عرض مشاركة واحدة
قديم 02-23-2016, 03:24 PM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
سليم بركات والمشروع الروائي المديد: امتزاج الوثيقة بالعجيب، والواقع بالفانتازيا، والتاريخ بالحلم
صبحي حديدي* - باريس
s.hadidi@libertysurf.fr
صبحي حديدي (albawaba)

في العام 2001 صدرت "الأختام والسديم"، رواية سليم بركات الثامنة. و إذا احتسبنا في عداد النوع الروائي العملين المكرّسين للسيرة، أي "الجندب الحديدي" (الطبعة الأولى 1980 وهي سيرة الطفولة) و"هاته عالياً، هات النفير على آخره" (1982 وهي سيرة الصبا)، فإنّ الحصيلة تصبح عشرة أعمال نثرية – سردية، مقابل عشرة أعمال شعرية (أوّلها "كلّ داخل سيهتف لأجلي، وكلّ خارج أيضاً"، 1973، وآخرها "المثاقيل"، 2000).
وسليم بركات شاعر أساساً، أو هو شاعر أوّلاً في ظنّ كاتب هذه السطور، ولكنّ أعماله تتساوى – وكانت قبل صدور مجموعة "المثاقيل" تتفوّق على – أعماله الشعرية، بالمعنى الكمّي في الأقل ّ(1). أمّا بالمعنى النوعي، فقد لاح أنّ انكبابه على الخيار الروائي أخذ يتكامل في "مشروع" روائي مديد، يستأثر بالكثير من طاقات بركات الإبداعية، ويستحوذ على الكثير من ترسانة اللغة الرفيعة الفريدة التي تميّز بها الشاعر على الدوام، ولعله سوف يكون قميناً بإزاحة الخيار الشعري إلى الصفّ الثاني.
وإذا كان خيار كهذا من حقّ بركات، وأيّ مبدع متعدد الأجناس في الواقع، فإنّ ممارسة هذا الحقّ على النحو الراهن لا تحول دون بروز مقدار من "التنازع" في استقبال النصوص الشعرية والنصوص الروائية، لجهة القارىء هذه المرّة، أو لجهة ذلك القارىء الذي توسّل إبداع بركات في الشعر أوّلاً وعلى وجه التحديد.

ذاكرة "الجزيرة"

وبينما كان مشروع بركات الشعري يسير وفق أواليات تطوّر "هادئة" نسبياً، أي أنها لا تنهض على انعطافات أسلوبية كبرى أقرب إلى الهزّات التي تقطع أكثر مما تتابع، فإنّ مشروعه الروائي كان هو الحقل الإبداعي الذي شهد مثل تلك الهزّات. وقبل رواية "أرواح هندسية"، (1987)، دارت أعمال بركات الروائية حول بعث الحياة في ركام هائل من الشخوص والحوادث الخاصة بالذاكرة الشعبية لمنطقة "الجزيرة" السورية بصفة عامة، وذاكرة مواطنيها الأكراد بصفة خاصة.
ولعلّ بركات يظلّ المتأمل الأعمق لتلك المنطقة الخصبة، بأقوامها ولغاتها وتواريخها وحكاياتها وأساطيرها، والمسجّل الأصدق (والأبرع والأذكى حتى اليوم) للخيوط الفلسفية التي تختفي وراء بساطة عوالمها الطريفة وعمق أغوارها التراجيدية في آن معاً. ولأنّ سرد الأحدوثة Episode ، ثمّ طرح الشخصية على مساحة تلك الأحدوثة باستخدام نثر تصويري مشحون، كانا يكفيان لمراكمة الإنطباعات وخلق الإيحاء الأقرب إلى الصدمة والسحر والفانتازيا، فقد نَدَر أن يهتم بركات بفحص مصادر السلوك أو تخطيط الشخصية على نحو دائري (أي على نحو درامي – اجتماعي – سيكولوجي). يُضاف إلى ذلك أنّ تزاحُم الأحداث وتعاقب الشخوص واختلاط الحدود الفاصلة بينها، كان أدعى إلى إضعاف الجوانب الإجتماعية، وأقرب إلى ترسيخ الغموض حول مصادرها وديناميات تكوينها.

"الجندب الحديدي"
ففي "الجندب الحديدي" كان توصيف بركات لذاكرة الطفولة الفردية بمثابة مدخل لتكوين المشهد الجَمْعي ودمج العناصر الحكائية (المتباعدة في المظهر، والتي سرعان ما تتواشج في العمق)، لنماذج وأنماط وحالات طريفة وعجائبية وخارقة. إنّ تفاصيل السلوك العصابي للطفل الراوي (حفر طريق عربات التبن وتمويهها لكسر قوائم بغل "سمعان"، وإيصال سلك الكهرباء بباب فرن "مرادو" فما أمسكه أحد إلا وصُعق، ودحرجة المدحلة الحجرية عن سطح البيت لتهوي على كلب "فلمز" فتصيبه بشلل نصفي...) كانت، إلى جانب طرافتها العنيفة، تقوم بتأهيب ذلك الثقل النوعي الذي يتركه سرد أحدوثات "أوسمانو" الشاب المحبط الذي تتعلّق "المسوخ اللامرئية" بدرّاجته في مكان قفر بين القرى، وجَدّته التي أسرت أحد هذه الكائنات بإبرة الخياطة فصار الكائن اللامرئي وديعاً أليفاً يضع يده على جرار السمن فتفيض وتظلّ تفيض حتى تأمره الجدّة بالتوقف، فيتوقف.
تكامُل هاتين الوظيفتين في صياغة سردية توثيقية جعل الباب مشرعاً أمام تقديم الحياة الإجتماعية كما تتجلى في جملة من أشكال النشاط الجماعي (الحصاد، التهريب، إعادة توزيع الحيازات الزراعية، الإنتاج البضاعي العائلي...). بيد أنّ هذه الأشكال ظلت ضعيفة في درجة إفصاحها عن أواليات التطور الإجتماعي – التاريخي، إذ كانت قد تحددت مسبقاً في ذلك المحور السردي من جهة، وبنثر سليم بركات الخاصّ الطاغي الذي لا يكفّ عن الضغط عليها من جهة ثانية.

"هاته عالياً"
في "هاته عالياً، هات النفير على آخره" اتخذ توصيف المصائر الفردية شكل سيرورة تفكيك وأعادة تركيب لذاكرة الأفراد الذين تقاطعوا، بهذه الصفة أو تلك، مع شبكة التحولات الكبرى التي عصفت بالبيئة الجغرافية إياها، وأفرزت بنية سيكولوجية جَمْعية مستترة تارة، ومفتوحة طوراً. ولقد تفجرت هنا وهناك في صيغة نهايات اجتماعية فاجعة هي، في المحصلة الأخيرة، مصائر تلك الانماط الأساسية ذاتها، الأمر الذي يفسّر ابتداء العمل بالهياج الجماعي الذي أعقب سماع بيان انفصال 1961 وانهيار تجربة الوحدة السورية – المصرية. وفي حلقة أشمل تنقلب الظاهرة الطبيعية (انحباس المطر، على سبيل المثال) إلى معادل جبّار يدمج المصائر الفردية بالمصائر الجماعية، ويسفر عن سيرورة رهيبة من ولادة "مزاج" جَمْعي يتواتر جيئة وذهاباً بين الذاتي والموضوعي، الخاص والعام، الحقيقة والوهم.
في "فقهاء الظلام"، (1985)، العمل الأوّل الذي يندرج في مصطلح الرواية حسب تصنيف بركات لأعماله، يتحوّل الميدان الطبيعي والبشري لمنطقة "الجزيرة" إلى منبسط درامي حاشد، يجثم على عناصره ذلك الإحساس العميق بوطأة التاريخ: تاريخ البلاد، تاريخ الأسرة المتسلسلة التي حلّت محلّ العشيرة والقوم، تاريخ الخرافة الشعبية التي استباحت الماضي حتى انقلب أساسها الأسطوري إلى منفذ تخييلي لمغالبة ذلك الماضي. الملاّ "بيناف" ينخرط في موقف عبثي يضمّ الطرافة والعجب إلى المحنة والمأزق: وليده "بيكاس" يتخطى الحاجز الزمني للعمر البشري، فهو يبلغ الثلاثين بعد سبع ساعات من ولادته، ويبلغ الأربعين عصراً، والخمسين مساءً!
وهو ينطق فور ولادته، ويخاطب والديه هكذا: "إنها محنة ستنسيانها حين تنقضي، أما أنا فلن أجد الوقت لأنساها". ويخرج الملاّ عن طوره ويكاد يجدّف – هو الشخصية الوقورة الدينية والدنيوية – حين يصرخ: "لا أريد أن لأفهم شيئاً فيما بعد ولا أريده الآن. لست معنياً بفهم هذه المحنة، فليفهمها ربّك"! وتشهد ساحة الدار، مثل البيئة بأسرها، طغيان أسطورة "بيكاس" وامتدادها المتسارع إلى جغرافية وتاريخ هذه المجموعة البشرية، فتنصهر الخرافة بالطرفة، والوثيقة بالعجيب، والوقائع بالفانتازيا، والرؤى الشعبية بالحلم الصوفي، وعادات الحياة بالكابوس.

المشهد التسجيلي المتضاعف

"أرواح هندسية"، الرواية الثانية، بدَت أقرب إلى "فقهاء الظلام" من حيث تشييدها لعمارة فانتازية ومنطق خاص يسوّغ تأرجح الخيال بصورة حرّة (في المظهر فقط، لأنها مقيّدة بقوانين صارمة في الجوهر) بين المشهد التسجيلي والأجواء السحرية. لكنها تمتاز بخصيصة الخروج من عوالم منطقة "الجزيرة" وعوالم الأكراد إجمالاً، وفي الإضعاف المقصود لطغيان اللغة ذات الأداء الشعري والمجازي العالي، وفي اختيار هيكلية سردية محكمة ذات تركيب دائري حَلَقي.

سليم بركات
وبقدر ما يبدو مكان الرواية غير المصرّح به (بيروت) وزمانها غير المدوّن (الحرب اللبنانية ونهايات الإجتياح الإسرائيلي لعام 1982، وخروج الفصائل الفلسطينية) مسلّماً بهما، بفضيلة الدلالات العديدة الصريحة، فإن اقتفاء المطابقات بين شخوص الرواية وما يمكن أن تمثله في الواقع الفعلي (داخل الساحات السياسية والإجتماعية والجغرافية والتاريخية التي تمتدّ عليها الرواية) لن يخرج عن إطار التمرين الذهني الذي لا يجدي كثيراً، خصوصاً إذا ما قُورن بحجم مزالقه وأفخاخه. وهذا إنجاز أوّل للرواية.
وبين أن تكون المدينة الكونية، الجاثمة بكل ثقلها على مناخات الرواية، حلقة جهنمية تنتظم في سلسلة متتابعة من وقائع خراب شامل قابل للحدوث هنا أو هناك، بمعظم شرطه العبثي الجوهري أساساً؛ وبين أن تكون المدينة إياها مزجاً متأنياً لجملة معاني الموت في حاضرة معاصرة واضحة المعالم ومكسوّة بلحم الحياة اليومية وبساطة / رهبة الوقائع، ينجح سليم بركات في إغلاق الهوّة الفاصلة بين مشهد تسجيلي بات مألوفاً ويرخي ظلاله على وجدان القارىء (بيروت الحرب والخراب)، وبين :توليف" فنّي للمشهد التسجيلي ذاته وقد تضاعفت فيه صُوَر المدينة حتى بات من النافل إعادتها إلى مساحة الواقع التي انتُزعت منه.
وكان لا بدّ للرواية الثالثة، "الريش"، (1990)، أن تواصل خيارات الإشتغال على مشهدية تسجيلية متضاعفة، ولكن في العودة إلى الموضوعات الكردية التي لن يغادرها سليم بركات بعدئذ. النقلة إلى الموضوع الفلسطيني في "أرواح هندسية" كانت محطة طبيعية، حتى من باب التقاط الأنفاس، ومدوّنة تسجيلية في إطار السيرة الذاتية أيضاً، قبل الغوص مجدداً في التاريخ الكردي. ولا ننسى، بالطبع، أن بركات خرج من بيروت إسوة بفصائل المقاومة الفلسطينية، وكان قد عمل مع الفلسطينيين سنوات طويلة، سواء في الميادين الثقافية (فصلية "الكرمل" ودار "العودة" مثلاً)، أو في الميدان العسكري المباشر (وهو يسجّل في "كنيسة المحارب" مذكراته عن حرب الجبل وجولات الصراع العسكري بين المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة، وأحزاب وميليشيات اليمين اللبنانية من جهة ثانية).
و"الريش" تعتمد، في البنية الهيكلية الأساسية، على سلسلة من عمليات التخييل السردي التي تتيح تحويل عدد من الشخصيات الفعلية الواقعية إلى شخصيات روائية من جانب أوّل، وتعتمد من جانب ثانٍ على زجّ هذه الشخصيات في سياقات واقعة مفصلية كبرى هي انتفاضة الكرد الأولى. الجانب الثالث، الذي يشكّل محور التنقّل الحرّ في الزمان والمكان، هو الراوي الذي يقيم في قبرص، ومنها يسرد ويستعيد ويعيد إنتاج وقائع الماضي (ولا ننسى، هنا أيضاً، أنّ بركات خرج من بيروت إلى قبرص، وأقام فيها طويلاً قبل أن يضطرّ إلى مغادرتها إلى السويد، حيث يقيم الآن).
ومنذ الصفحة الأولى يسعى بركات إلى تثبيت استراتيجيات التسجيل المتضاعف عن طريق "حيلة" عتيقة تُستخدم غالباً في الروايات ذات الطابع التاريخي (ولكنه يجددها على نحو بارع)، هي عرض لائحة الشخوص الصانعة للرواية: إلى جانب الراوي الشاب "مَمْ بن حمدي آزاد"، ثمة والده "حمدي آزاد" بائع القماش، و"الرجل الكبير" (الذي لا يظهر في الرواية!)، و"رجل ذو يدٍ كالجناح"، و"أحمد كليم" الصياد، و"دينو" توأم "مم"، وبنات حمدي آزاد (هيفين، لات، عيشانة، رحيمة، روهات، هيلين) و"كسبو" زوجته، و"شيرو بابان" صاحب الحصادات، و"جبّور مرقص" السرياني وجار العائلة، وسواهم.
هذا في مستوى الشخصيات الروائية، التي تتقاطع – دون أن تتلاقى بالضرورة – مع الشخصيات الفعلية الواقعية: "الملاّ سليم البدليسي" صاحب ثورة مغدورة، و"الشيخ محمد سعيد النقشبندي" قائد انتفاضة الكرد الأولى، و"حسين مقرياني" صاحب أوّل مطبعة كردية، و"أحمد خاني" الشاعر الكردي الكلاسيكي ومؤلف مأساة "مم وزين"، و"القاضي محمد" رئيس الجمهورية الكردية الأولى، و"اسماعيل سمكو" الآغا. وأمّا في مستوى المشهدية الجغرافية والعناصر الطبيعية، فإنّ لائحة بركات تتضمن التالي: كردستان، ثلاث شجيرات ورد، شجيرة فلفل ذابلة، طائران ذوا قنزعتين، قبر غير مكتمل، مهاباد (البلدة التي أُطلق اسمها على أوّل جمهورية كردية في العام 1946)، مذياع جديد، شجرتا كينا، أقمشة، أسرّة خشبية ضخمة، حصان أسود، حصادات آلية، بنات آوى، نهر، مستشفى، حقول، سماء، ريح، مصائر، مطر، وثرثرات...
هذه، بالطبع، ليست اللائحة الكاملة للشخوص والشخصيات والعناصر والمواقع، الفعلية الواقعية أو التخييلية المجازية، الصانعة للرواية. وليست اللائحة التي يقترحها بركات في مستهلّ الرواية سوى "تمرين" افتتاحي يقوم بتهيئة القارىء لعشرات الجولات القادمة التي يمتزج فيها العجائبي بالطبيعي، والتسجيلي بالإفتراضي، واللغة الإستعارية الرمزية باللغة الخطابية التقريرية. ففي الفصل الواحد ذاته نشهد حواراً فلسفياً ورمزياً وشاعرياً بين "حمدي آزاد" والنحل أو زوجته "كسبو" والحقل، ونشهد القاضي محمد يلقي خطبة سياسية، يقول عنها بركات ما يلي:

"كانت خطبة القاضي محمد، ببلاغتها الكردية، وسط حشد يعرف الروسية، والتركية الأذربيجانية، وفي حضور اللجنة المركزية لحزب كردستان الديمراطي، مشمولة برضا موسكو، لذلك شدّد الرجل على أواصر الأخوة الكردية – الأذربيجانية في تلك المنطقة، حيث النزاعات المختبئة تحت غطاء الوجود السوفييتي تكاد تطلّ برأسها. والواقع أن جمهورية أذربيجانية، ذات حكم ذاتي، كانت تنافس جمهورية "مهاباد" على الأرض، وتتداخل قرى الجانبين ومسالكهم بعضاً في بعض. أما الفارق الفكري فكان أساساً بين الجمهوريتين، ففي حين تسلّم الشيوعيون حكم أذربيجان إيران، بمساندة المهاجرين من أذربيجان السوفييتية، بطموحات اشتراكية كبرى، لم يكن أكراد جمهورية "مهاباد" غير قبليين دينيين، وقد ساءهم أن ينشر الأذربيجانيون الحمر – وهم بقايا حزب "تودة" الذي تحوّل إلى "حزب أذربيجان الديمقراطي" – المخبرين والشرطة السرية في كلّ مكان، ليضمنوا "عدم عرقلة الرجعيين للمدّ الجماهيري". وبالطبع لم تمض أيام على قيام الجمهورية الكردية، برغم تطمينات "القاضي محمد" أن الأمور على ما يرام، حتى خرج النزاع بين الشعبين إلى العلن... (ص 173).

- للبحث صلة


(*) ناقد من سورية يقيم في باريس


-----------------
(1) كنت قد عالجت هذه المسألة، وإن على نحو تطبيقي مختلف، في مقالة بعنوان "سليم بركات والحاجة إلى حصيلة قياس زمني وأسلوبي"، "القدس العربي"، 18/11/1998.