عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:13 PM
المشاركة 20
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أبُو الطيّب المتنبّي كان عبقريًّا، ولكن...

بقلم الأستاذ: خليل مطران

"لا جرم أن أبا الطيب قال الشعر كأحسن ما قالته العرب إلى زمنه وبز بطائفة من أبياته وقصائده كل قائل من قبل ومن بعد، غير أن من وهب تلك العبقرية كان جديرًا بأن يحدث في الشعر العربي حدثًا غير ما قصر همه عليه..."
عني العالم العربي بذكرى المتنبي لانقضاء ألف عام على وفاته واستنفد كتاب الضاد صيغ المدح لذلك الشاعرالعظيم وأبدوا في سيرته وأخلاقه آراء لم يختلف بعضها عن بعض كبير اختلاف دلت بجملتها على عبقريته كما نبهت على مواطن القوة والضعف في آدابه وطباعه.
ولما طلبإ لي أن أكتب كلمة بين الكلمات التي ستنشر لأصدقائي من أساطين البيان في هذا العدد من الهلال، وكان وقتي على أسف مني لا يتسع لاستئناف المطالعة والمضي في المراجعة لأخدم الغرض المروم حق خدمته، رأيت أن أجتزيء بإيراد محصل ثبت في ذهني من مدارستي القديمة لشعر أبي الطيب ولما وقفت عليه في كتب شتى من أخباره.
فأنا أخط هذه السطور وأبو الطيب متمثل في ذهني بناحية منه سما بها إلى أعلى الذرى. وأخرى تدلى لها إلى قرارة بعيدة الغور:
أما الناحية التي رفعته فهي عبقريته- وأما التي خفضته فهي طمعه. صراع شديد قام في نفسه من بدء أمره بين الهدى والهوى. أحس بأنه وهب ما لم يوهبه غيره من وفرة العقل والقدرة على البيان، فكان أول ما سلكه في طلب العلياء ادعاؤه النبوة. غير أنه لم يعتم أن تبين من أية قمة شاهقة أشرف على هوة سحيقة مردية. فتاب عندما استتيب وعاد متضعًا لا متواضعًا إلى الطريق المعبد الذي طرقه الشعراء منذ جعلوا القريض وسيلة ارتزاق، فنظم المديح للذين استندى جوانبهم منذوي الجاه العريض.
وفي قصائده الأول خليط عجيب تتبين فيه المشاكسة العنيفة بين الطبع والتطبع، فآنًا يحاكي المبرزين من شعراء عصره فتضعف إجادته وتعتاص أساليبه وترتبك صوره، وآنًا يرجع إلى وحي فطرته ويسعده استحكام ملكته فيأتي بالسوانح المبتكرات في حبر لا تلبس أحسن منها الغواني الخفرات.
على أن هذه الفرائد الغوالي وإن لم يدانها ما جاورت من الجمان في قلائدها هي التي أعلت قدره وأشاعت ذكره ومهدت له السبيل حتى بلغ سيف الدولة بحلب.
ولدى هذا الملك الشجاع الأديب أراد المتنبي أن يمنح تكرمة لم يمنحها الشعراء قبله فأذن في الإنشاد جالسًا بتلك الحضرة. ثم كان له من بسط العيش ما اشتهى وكان لهمن مصاحبة سيف الدولة في بعض غزواته ما توخى أن يثبت به لنفسه أن هرب سيف وقلم.
وفي الحق أنه كان شجاعًا وفي الحق أن قصائده في سيف الدولةجاءت مصداقًا لظنه بتفرده بين الشعراء وتفوقه عليهم، ولكنه في هذه الحالة تجددت إلى اتخاذ مكان حسي لا معنوي إن لم يعل به الملوك علا به سائرالخلق. ولعل بوادر بدرت من هذه النزعة هي التي جنحت بسيف الدولةإلى الانقباض عنه آنًا واستفزته لتحريش بعض اللغويين أو بعض الشعراء على مناقشته أومنافسته آنًا آخر، فتأتي من تلك النزعات الظاهرة والخفية الجفاء الذي أفضى بالمتنبي إلى مفارقة ولي نعمته وإجابة كافورالأخشيدي إلى دعوته.
ولقد تأملت طويلا في التماس السبب الذي يحمل رجلاً مثله على التخلي عن نعيم وجد فيه لالتماس حالة جديدة ملتبسة يتوخاها، فلم أقتنع أن النزعات المشار إليها آنفًا وما مست به كبرياءه قد أثارت فيه الحمق والغضب والعزم على تلك الهجرة. إذ أن المواقف الأولى التي وقفها من ممدوحيه بعد سقوط ما ادعاه من النبوة لم تكن كلها مما يوفر فيها العرض ويسلم الشرف الرفيع من أذى الذلة والضعة، وإنما كان السبب فيما اعتقدت أنه رأى مطمعه لدى سيف الدولة قد حد بحد لا سبيل إلى مجاوزته وأن إلحاح الإخشيدي في استزارته قد حرك فيه أقوى عوامل نفسه وهو الطمع. فخيل إليه أن في مصر الواسعة، وعلى رأسها خصي قزم غاصب للملك، ولاية يستطيع أن يتصيدها. ومن يدريبعد بلوغه الولاية وتمكنه فيها ما تهيئه له الأقدار من غصب الغاصب على حدقوله:

وتضريب أعناق الملوك وإنترى لك الهبوات السود والعسكرالمجر


على أن تركه لسيف الدولة وانتقاله من يقين إلى ريب وتبدله منرخاء وجاه بآمال تحقيقها في يد الغيب - كل أولئك لم يكن بهين عليه. وفي ذلك يقول وكأنه يستدرج سيف الدولة إلى إرضائه واستبقائه:

يا من يعز علينا أننفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم

ثم يدلف بذلك الاستدراج إلى الإغراء فيقول في ختام تلك القصيدة التي هي من لباب الشعر وخلاصته الصافية:

إذا ترحلت عن قوم وقدقدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم


عرف المتنبي قدر ما يفارقه ولكن مطعمه غلب عليه ففارق...