عرض مشاركة واحدة
قديم 08-09-2013, 03:37 PM
المشاركة 7
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تشرين
21/11/2012

آفاق.. شراك التفاصيل ...رواية (آن الجمالونات الخضراء ) كمثال
صلاح صالح
من العبارات المتداولة بكثرة في هذه الأثناء، أن (الشيطان يكمن في التفاصيل) عكساً للفكرة الذاهبة إلى أن (الله يمثُل في التفاصيل) وأظنّها العبارة الأصلية في مجريات التعامل الثقافي مع التفاصيل، على أساس أن التفاصيل، بإطلاق المعنى وتحريره من التقييدات الظرفية.

هي التمظهر الأنسب الذي تتجلّى فيه قدرة الخالق. غير أن التفاصيل ذات طبيعة مراوغة، لا تمكّن المتعامل معها من النفاذ عبرها، بغية الوصول إلى ما يليها في سياق توسّل الصورة الكلية التي يبتغيها المتعامل مع التفاصيل. وهي أيضاً، تشبه المتاهة، أو الشراك الجاذبة القادرة على إبقاء المرء مستغرقاً فيها إلى حدود متطرّفة، لا تتيح له فرص الفرار والنجاة، في ظلّ النظر إلى الاستغراق وسماً للسيرورة باتّجاه عوالم لانهاية لها ممّا يُدعى (اللامتناهي في الصغر) ويتساوى في ذلك تعامل المرء مع المكوّنات الذرّية للعناصر الأوّلية في عالم المادّة، والأحداث الكبرى، والوقائع المفجعة التي نعايشها اليوم لحظة بلحظة، وتستغرقنا تفاصيلها إلى حدود مفجعة أيضاً. وفي هذه الآونة يصعب أن نجد أحداً قادراً على النجاة من شراكها، وخصوصاً من ناحية ممارسة الحياة السياسية التي شكونا طويلاً، طويلاً من الافتقار إلى وجودها. وإذا عاينّا ما يطفو على الوقائع الراهنة، ستبدو هذه الحياة الآن متاحة إلى ما يفوق البذل، فوق هذا البيدر المستباح من جميع الجهات والأطراف، البيدر الذي يفتقر إلى الماهية والحدود على حدّ سواء، لكنه بيدر مكوّن من شراك التفاصيل المراوغة التي دفعت د. عصام سليمان إلى التمسّك بالفكرة الذاهبة إلى أن التفاصيل تبتلع أي مشتغل في السياسة إذا افتقر إلى الرؤيا.
*ومن ناحية التعامل الفنّي مع التفاصيل نجد أن الرواية هي الفنّ الأكثر استثماراً للتفاصيل، ويمكن الذهاب بمقدار مناسب من الثقة إلى أن الرواية هي فنّ التفاصيل، أو فنّ الاحتفاء بالتفاصيل، مع إشارة نافلة تتمثّل في أن مجرّد الاكتفاء بسرد التفاصيل عاجز عن صنع رواية. فهناك وفرة من الأعمال المكتوبة التي تلتهمها التفاصيل، من غير أن تستطيع تكوين رواية، رغم إصرار مؤلّفيها، وناشريها أيضاً، على حشرها في خانة الرواية. إذ من البدهي في هذا الشأن إتقان الصياغة الجمالية ضمن منظور بنائيّ شامل لمختلف التفاصيل التي يمكن أن يحشدها الروائي ضمن دفّتي عمله. والأعمال العالمية والروائية الرائدة في هذا الشأن أشهر من أن نقف عندها.
*من هذه الروايات التي تحتفي بالتفاصيل، والتي شاءت المصادفة أن تكون ترجمتها العربية المتأخّرة أكثر من مئة عام، رهنَ القراءة لدى غير صديق متابع للقراءة: (آن الجمالونات الخضراء) للكندية لوسي مود مونتغمري، والرواية مكوّنة من حفاوة لطيفة، غير صاخبة، بتفاصيل حياة المهاجرين الأوربيين إلى العالم الجديد، واستقرارهم هناك في معاناة بناء عالمهم الذي أرادوه جديداً، رغم أنهم أسّسوا كلّ شيء هناك، بما في ذلك الثقافة والمعتقد على مرجعياتهم القديمة التي لم يستغنوا عنها خلال اندفاعهم إلى أصقاع ذلك العالم الكندي الشاسع.
*تندرج الرواية على وجه العموم تحت عنوان رواية التربية، أو التنشئة المسيحية في تصوّرها البروتستانتي، خلافاً للإصرار على وسمها بأنها رواية رومانسية، فلا شيء من الرومانسية فيها سوى حفاوتها بالطبيعة، والتغنّي بجماليّاتها المذهلة إلى حدّ الثمالة، مع الإشارة إلى أن حفاوة الرواية أيضاً بملكة الخيال لدى الإنسان عموماً، والأطفال خصوصاً، لا تنتمي إلى الرومانسية بوصفها رؤية للعالم، فثمّة فرق حاسم بين العوالم الرومانسية التي هام فيها الرومانسيون، وبين ملكة الخيال التي تقف وراء جميع الاختراعات والمنتجات التي تنعم بها البشرية، بدءاً من الشوكة والسكّين، وانتهاء بالكمبيوتر وسفن الفضاء. وما أراه جديراً بالانتباه في قراءة هذه الرواية أنها تنبّهنا إلى خطورة قتل النبل، والمثل العليا، والأحاسيس المرهفة، والخبرة الجمالية لدى الإنسان عموماً، والأطفال خصوصاً، تحت الأغطية السميكة الفائحة برائحة الدم والروث لبعض التصوّرات المَرَضيّة عن (الواقعية) ونسبية القيم. بالإضافة إلى إبراز الفرق الحاسم بين ما كان أولئك المهاجرون يعلمّونه لأبنائهم، من موسيقا، وفنون الإلقاء، ولياقات السلوك، والأداء اللغوي، وإتقان الإصغاء، في سبيل جعلهم أناساً راقين متحضّرين، وبين ما نلقّنه لأبنائنا، ونلقيه في أدمغتهم ووجدانهم الجمعي من أوساخ الكراهية والتعصب، ورفض الآخر، ونبذه إلى هاوية التدني والإلغاء.
*