عرض مشاركة واحدة
قديم 02-23-2016, 03:15 PM
المشاركة 18
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
«سوريا» سليم بركات
يوسف بزي

على امتداد 147 صفحة بالتمام، تحتشد الصرخة العالية أو النشيد الهادر، العريض الصوت والعبارة والنبرة، لقصيدة سليم بركات «سوريا»، التي طبعتها دار «المدى» (2015)، وبالكاد كان الالتفات إليها قراءة وتداولاً حتى الآن.

منذ قراءتنا لـ»كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً» ومعها «هكذا أبعثر موسيسانا» و»للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة وأدوار الممالك»، كذلك «الجمهرات» و»بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح»، بالإضافة طبعاً إلى السيرتين الساحرتين «الجندب الحديدي» (سيرة الطفولة) و»هاته عالياً، هات النفير على آخره» (سيرة الصبا)، وكلها جزء من إنتاج شعري وروائي غزير، ونحن نقرّ لسليم بركات بمكانة بارزة في حركة تطور القصيدة العربية الحديثة، خصوصاً في طورها الثاني، أي بعد ما سميّ بـ»رواد الحداثة». وأسهمت كتابات بركات على نحو جلي في تطوير لغة النثر نفسها، رواية وشعراً، موسعاً من القاموس المتداول أكثر بكثير من معظم الشعراء الذين ادعوا ذلك، متجاوزاً بقوة فائقة الإرث المتداول للشعر الحديث. حتى أن محمود درويش يعترف: «بذلت جهداً كي لا أتأثر بسليم بركات»، فيما ذهب سعدي يوسف للقول:» إنه أعظم كردي ظهر بعد صلاح الدين الأيوبي».

ما من شاعر حديث (بالعربية) على هذا القدر من التمكن لغة واشتقاقاً ونحتاً وكسراً وبناء في العبارة ومعناها، وفي ابتداع خيال من اللفظ نفسه، من داخله، إذ يشحن كل كلمة بطاقة تخييلية، قادرة على رسم عوالم وعلاقات بين المعاني والصور، لم تنوجد قبل أن يجترحها هو.

منذ البداية كان نص بركات قائماً على الثأر. ثأر من النفس ومن التاريخ والجغرافيا واللغة والقهر السياسي والجهل الديني.. ثأر مشحون بالنقمة والغضب، سيحيل كل ما يكتبه إلى نصوص من حمم لاهبة، مضيئة بحرارتها واشتعالها وشظاياها الحارقة.

كل أرض الريف وحيواته وكائناته وأشيائه وبشره، كل كثافة المدن وهندساتها ومعالمها وسراديبها وحيواتها المحتشدة، كل الكتب والقواميس والحكايات والأساطير والموروث الشفهي والمدون، المنسي منه والمتداول، الغائر في الماضي والعائم الآن، كل الأصوات والصور التي تحوم في الأمكنة وتخترق النظر والنفس.. كل المشاهد والمشاعر والأفعال، الرفيعة والوضيعة، وكل الرواسب الخفية والآثار الظاهرة في الوجوه والأجساد والذاكرة، وما لا ننتبه له وما نهمله وما نعاينه عابراً أو ساكناً.. ما نذكره هنا أو سهونا عنه، هو مادة سليم بركات، إذ يمسك بها ويغزلها خيطاً مديداً نكاد نظنه لانهائياً. يقبض عليها ويبتلعها قبل أن «تنفجر» نشيداً ملحمياً عاصفاً ومدمراً، كثأر شامل من العالم واللغة، كبيان قيامة.

هنا، في قصيدة «سوريا»، يتدفق بركات سيلاً جارفاً من الغضب، يتجدد فيه هذا التوق لقول الفجيعة، لابتلاع المأساة والتماهي مع عذابات الضحايا، للثأر لهم ببلاغة الصرخة ومداها الشاسع. وسليم بركات يعود هنا بجرعة عاطفية عالية، يكتب بنسغ الألم، وبتفنن أقل مما كان عليه في كتبه الأخيرة. إنه الآن مباشرة في لجة الانفعال، متدفقاً بتلقائية، بحسبان أقل للشعرية وبانقياد أكثر إلى التصريح. لذا، ستكون «سوريا» واحدة من أشد قصائده تأثيراً، بوصفها «إنجازاً» في زمن الثورة السورية وعنها ونكبتها. هي المرشحة لتكون النص الشعري المرجع، في «قول» سوريا ما بعد العام 2011.

تنتصب القصيدة كلها على كلمة مفتاحية «أيها البلد». ومن هذه المخاطبة التي تمتزج فيها نبرتا الحب والمرارة، ينطلق هذا النشيد المرثية، كتدوين للمحرقة، كشهادة أخيرة على النهاية. لكنها أيضاً هي عودة مظفرة إلى القصيدة السياسية، التي كان هجرانها مبرراً في العقود الأخيرة، بعد وقوعها في التبشير والدعاية واليقين «الملتزم»، وها هي اليوم أشبه بالواجب الأخلاقي على الشعراء، بل هي التي تمنح مشروعية الكتابة ومعناها، في لحظة «خيانات المثقفين» الموصوفة، وانكشافهم كرديف خبيث لأيديولوجيا الإستبداد وخطابه.

تبدو قراءة «سوريا» مدوخة، ركضاً لاهثاً في أرض وعرة، افتتاناً لا يتوقف، هو عينه افتتان بركات ببراعته وبقدرته على الخطف والاستحواذ: «... خُذها الحرب الناعسة طولاً. خذ يد الشجاع المنكوب بظلم سلاحه، أيها البلد. خذ الشّيع الهمج، وانتصارات المحنة زلّات على ألسنة السبي فصيحاً. خذها مني: انحلال السماء. لا آلهة إلا آلهة الصرخة. لا سوى الغريب الجسارة في النحر، لا سوى الغريب وكيلاً في نقل المدن حطاماً إلى الآلهة الحطام. المآذن الدخيلة. القلوب الدخيلة. المستعمرات المراقد جوفاً، والفتاوى المستعمرات. السماء الدخيلة، أيها البلد. الذهب المنحور. الغيوم المنحورة، أيها البلد. محاكاة الطرق للمذابح، محاكاة القتلى للقتلى، والموتى للموت، والبساتين المهجورة للبساتين المهجورة. محاكاة الدوي المذهل للشكران يرفعه العدم مضطرباً في التوضيح، أيها البلد...».

في «سوريا» سليم بركات، الشعر يسترد لسانه.