بحرف الوصل ( الهاء ) ساكنا مقيدا والقافية ( متراكبة ) ودعوني أفصل القول في هذا المسميات الثلاثة حتى نعرف مدى التمكن الذي يمتلكه هذا الشاعر ليحدث موسيقى تصويرية من خلال القافية وحدها تستطيع أن تصله بالمتلقي فهو يرهق نفسه حتى يريح المتلقي في مسامعه
( الروي ) في القصيدة الهمزة وهي حرف ذو انفجار صوتي كما عبرت في موضع سابق
( الوصل ) الحرف الذي يقع بعد الروي وهو هنا هاء الضمير الساكنة
( المتراكب ) وهي القافية التي يقع فيها ثلاث متحركات بين ساكنين
ويسألني سائل : ولم شغلت نفسك بتلك المصطلحات وشرحها ؟
أقول : ما رأيك في سيارة تسير بمنتهى السرعة ثم تصطدم فجأة فتتوقف إنها تحدث رجة عنيفة لمن يجلس في داخلها ... بل أقول : هل منا من يذكر لعبة المدفع التي كانت تمارس في الموالد ؟ حيث يقوم الرجل بدفعها بمنتهى القوة وفي نهاية المجرى تصطدم اصطداما عنيفا بمادة مفرقعة فتحدث دويا هائلا ؟ إن تلك القافية التي استخدمها ( عبد اللطيف غسري ) فعلت بنا هذا تماما كما مثلت في المثالين السابقين ...
فقافية ( المتراكب ) سرعت الإيقاع بقوة المتحركات الثلاث المتتالية ثم ارتطمت فجأة بوقفة سكون على حرف ( الوصل ) الذي هو الهاء ليحدث اهتزازة تصادمية في آخر كل بيت تحيلنا إلى الإفاقة من التعاطي مع معنى البيت حتى نتهيأ لرحلة السرعة تلك مع البيت التالي حتى نصطدم مرة أخرى مع تلك القافية ( المتراكب ) السريعة المنتهية بحرف وصل ( الهاء ) ساكن فجاءت موسيقاه المصاحبة قوية تتوازى مع المراد إيصاله للمتلقي
4- البعد عن الأصوات الغريبة ذات المخارج الشاذة بل والسعي إلى انتقاء الفاظ متالية ذات مخارج صوتية متفاهمة مما لا يشعر المتلقي بحال من النشاذ الموسيقي لصوت اللفظ فجاءت مخارج أصوات الحروف متناغمة لا شذوذ فيها ولا نشاذ ...
هذه مجرد إضاءة علىبعض زوايا الإبداع لدى شاعر يستحق العكوف عليه دهرا لاستخراج ما عنده من مكامن إبداع ولكن الزمان والمكان دائما ما يضيقان على استخراج كل الدرر


عبد الله جمعة
الإسكندرية
الأربعاء 28 – 7
- 2010-07-29