عرض مشاركة واحدة
قديم 01-13-2013, 12:27 PM
المشاركة 886
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قراءة جملية للعنصر الذي وجد يتكرر في الاعمال العظمية حسب رأي الكاتب...شكرا له على هذا الطرح:
الحدس الروائي والتجادل مع الطبيعة
عبر قراءتنا المديدة للرواية لاحظنا ظاهرة إبداعية، هي الحدس، تتكرر في الأعمال العظيمة لعدد من كبار الكتاب مثل: فيدور دستوفسكي، أونريه دي بلزاك، نجيب محفوظ، جبرا إبراهيم جبرا، وزياد قاسم.
في روايته الأبله المنشورة قبل ثورة أكتوبر 1917 بحوالي نصف قرن كتب دستوفسكي: هذا الروسي الغليظ والعنيد سيغير وجه العالم. قال ذلك وروسيا مجرد نظام إقطاعي متخلف، ينخر فيه الجهل والفساد وتسيطر عليه أجهزة القمع القيصري! كيف رأى أعظم كتاب الرواية في روسيا ذلك؟ وكيف استطاع روائي فرنسا الأشهر بلزاك قراءة التاريخ الاجتماعي لفرنسا ومساراته اللاحقة بأفضل مما قرأه علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد مجتمعين، كما قال أنجلز؟.. ومثله فعل نجيب محفوظ في ثلاثيته وزياد قاسم في أبناء القلعة وفي سداسيته الزوبعة.. إذ رسما بدقة مكونات الواقع الاجتماعي، كما أشر الاثنان مبكراً إلى الحضور اللاحق للتيار الجهادي.
يقيناً لم يأت هذا الكشف عبر البحث الأكاديمي، وإنما عبر الحدس الروائي المستند إلى خلفية معرفية واسعة وعميقة.
قبل الحديث عن الحدس الروائي، يجب التمييز بين عمليات الاستشراف الذهني المتصلة بالتحليل والاستدلال المنطقي التي تؤشر له الوقائع المادية، وبين الحدس المتصل بالإلهام والرؤيا، والمقارب للطفرة المعرفية، وهو ما يسميه جبرا إبراهيم جبرا في روايته البحث عن وليد مسعود: الحدس النبوي، ويقول: الحدس هو المهم. الحدس النبوي.
إن التعريف المعجمي العربي لكلمة الحدس لا يحدد كامل دلالاتها الفلسفية والإبداعية، ولكنه يقارب سياقاتها العامة، فالحدس لغة هو التخمين والظن والتخيل والتوهم والتوقع والتصور والفراسة والسبر، والمضي مع طريق غير مطروق، والرجل الحدُوس هو الرجل المغامر. وللكلمة معان أخرى كثيرة.
وموضوع الحدس من القضايا المبكرة التي انشغلت بها الفلسفة منذ المشائيين اليونان، ثم الفلاسفة العرب، مثل ابن سينا والغزالي. بل لا نكاد نقرأ فيلسوفا لم يهتم بالحدس. ورغم تعدد مفاهيم الحدس الفلسفي وتعريفاته إلا أن بالإمكان القول إن الحدس هو، كما تخبرنا الموسوعة الفلسفية: المقدرة على فهم الحقيقة مباشرة دون استدلال منطقي تمهيدي. ويرى ديكارت أن البديهيات تفهم بطريقة حدسية بحتة، فيما رأى سبينوزا بالحدس نوعا ثالثا من المعرفة، بل كان يعدّه أكثر أنواع المعرفة فائدة وأهمية.
ولكن كيف يتحقق الحدس ومنه الحدس الروائي الذي يستطيع أن يبصر ما لا تراه العين، ويرى ما لا يخضع للتفسير العقلي؟
يرى الكاتب والمفكر السوري صبحي درويش أن في أعماق نفس كل إنسان كنوز ودفائن كثيرة، ومواهب وقدرات كبيرة، وقوى نفسية خارقة. وفي أغوار اللاوعي طاقات نفاذة وقوى مبدعة... وهي قوى لاشعورية تنبعث من أعماق العقل الباطن. ومن المعلوم أن الوعي شيء قشري سطحي مقابل اللاوعي أو العقل الباطن الذي يتحكم فينا بآليات غير مفهومة ولا تخضع للمنطق (انظر: موقع الحوار المتمدن، عدد: 1527، 21/4/ 2006).
ويرى المفكر السعودي المعروف إبراهيم البليهي أن الحدس الخارق والصائب: هو ضوء يسطع في الذهن فجأة وبقوة فيفتح أبواب الحقيقة للباحثين ويمد العاملين بالإلهام، وهو ذروة المصادر الأربعة الرئيسية للمعرفة. ويضيف إن كشوف العلم وروائع الفكر وفتوحات الأدب وانجازات الفن ومهارات الأداء ليست ثمرة من ثمار الالتزام بقواعد البحث وأساليب الأداء فقط وإنما هي الهامات مضيئة تنبثق من حرارة الاهتمام.
ويتصل الحدس الروائي بالرؤيا، بوصفها سمة مميزة للأدب الذي يقدم رؤيا أو نبوءة ملهمة. ومصطلح الرؤيا هنا يرجع إلى سفر الرؤيا للقديس يوحنا، ولكنه يطلق الآن على أي قول أدبي يكشف عن المستقبل ويتنبأ به.
والحدس الفني في الرواية واحد من العلامات الدالة على مدى الإبداع المتحقق فيها، نظرا لما يحمله النص، عبر محاورة الواقع واستبطانه، من استشفاف للغد يشكل إشارة سهم مضيئة إلى الأمام، ويمكن أن تلعب دورا ملهما في فهم الواقع والتحرك به نحو المستقبل.. فيكون المبدع هنا: شاهدا على زمنه، ومحرضا على تغييره، ومبشرا بغده.
ومثل هذا الدور الذي يلعبه الحدس الروائي لا يتم بقرار مسبق، فالكتابة الروائية لا تتم وفق مخطط مكتمل معد سلفا، بل بفعل امتلاك المبدع لخاصيات التأمل الفني والحدس الذاتي، إلى جانب امتلاكه لشمولية المعارف الإنسانية التي لا غنى عنها في أي رواية عظيمة، كما سنرى في رواية البحث عن وليد مسعود، وحيث يحرص جبرا إبراهيم جبرا ومنذ الصفحات الأولى، على رسم شخصية وليد مسعود بوصفه كائناً استثنائياً مسكوناً بالاحتمالات، ومرشحاً للإقدام على مواقف غير متوقعه، وإن كانت تعبر بصورة غامضة عن تاريخ خاص ودوافع خاصة تجعله مختلفاً عن الجماعة، ليس بسبب هويته الفلسطينية فحسب، على أهمية ذلك، بل بفعل شيء أشبه بالتصدع يتبدى في كيانه، كأن تفاعلاً كيماوياً داخلياً جعل يكشف عن نفسه في صوته، في كلماته، في عينيه.
ولكن ما سر هذا الغموض الذي يشكل تكوين وليد ويحيط بخياراته؟ ولماذا يرفض الواقع الذي يعيشه؟.. رغم أنه، وكما لاحظ صديق عمره عشرين سنة عرفته، والتراب يتحول إلى ذهب بين يديه. ورأيته وهو يرفض ذلك كله. إنه يغادر الواقع لأنه معتم والمستقبل مسدود دونه بالجدران السوداء العالية، فما الذي يتبقى لوليد إذن.
يجيب: لم يكن هناك ما يهديني نحو غايتي، إلا الحدس، والحلم، والتوق الذي لا استطيع أن أمنطقه. وكلما تطلعت بعيدا إلى التلال والوديان، والجبال البنفسجية التي تتماوج وراءها، أحسست أنها حية بالبراكين الكامنة فيها، وأن بوسعها أن تتفجر بين حين وآخر بحمم لعلها تغير كل شيء، ولكنها لا تفعل ذلك. وفي هذه اللحظة بالضبط يتذكر الزلزال الذي عاشه في بيت لحم العام 1927 وهو في السادسة من عمره.. فلا شيء قادرا على تفجير العتمة وهدم الجدران السوداء سوى الزلازل والديناميت، ولكن كيف؟
الطريق صعبة وطويل ومليئة بالألغام.. فيهرب من الواقع المستحيل إلى الحدس النبوي.. ففيه وحده اليقين والخلاص.
غير أن الحدس ليس بديلاً عن الفعل الذاتي للفرد، ولا هو بديل العمل الجماعي للأمة، ولكنه مزيج من الجدل السحري بين كل هذه العناصر: إن الحلول في آخر المطاف يجب أن تنبع من الداخل، من الإرادات التي تمثل بمجموعها هوية الأمة، وإن العقل، كما يراه هو، مزيج ذو ظلال لا تحصى يجب أن يتحرك بملء الحرية، مدفوعا بنزعة الإبداع الغامضة أبدا، الخطيرة أبدا، كي يستطيع أن يفعل فعله الحقيقي في المجتمع.
وجبرا/ وليد يستمد هذا اليقين من ينابيع الإبداع الأولى التي شكلت وجدانه.. إنها عبقرية الطبيعة الحية التي تستعصي على الموت والتصحر..
ذلك لأن الحياة تتفجر دائما إلى الأعلى، إلى الجانبين، إلى الأسفل.
فإذا حاولوا إرغامها على التصخر فإنها لا بد يوما أن تنفجر في وجوههم كالقنابل، مهما بدت مستكينة الآن. سفح صخري شائك، واحد، يحمل آلاف الحيوات!
هنا يتجادل على نحو مدهش الاستشراف العلمي المادي بالحدس الملهم فنكون إزاء المعجزة في أرقى تجلياتها (اليقينية): المعجزات، إنها تهبط عليك من السماء كصرة ملأى باللآلئ، يسقطها في حضنك طير كبير، جميل، مجهول، ضحى يوم مجنون.. المعجزات، هي هبات السماء هذه. فجأة ترى بين يديك روعة الوجود، مجسدة: روعة الكون في الأشجار والأثمار والغابات والجبال والبحار وشلالات الدنيا كلها. وفي لحظة عمقها دهور سحيقة تعرف كل شيء.
وتنسى كل شيء. وتتركز اللذائذ كلها بعينيك، بيديك، بشفتيك.
هذا الحدس النبوي لدى وليد لا يقتصر عليه وحده.. فهو يصيب المحيطين به بما يشبه حمى الحدس النبوي ذاته، وخصوصاً وصال التي يتلبسها يقين مطلق بمعرفة المكان الذي اختفى فيه وليد، ولماذا اختفى أيضاً، رغم أنها على مستوى المعلومات المباشرة لا تعرف شيئاً. تقول لجواد بيقين:
- وليد حي! وليد حي يرزق.
- متأكدة؟
- مئة بالمئة.
- هل رأيته؟
- طبعا لا. إنه في الأرض المحتلة باسم آخر.. ربما بشكل آخر، ولا أحد يعرف أين هو بالضبط... وأنا أريد اللحاق به.
ثم هي تتابع يقينها باتجاه اقتفاء أثره النضالي: نعم، نعم. إذا كان يسكن كهفاً، سكنت الكهف معه. ثم تضيف: فعلها يوما في صغره، فلم لا يفعلها اليوم في كبره. ولكنه في صغره لم يكن له من يريده. وحين يبتسم جواد ساخرا تقول: لا تبتسم دكتور جواد، لست مجنونة، ولست ساذجة إلى الحد الذي تتصور.. أنا أحدس الآن بأنه حي. وليد يريد أن يقاتل، على طريقته. فلأكن معه. أقاتل إلى جانبه.
عدوى الحدس التي أصابت وصال من وليد لم تلبث أن أصابت الدكتور جواد بالتتابع، ذلك أنه لم يستطع أمام حدسها الجارف سوى أن يؤمن بيقينها سواء توفرت الأدلة أم لم تتوفر.. فيتساءل بدوره: لم لا يكون وليد حيا؟ لم لا يعود ناسكا في كهف أو مسافرا باسم غريب، أو راهبا في دير إيطالي أو غير إيطالي - أحد تلك الأديرة الكثيرة التي طالما حدثني عنها؟ هناك ألف طريقة يعود بها الطائر إلى وكره. ومن هناك ينطلق إلى الفعل، مهما يكن مع زملاء له كثيرين.
وعند هذا الحد ينفجر بغتة حدس جواد بما يشبه البركان.. فيكاد وليد يصير مسيحاً جديداً يمشي فوق الماء: فلتمطر السماء ماءً، فلتمطر السماء ناراً: إنها لن ترهب رجلاً عبر الماء ولم يغرق، عبر النار ولم يحترق. أو إنه ما عاد يرهبه أن يغرق أو يحترق. لم يعد كائنا حقيقيا... كل شيء ممكن بخصوص هذا الرجل. كل شيء ممكن.
وجبرا في اندفاعاته الحدسية لا يغفل عن هذه الغرائبيات التي يسوقها على ألسنة أبطال روايته، بل إنه حتى يتوقف لمناقشتها وتسويغها على لسان الدكتور جواد الذي يتساءل عن سر وليد، وهو يواجه فيض حدس وصال: ... هل الوقائع دائما مادية ومحسوسة ومعقلنة؟ أليس ثمة في بعض الناس قوة لا تعللها هذه الوقائع. لأنها فيض ينابيع لا يحددها تشريح، أو فعل أو مكان؟
القرائن لا تنسجم دائما، والتناقض قد يظهر في أدق الأجزاء. ولكن من قال إن أجزاء الحياة تتماسك منطقياً وتناغمياً فيما بينها؟ وحيثما كانت الحياة صراعا مستمرا، وتحديا مستمرا، وحبا مستمرا -وهذه كلها تحتم خلق العلاقات التي تتضارب فيما بينها- كأن حاصل الأجزاء معا أكثر من مجرد مجموعها بكثير. وهل كان وليد إلا حاصل حياته وحياة المحيطين به، حاصل زمانه الخاص وزماننا العام، في وقت واحد؟ وأي زمان كان كلاهما، زمانه وزماننا! فلأعد إلى الغابة. ولأعد إلى البحر.
والحاج إبراهيم، صديق وليد، يعلم بما يشبه الحدس أيضاً أن واحداً من هؤلاء المنفيين، الذين من مواقع منفاهم يزعزعون العالم العربي ليعيد النظر في كل ما صنع وفكّر، ويملأون العالم ذكرا لاسم العربي، مهما تكن النعوت التي يطلقها عليه الأعداء، الذين تركبهم العقد النفسية تجاهه.
وهذا الذي لاحظه الحاج إبراهيم سبق أن لاحظه من قبل صديقه الدكتور رفعت عبر معاينة علاقة وليد بالنساء والتي يتمثل وجهها الإيجابي، كما قال: في شهوة في استطلاع ألغاز الكون مشفوعة بتلك الروح الثورية التي تكافح لكي تعطي العالم وجها جديدا.
وهذه الرغبة في التغيير شكلت سمة ملازمة لحياة وليد كلها منذ أن اندفع مع النساك الصغار إلى كهف وادي الجمل في بيت لحم مرورا بمغادرة مقاعد الدراسة في إيطاليا وصولاً إلى لغز اختفائه بين بغداد وفلسطين: ..هناك المنطق الذي سيبرر حلمي الذي لم يتح لي أن أفهمه في الكهف بوادي الجمل.
وإذا بي أكتشف أن ما أرسلوني لدرسه قد جعلوه وسيلة لتثبيت العالم، لا لتغييره. أردت تغيير الأعماق التي بها سوف يخلق الإنسان بشرا جديدا.
لقد لاحظنا، ونحن ندرس ظاهرة الحدس في رواية البحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا، كيف يوظف الطبيعة بكل مكوناتها وكائناتها للتعبير عن لحظة الحدس التي ينفجر بها وليد وأبطال روايته الآخرون: الجبل، الغابة، البحر، الشتاء، النهر، الجدول، السماء، الكهف، الماء، النار، الطير، الزلزال، الأفق.. الخ.. وبعد الطبيعة نفسه يتجلى كذلك في متشائل إميل حبيبي حيث نلحظ من خلال حوار باقية مع ابنها ولاء في كهف الطنطورة، وقوات العدو تحيط به كيف دفعها قلب الأم لثنيه عن المقاومة والاستسلام، فتروح تستنجد بمفردات الطبيعة كي تقنعه بأن زمن القطاف والثورة لم يحن بعد، وبأن لكل فعل موسماً يأتي به تقول: مثلما تسعى الطبيعة في سبيل حريتها.. فالفجر لا يطلع من ليله إلا بعد أن يكتمل ليله. والزنبقة لا تبرعم إلا بعد أن تنضج بصلتها. الطبيعة تكره الإجهاض يا ولدي.
ولا شك أن أسرار الطبيعة قادرة دوماً على أن تمنح من يتأملها مثل هذا الحدس النافذ، بل هو يستطيع أن يبصر بعين الرؤيا من الشيء نقيضه..
على هذا النحو من التجادل الحدسي مع الطبيعة: أم الأسرار وخالقة الاحتمالات، يختم جبرا صفحات روايته.. ولكن على هيئة طوفان من الأسئلة التي تحمل يقين إجاباتها.. ولكنها إجابات يتدفق بها الحدس: طيراً وغابةً وبحراً، وليس الذهن البارد: بحثاً وتحليلاً.
* كاتب أردني
nazihabunidal@hotmail
سنتابع تلخيص عناصر الجمال في افضل 100رواية عربية ظلوا معنا