عرض مشاركة واحدة
قديم 04-25-2012, 01:29 PM
المشاركة 468
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
القصيدة الأولى

كان تلامذة مدرستنا الوحيدة فيالبلدة قد تهيأوا، بإشراف معلميهم، ليقوموا بتمثيل مسرحية عنوانها "وفاء السموأل"،كنت أحضر معهم تجاربها وأشاركهم في إعدادها ، نظمت أنا لهذه المناسبة قصيدة ، كانتأول قصيدة لي صحيحة الوزن وسليمة اللغة على ما أذكر، وعهدت بها إلى أحد الفتيانليفتتح بها التمثيل مشترطا عليه ألا يذكر اسمي كناظم لها، كان اشتراطي هذا نابعا منانطوائي على نفسي وحياء مفرط يجعلني أتهيب من كل إشارة إلىّ تميزني عن الآخرين، بدأتمثيل المسرحية مسبوقا بإلقاء تلك القصيدة، ولكن ما اشترطته على ملقيها لم يدخل فيحيز التنفيذ فقد أعلن ذلك الفتى اسمي بأعلى صوته منوها بأني أنا ناظم القصيدة، وماجرى في اليوم التالي لحفلة التمثيل أن أقرباء أبى وأصدقاءه تكاثروا عليه بلومهمإياه على دفن مواهبي في العلم والأدب تحت غبار المطحنة وفي زيتها، وبمطالبتهم لهبإعادتي إلى حلب كي أتابع الدراسة التي هجرتها في ثانويته.
وهكذا عدت إلى حلبومدرسة التجهيز الثانوية فيها، وقد ضاعت على أربع سنوات من الدراسة ، استدركت سنتينمن تلك الأربع في فحص تأهيل، اجتزته بنجاح ، وضاعت مني سنتان، ولكن هل ضاعت منىتلكما السنتان حقا؟ الصحيح أن لا . سنوات الانقطاع التي ضاعت منى، أو على ، اكتشفبعدها أنها اكسبتني فوائد لا تقدر بثمن ، عدا نضج الفكر وتجربة العمل ومعرفة أصنافالناس التي تحدثت عنها، وجدتني قد حصلت من قراءتي على زاد من المعرفة في علوم شتىأتفوق بها على أقراني في المدرسة التي عدت إليها، وأحيانا أتفوق بها على أساتذتي فيبعض تلك العلوم . وأهم من ذلك كله اكتشف أن تهيبي من الحساب والرياضيات والعلومالحقيقية ، الذي كنت أحسبه ضعفا وعجزا مني فيها، اكتشفت أن ذاك التهيب قد فارقنيكليا وتحول إلى مقدرة وولع شديد بتلك العلوم.
ثابرت في المدرسة الثانوية علىقرزمة الشعر ، أعلى نظمه نظما هزيلا في أول الأمر، إلى أن استقام لي أمرهبالاستمرار وبتوسع المعرفة ، إلا أنى لم أتعد فيه المزاح والتسلية ، أسخر فيه منرفاقي وأرسم به صوراً ضاحكة لأساتذتي، وأحيانا أنظم به نظريات الهندسة ودروسالكيمياء في أراجيز ساخرة على طريقة ألفية ابن مالك! ذلك أن تعلقي الكبير والجادكان بالعلوم الحقيقة من فيزياء ورياضيات ، يعجبني العناء الذي أتحمله في إتقانهاوالنجاح في دروسها، في حين أن النجاح في الأدب، نثره وشعره ، كان يواتيني بسهولةويشهد بنتائجي المشرفة فيه المعلمون والرفاق، وإلى جانب هذا نمت في نفسي، مع تقدميفي الصفوف العليا، بذرة حب العمل العام ، العمل لصالح الذين أنا منهم في مجتمعي وفيالوطن الذي هو وطني. أصبحت في السنين الأخيرة من الدراسة الثانوية الرئيس المنتخبللجان الطلاب، والمؤسس لمجلة أصدرتها مع رفاقي وسميتها "صوت الطالب" ، والمشارك معإخواني في الإضرابات والتظاهرات ضد المحتل الفرنسي، والمتكلم باسم أولئك الإخوانحين يقتضى الأمر المديرين والوزراء.

أسماءمستعارة

وبمثل هذا التستر والتوقيع بالأسماءالمستعارة نشرت كتابات أدبية كثيرة في عدد من الدوريات المشتهرة في ذلك الزمن ، مثلمجلة "الحديث" في حلب و "المكشوف" في بيروت ، وهي دوريات كانت تحفل بما يكتبهأساطين الفكر والثقافة ويطمح الكثيرون إلى أن تظهر أسماؤهم فيها. أما أنا فكنتقانعا بأن يجاور إنتاجي الأدبي في تلك الدوريات إنتاج المشاهير، وبأن يلقى الإعجابمن القراء دون أن يعرف أحد، إلا الندرة من أصحابي، بأني كاتب تلك القصص أوالمسرحيات أو ناظم تلك القصائد ، واستمر هذا إلى أن نلت شهادة البكالوريا من صفالرياضيات لا من صفوف الفلسفة أو الآداب، وإلى أن احتضتننى الجامعة السورية فيدمشق، في دراستي الطب فيها، بعد احتضان مدرسة التجهيز الثانوية لي في حلب.
العلم ، والأدب، والعمل العام ، هي المهام الرئيسية الثلاث التي حملتها معي منمرحلة الدراسة الثانوية إلى المرحلة الجامعية، ثم إلى جميع مراحل حياتي التاليةلهذه وتلك .
في العلم كنت الطالب الجاد والدائم النجاح ، ثم المتابع لكل ما هوجديد في الميدان الذي اخترته لحياتي، ميدان الطب والعلوم التي يستند إليها ،والمطبق لمعرفتي بكل إخلاص وتفان على من هم بحاجة إليها في ذلك الميدان ، وفي الأدبتابعت مسيرتي كهاو له، أعتبره متعة وتسلية ، ولكنى لا استهين به ولا تهاون في تلمسالإتقان والجودة فيه، ظللت ردحا من الزمن ، سبع سنوات أو ثمان ، أنشر ما أكتبه فيالدوريات المختلفة متسترا وراء الأسماء المستعارة، كنت أنتقل من اسم إلى آخر، معمياعلى من يريد معرفتي، إلى أن وقعت فى فخ أحد الصحفيين الذي كشفني وعرف بي ثم أقنعني،بعد أن أصبح صديقا لي، بأن ليس من حرج في أن يعرفني قرائي ولا من خطر في أن تلحق بىالشهرة ! وفي هذا المجال أذكر أن أحد الدارسين أحصى الأسماء المستعارة التي كتبتبها بين عامي 1936 و 1970 فوجدها تتجاوز اثنين وعشرين اسما .
أما عن العملالعام ، فقد كان استمرارا لما كنت بدأته في دراستي الثانوية ، لا مجال في العملالعام للمجهولية وللتستر وراء الأسماء المستعارة ، عرفت بين أقراني بالنشاط في هذاالميدان ، وعندما بلغت الصفوف المتقدمة أصبحت رئيس لجنة الطلاب في معهدي لعدة أعوامومشاركا مرموقا في فعاليات الأوساط الجامعية من ثقافية ورياضية وسياسيه . وكانت تلكمقدمة لانغماري ، بعد تخرجي في الجامعة السورية طبيبا، في خصم العمل السياسي فيبلدي، قمت بترشيح نفسي للنيابة في بداية عملي كطبيب في بلدتي، الرقة ، وفزت بعضويةالمجلس النيابي السوري عنها ، وكان ذلك في صيف عام 1947، أعنى منذ أكثر من نصف قرتمضى .
ذكريات العمل السياسي، كما باشرته بنفسي في نحو من سنتين كنت فيهما أحدممثلي الشعب في المجلس النيابي ذاك ، هي من الكثرة والأهمية بحيث يضيق بها مرفأالذاكرة . كانت سوريا قد نأت استقلالها التام بجلاء جيوش المحتل عنها منذ سنة واحدةفانصرف حكامها ووراءهم الشعب إلى الجهاد الأكبر بعد الجهاد الأصغر ، أعني إلى معركةالبناء واستعادة الحقوق المغتصبة والسعي لتحقيق المثل العليا . الذكريات كثيرة كماقلت . وأقف منها على ذكريات وقائع معينة كانت من أهم ما مربي تأثيراً لتفكيريوتوجيها لسلوكي. تلك هي الوقائع التي شهدتها أو شاركت فيها ثم تابعت مجرياتهاومازلت لها متابعا ، وأعنى بها وقائع القضية الفلسطينية.