الموضوع: لقاء الدهشة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
1259
 
نهـاد الـرجوب
من آل منابر ثقافية

نهـاد الـرجوب is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
74

+التقييم
0.02

تاريخ التسجيل
Mar 2015

الاقامة

رقم العضوية
13699
01-20-2021, 03:51 PM
المشاركة 1
01-20-2021, 03:51 PM
المشاركة 1
افتراضي لقاء الدهشة
[justify]
لقاء الدهشة
في لياليه الأخيرة لم نفارقه إلا مع كل بزوغٍ للفجر، كأننا كنا ننتظرُ صعودَ الروح، نرتقبُ الاستسلام، ونتمنى لروحه الهدوء و السلام في حضرة الموت، تمنينا جميعاً ألا يطول عذابه أكثر، كانت آهاته تصل عبر نافذته لنافذة أمي البعيدة، لأبعد من خمسين مترا، أنيناً مصحوباً بحمى الألم الذي لا تراه أمي إلا بقلبها، مع كل أنَّةٍ تدعو له بالرضى والفرج، أي فرجٍ كانت تقصدهُ أمي؟
تُراها كانت تقصد شفاءَه من مرض السرطان الذي نهش داخله وتفشى في أنحاء جسده النحيل؟ أم كانت تقصد انتهاء العذاب بالراحة الأبدية من عند الرحيم الغفور؟
كلما تصاعدت آهاته كانت تعتلي قلبها رعشة الفقدان، كمن يرتقب حتفه برعبٍ شديد. أمي لم تكن يوماً مهزوزة مكسورة الروح كما هي الآن، أي وجعٍ هذا الذي يجتاحُ كيانها، تبكي حينما تسمعه من بيتها ينادي "يما" تتمنى لو أنها تستطيع مواجهة الموت وتنقذه برحيلها قبله، قالت مرارا: "يا رب هو صغير، خليه يشبع من عمره وخذني أنا". وكأن هناك أعماراً للموت، يقبض ملك الموت الكبار في السن ويترك الصغار ليكبروا فيقبضهم لاحقا، بريئة في عاطفتها، عظيمة في حنانها.
اغتالتْ نبضاتِها دهشة اللقاء، كانت تراه يجلس أمام بيته في صباحات حزيران، في أفياء السرو المحاذي لشرفته، يلقي عليها التحية بصوت جهور، تهدأ كينونتها برؤيته، اعتادت رؤيته في زاوية شرفته يلبس بيجامة سوداء وقبعة سوداء، يجلس على كرسيٍ ويحني ظهره للأمام ويضع كفيه تحت ذقنه، يحدق في الأرض عند موضع قدميه، لا يكلم أحداً، هو فقط يريد الهدوء، يجلس ساعات بنفس الوضعية، هي لا تعرف بمَ يفكر، كل ما تفهمه أنه مريض ومنطفئ القلب، لا يريد أحداً ولا يحب سماع النصائح، لا يجادل ولا يناقش، يطأطئ رأسه شاردا في أفكاره في عوالم لا تعرفها أمي. وحين تراه ينهض ليمشي قليلا تلمح طوله وهزاله، لكنها لا تفكر كثيرا وتأمل أن يستعيد عافيته في الأيام القادمة.
مر شهر وأكثر وهي ترقب خروجه ولا يخرج لتلك الزاوية، سألتْ باقي أخوتي عنه، الجميع أخبرها أنه بخير، هو فقط يحب النوم وأدويته تجعله ينام كثيرا، هكذا يجيبها الجميع، وفي قرارة نفسها تعلم أن الأمر مريب جدا، وهي لا تستطيع الذهاب إليه، ثلاث درجات تمنعها عنه، ثلاث درجات تجعلها تفكر كثيرا قبل أن تقرر النزول لأي مكان، هي لا تثق بأحد يحملها تخاف أن تسقط أرضا من على كرسيها، ولا بقدميها وعصاها، ولا بعجلات كرسيها المتحرك، لكن القلق أكل قلبها ببطء مميت، قررت أن تنزل هذه الدرجات وتذهب إليه لتطمئن وتهدأ، قررت أن تواجه قلقها دفعة واحدة، أن تكتشف سرَّ غيابه عن شرفته، ليس صحيحا أن أوقات خروجه للشرفة اختلفت عن مواقيتها في خروجها لشرفتها، ليس صحيحا أن مفعول أدويته يستمر لأربع وعشرين ساعة، كيف يمكن لغريزتها أن تصدق كل هذه الترهات، هي التي تعرف أي أنفاس يتنفّسها صغيرها الأربعيني، قررت أن تدق باب الحزن علّها تسرق لحظة من الحياة وتبثها من فتحة بابه الموارب، نزلت بقلب يرجف، ترى ما حال صغيري النائم؟
دلفتْ لغرفته، سريره لا ينبئ عن جسد ممد داخله، ولا رأس يرتكز على المخدة يعطي هيئة إنسان في هذه الغرفة، التفتت يمينا وشمالا تبحث بعينين ذابلتين عن فلذة كبدها، " هو وين زياد؟"
أجابها بصوتٍ خافت: "أهلين يما، هيني". لم تستطع الاقتراب من سريره بسبب كرسيها المتحرك، وهو لم يقوَ على النهوض أو الجلوس باعتدال ليصافحها، يكفي أن تسمع صوته لتفهم أي حقيقة أخفاها عنها الجميع.
نظرتْ إليه وأجهشت بالبكاء، ملامح دقيقة جدا بالكاد تظهر، عيون غائرة، وعظمتان تعتليان خديه ببروز مخيف، رأس أصغر من رأس طفل وليد، تستطيع أن تعد أسنانه من الخارج وهو مطبق فمه بإحكام، تستطيع أن تعد أوتار رقبته الملتصقة بفقراته من الخلف بوضوح تام، وضعت يدها على فمها وحبست صوتها المتحشرج لئلا تؤذيه ببكائها، رفع يده ملوحا بالسلام لها مع ابتسامة باهتة وشوق غريب لاحتضانها، نظرت بعمق لوجهه، اصفرار بشرته أخبرها أن الأمر أكبر من كل الأدوية والمسكنات التي يأخذها وتبعده عنها، بكت بحرقة كأن روحها تنسل منها، مات كل شيء فيها منذ تلك اللحظة، لقاءً غريبا داميا مميتا، قل ما شئت فهو أقسى من كل مشاعر الحزن، صغيرها يذهب لحتفه، رفع لحافه ببطء وطلب من أخي أن يساعده للجلوس على حافة السرير، وما أن لمحت أمي هزال جسمه خارت كل قواها، ما هكذا كانت تتصور الأمر، ظلت واضعة يدها على فمها وتبكي بصمت.
لم تعرف ماذا تقول، ارتعاشة صوتها وتلعثمها يشي بالكثير المكتوم، الكثير المؤلم، كيف تخفي دهشتها وقد استباحت مساحة كبيرة من قلبها فأذابته، ترى كيف تجرّعت هذا اللقاء في سرّها فيما لم تظهره لنا من مشاعر؟ كم استغرقها من الوقت لاستيعاب الحالة التي آل إليها صغيرها؟ هل ستتجاوز الأمر كعادتها بإيمانها أن الغد أفضل؟
أنزل زياد قدميه من على السرير، وطلب من أخي أن يغطّي ظهره باللحاف لئلا يتسلل البرد إليه، نظرت أمي إلى قدمي زياد المتورمتين، أمسكتُ بيد أمي، لا أعرف لماذا، شعرت بها تختنق، وبقلبها يحترق، ضغطت برفق على يدها وقبلتُ رأسها وأنا أقف خلفها من وراء الكرسي المتحرك، قالت: " يا الله الصبر، الله يشفيك يما"
كنت على يقين أن أمي لا تدري كيف تخفف من همّ زياد، وفي نفس الوقت هي لا تريد أن تشعره بحزنها عليه، أو بالأحرى احتراقها لأجله، تصمت ثم تعود للبكاء، بسيطة هي أمي، لا تدري بأي قلب تواجه الصدمة أمام صغيرها المصاب بالسرطان. كانت في نيتها أن تجلس عنده للمساء، لكن الألم الذي غشى قلبها وضعها تحت خيار صعب، خيار الهروب لتعيش صدمتها منفردة، لتحاول استيعاب الحالة التي وصل لها فلذة كبدها، ذوت بقلب منكسر وعيون دامعة، ذوت في فراشها بلا رغبة في النوم، هي تريد لانشقاق روحها أن يلتئم قليلا لتفهم ما جرى وما سيجري، جميلات هن الأمهات حين يخفين خيبتهن بالنوم المصطنع والتظاهر باللامبالاة، جميلة هي أمي في دعواتها الصامتة، "يا رب هو عليك هيّن، اشفه لصغاره...."
لم تنطق بكلمة واحدة، لمحت دموعا تتسرب من بين جفنيها المغمضتين، أنا لا أقوى على مثل هذه المشاعر، قلبي في المنتصف، بين أمي المكلومة وأخي المريض، لكنني أعترف الآن، أن حزني تجاه أمي في وقع الصدمة عليها أكبر من حزني على أخي المريض، ربما اعتدت على هيئة أخي، جسمه الذابل النحيل وصوته الخافت، انطفاءه وعزلته، كلها اعتدت عليها رغم ألمي المتصاعد في كل مرة أزوره فيها، لكن الأمر مختلف، أمي نوع آخر من المشاعر. ولكن لا شيء من الممكن أن يواسيها، ما من أحد يستطيع محو هذا المشهد من ذاكرتها أو حتى تصويره بنمط آخر أكثر لطفا للتعايش، أمي لم ينهِ المرض أجلها، بل حزنها على فراق أخي أنهكها فأهلكها.
[/justify]