عرض مشاركة واحدة
قديم 04-25-2012, 01:29 PM
المشاركة 469
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
التطوع من أجل فلسطين

احتللت مقعدي في مجلس النواب في وقتوصلت فيه القضية الفلسطينية إلى قمة التأزم . تألب العالم الغربي، ومعه الاتحادالسوفيتي، على حق العرب وصدر قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين ، على أن يطبقهذا القرار في 15 مايو سنة 1948. لم يرض العرب ، شعوبا وحكومات بالقرار الجائروتنادوا إلى الحيلولة دون تنفيذه بقوة السلاح عن طريق الجهاد الشعبي المتمثل بأفواججيش الإنقاذ، وهي أفواج تألفت من متطوعي البلاد العربية المختلفة ، أولا ، ثم بتدخلالجيوش السمية إذا اقتضى الأمر بعد ذلك ، وفى غمرة أحداث تلك الفترة الحرجة وجدتنيأهجر مهامي كنائب في المجلس وألتحق متطوعا بمجاهدي فوج اليرموك الثاني من جيشالإنقاذ، وهو الفوج السوري من ذلك الجيش ، يرافقني في ذلك الالتحاق زميلي فيالنيابة الأستاذ أكرم الحوراني، أكون في مقدمة من دخلوا الأرض الفلسطينية منالمجاهدين ، سعيا وراء نصرة فلسطين العربية واستنفاذها من مخالب تحالف الصهيونيةالعالمية وأعداء العرب في العالم الغربي على أرض العرب المقدسة.
كان فوجاليرموك الثاني بقيادة أديب الشيشكلي الذي كان ضابطا برتبة رئيس وهي الرتبة التيتحول اسمها اليوم إلى رائد أو مقدم ، وكان دخولنا إلى فلسطين من الحدود اللبنانية،جنوب بنت جبيل والنبطية ، في ليلة الثامن من شهر يناير سنة 1948. باشرنا عملياتناالاستكشافية والحربية التي لا مجال للتفصيل عنها طيلة الشهور الخمسة التي سبقت موعددخول قرار التقسيم مرحلة التنفيذ. وإذا كنت قد عدت بعد تلك الشهور إلى مكاني فيمجلس النواب متابعا مسيرتي السياسة تحت قبة البرلمان وفي المحافل المختلفة وعلىصفحات الجرائد والمجلات، فإن التجربة التي عدت بها من المعاناة على أرض الواقع فيفلسطين فتحت عيني على أمور كثيرة وبصرتني بأمور كثيرة كنت بعيدا عن معرفتها مثلالآخرين الذين لم يتح لهم معايشة ما عايشته أنا. اكتشفت في تلك التجربة أشياء كثيرةعن سير أمورنا، وعن خصائص شعوبنا، وعن أقدار رجالنا ، ومن سوء الحظ أن تجربتي ، كمارددت في مناسبات كثيرة، قد تكشفت لي عما خيب أمل الشاب المثالي الذي كنته في تلكالأيام، ومن سوء الحظ كذلك أن سير أمورنا القومية منذ عام 1948 إلى اليوم جاء مؤيداتقديراتي السيئة عن وضعنا وإمكاناتنا، وهي التقديرات التي وضعتها لنفسي في ذلكالحين .

العودة للأدب

وأعود إلى الأدب مرة أخرى خاتما بههذا الحديث الطويل. لقد دأبت على أن اعتبره لنفسي وأذكره للآخرين كهواية ، ممتعةوسامية في آن واحد، أمارسها في غير عناء وفي قليل من الجد. ولكن، كما قال الشاعرالقديم:
صار جدا ما لهونا به رب جد جره اللعب!
فما يطفو على ألوان النشاطالمختلفة في حياتي، وما يعرفني به الآخرون ويحاورونني فيه ويتقصون أخباري فيه، هوالأدب قبل الطب وقبل السياسة وقبل فعاليات مختلفة أخرى أجدني ما قصرت فيها ع أداءما وجب علي ولا عن تقديم ما قدمته، متطوعا ومفيدا، للناس حولي وللقيم والمعتقداتالتي أومن بها، عطاءاتي الأخرى تنحصر معرفتها في حلقات ضيقة وبين أناس محدودين ، أوأن دوامها لا يمتد إلى زمن طويل. أما العطاء الأدبي مني ومن أمثالي فإنه، إذا كانيحمل صفات تؤهله لذلك، طويل الديمومة وعريض الجمهور ، لقد انتهى بي إصرار الآخرينعلى تقديم صفتي الأدبية على سائر صفاتي الأخرى أن تابعتهم أنا إلى الإيمان بقيمةهذه الصفة وأكاد أقول إن ذلك حدث على الرغم مني !
ولعلي في هذا الواقعة التيأرويها للقراء في مختتم المطاف أضرب مثلا لهذا الذي ذكرته عن تقدير من عدونيبتقديرهم لما رأوه في من موهبة تستحق التقدير.
حدث ذلك منذ ستة أعوام أو سبعة ،زارني في بلدتي السيدك. لوشون، وهو الملحق الثقافي في السفارة الفرنسية في دمشقأيامذاك ، وكان قارئا لأعمالي المترجمة إلى الفرنسية ومعجبا بها، وف زيارة لي إلىدمشق بعد عودته هو إليها اتصل بي هاتفيا وسألني عما إذا كان بإمكاني أن أمر عليه،في مكتبه، قلت له: أفعل ، وبكل سرور، فوجئت حين دخلت مكتب الملحق الثقافي الفرنسيبأن رأيت صورة كبيرة لي معلقة على أحد جدران المكتب. كانت صورة قديمة، أخذت لي فيأيام الصبا، أبدو فيها ممتطيا فرساً أصيلة كنا نملكها في ذلك الزمن ومرتديا ثياباعربية، استغربت وجود هذه الصورة وسألته عنها. ابتسم وقال إنه عثر عليها بحجم صغيرحين زار الرقة ، وإنه كبرها وأحاطها بهذا الإطار في بيروت ، وإنه استدعاني ليرجونيأن أضع توقيعي له عليها. لم أملك إلا أن أجاريه في الابتسام وقلت له: ولكنك تضعصورتي في صدر مكتبك الرسمي، هذا المكان ليس لي ، إنه مكان المسيو ميتران ! كانفرنسوا ميتران يومذاك هو رئيس الجمهورية الفرنسية . كان جواب الملحق الفرنسي ،الموظف في سفارة بلاده، هذه الكلمة الغربية التي قالها بلهجة اقتناع : أنت قيمةأكثر ثباتا من المسيو ميتران!
بالطبع لم أكن من الغرور، أو من فرط الإعجاببالنفس، بحيث أصدق أن قيمتي تفوق قيمة رجل كان رئيس جمهورية فرنسا في يوم من الأياموكان مالئ الدنيا وشاغل الناس في زمن رئاسته، ولكن كلمة المجاملة التي نطق بهامخاطبي الكريم، السيدك. لوشون ، تصور بجلاء اهتمام نخبة المثقفين ، إن لم أقلعامتهم ، في عالمنا الحاضر بالأدب وبمبدعيه وتقديرهم لهم وله. وعلى ما يشبه الرغممني، كما أسلفت القول، أصبحت مجرورا إلى هذا التقدير وذلك الاهتمام بالفن الذي بدأتفيه هاويا مثل المستهين ثم انتهيت إلى أن أجده أجدر ما أختم به هذا الحديث عن مرفأالذاكرة ،وعن الخواطر التي رست فيه بعد طول الإبحار.