الموضوع
:
أفضل مئة رواية عربية – سر الروعة فيها؟؟؟!!!- دراسة بحثية.
عرض مشاركة واحدة
04-25-2012, 01:28 PM
المشاركة
467
ايوب صابر
مراقب عام سابقا
اوسمتي
مجموع الاوسمة
: 4
تاريخ الإنضمام :
Sep 2009
رقم العضوية :
7857
المشاركات:
12,766
عالمي
الجميل
كانت المدرسة عالمي الجميل والمفضل،
ولكنها لم تكن كل العالم لي، كانت هناك المطحنة التي يملكها والدي، وهناك مضارب
أعمامي في البادية حول بلدة الرقة ، أو بالأحرى في سهول تلك البادية التي تعشب في
الربيع فتحرق أعشابها شمس الصيف الملتهبة فترتد مقفرة جرداء. كنت أتردد على المطحنة
لأحمل لأبي طعام غدائه وعلبة دخانه اليومية من منزلنا، ولأتأمل في الرحى الدائرة
وهي تتلقى الحنطة حبوبا قاسية وتقذف بها دقيقا ناعما، و لأتطلع إلى المحرك ذي
الدولابين الضخمين وهما يدفعان بالمكبس إلى جوفه ويجتذبانه من ذلك الجوف، في حركات
منتظمة عنيفة ورشيقة في آن واحد ، وحدث في إحدى مرات تطلعي ذاك أن علق طرف القنباز
الذي كنت أرتديه بالسير الجلدي لمضخمة الماء التي كانت مركبة فوق بئر في جانب
المحرك، وهو يدور على دولابه ، فلم أشعر إلا وأنا مرتبط بذلك الدولاب مرتفعا إلى
قمته قبل أن ينحدر فيلقيني في قرارة البئر. سارع أرمين ، ميكانيكي المطحنة الأرمني،
إلىّ واجتذبني من يدي بقوة قاذفا بي إلى الأرض بجانب فوهة البئر. وسلم الله ذلك
الصبي الطلعة ، القليل الحذر من هلاك محقق آنذاك
.
أما مضارب أعمامي فقد كنت
أتردد عليها، في الربيع، في العطل المدرسية وبعد الظهر من كل خميس ويوم الجمعة
التالي له . كان أهل بلدتنا، وأسرتنا من بينهم ، نصف حضر يسكنون منازل البلدة
الحجرية نصف السنة ويخرجون إلى السهوب المعشبة في الربيع وأوائل الصيف مع أغنامهم
يتنقلون بها بين المراعي. والدي كان من أوائل الذين تحضروا وسكنوا البلدة في السنة
بكاملها ، ولهذا كنت ألجأ إلى منازل أعمامي في بيوت الشعر في المراعي كلما أتيحت لي
الفرصة، فأرعى مع صبيانهم الخراف وأطاردها حافي القدمين معهم ، وأنام تحت سماء
الربيع المتألقة النجوم وأستمع في الفجر، وأنا بين النوم واليقظة ، إلى أحاديث
المتسامرين المتحلقين حول النار الموقدة في كاسر البيت قبل أن يهب الرجال ليأتوا
بنعاج القطيع إلي أمام المضارب وتهب النساء لتحلب تلك النعاج
.
منعطف حياتي
بعد
الدراسة الابتدائية كان علي أن أنتقل إلى حلب لمتابعة تعليمي لأن الرقة لم تكن تحوي
مدرسة ثانوية، وهنا وفي ختام السنة الأولى من الدراسة الثانوية، حدث ما اعتبرته بعد
ذلك المنعطف الكبير في حياتي. أصبت في العطلة الصيفية بمرض ألجأ والدي إلى أن
ينقلني إلى حلب ليعالجني أطباؤها، لا أذكر اليوم، وأنا الطبيب، ماذا كان ذلك المرض،
الذي أذكره أن الدكتور مونييه، وهو الطبيب السويسري الجنسية الذي تولى العناية بي
في مستشفاه نحوا من عشرة أيام ، أشار على أبي بأن يقطعني عن الالتحاق بالمدرسة عاما
كاملا، بقيت العام التالي بطوله في الرقة بناء على إشارة الدكتور مونييه، وبقيت
عامين بعده فيها بناء على رغبة الوالد الذي أرادني على أن أنقطع عن الدراسة لأعينه
في إدارة أعماله وأملاكه ، أنا الذي كنت ولده الوحيد آنذاك
.
كان ذلك مصيرا
قاسيا لي أنا الذي فتحت آفاق تفكيره وألهبت خياله قراءاته الكثيرة والمختلفة ، ولكن
رب ضارة نافعة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، كانت هذه الأعوام الثلاثة
المتتابعة ضرورية لنضج تفكيري كما أنها ألحقني بمدرسة من نوع آخر، رحت أتلقى
المعرفة فيها لا من أفواه المعلمين أو من صفحات الكتب، بل من مخالطة الناس وممارسة
الحياة والتعامل المباشر مع أمورها. تلك هي مدرسة العمل إلى جانب والدي وتحت
إشرافه، عملت في المطحنة التي كنا نملكها مشرفا عليها وجابيا على غلتها، أتاح لي
ذلك التعرف على أصناف الناس الذين كانوا يتوافدون علينا، نساء ورجالا، من البلدة
ومما حولها في المنطقة الواسعة المحيطة بالبلدة، البدو كانوا يأتوننا بقمح مؤونتهم
على جمالهم ، والقرويون على الحمير، وسكان البلدة على عرباتهم التي تجرها الكدش،
وهي غير الأصائل من الخيل ، أصبحت على معرفة بالقبائل نسبا ولهجات كلام ورزاية
أحداث سالفة وجيدة ، هذا في النهار، أما في الليل فقد أتاح لي سن اليفع الذي قاربته
أن أكون من رواد مضافة أسرتنا، أجلس منها قريبا من المدخل، مستمعا إلى أحاديث
الكهول عن شئون الأقارب والأباعد، في بلدتنا ومنطقتها وفي مدننا وبلادنا بأسرها
.
وفي شهر رمضان بصورة خاصة كنت أستمع إلى أحد أعمامي ممن كانوا يحسنون القراءة يتلو
على رواد المضافة ، بعد صلاة العشاء كل ليلة ، فضلا من كتاب فتوحات الشام للواقدى
أو من رواية سرور آغا وصالحة خانم وسلطان عبد الحميد المترجمة عن التركية ، وحين
كانت تتأزم أمورنا السياسية مع فرنسا المحتلة كان حضور المضافة يتحلقون حول ذلك
العم أو غيره وهو يتلو عليهم آخر افتتاحيات نجيب الريس، في جريدته القبس، في مهاجمة
المحتل وتسفيه سياسته ، فتلتهب النفوس حماسة وتعلو الأصوات بالاستنكار والاحتجاج
والتنديد
.
رد مع الإقتباس