عرض مشاركة واحدة
قديم 03-20-2012, 10:03 AM
المشاركة 314
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
تابع،،،حوار مع سهيل ادريس

- على ذِكْر الشعر، نلاحظ أنّ ألوانًا جديدة من الشعر الحديث ظهرتْ في الساحة الثقافية، سواء في الشكل أو المضمون. وأحيانًا يُدْخلنا هذا النوعُ في عالمٍ ضبابيّ من المتاهات. ولقد حَضَرْنا معًا أمسيةً شعريةً استمعنا فيها إلى الشاعر المغربي محمد بنّيس، وأنا شخصيّاً لم أفهمْ شيئًا ممّا كان يقوله من الشعر. فما هو رأيكَ في هذه القضية؟
+ صحيحٌ ما ذكرتَ من أنّه كان من الصعب أن يُفهم ما قاله الشاعر محمد بنّيس في تلك الأمسية الشعرية. وهذا في رأيي يعود إلى شيء أساس. محمد بنّيس شاعرٌ من دون ريب. وما قرأه هو من شعر التفعيلة، أيْ ليس ممّا يسمّى اليومَ "قصيدةَ النثر." ونحن من الذين يؤيّدون ويباركون شعرَ التفعيلة، وقد فَسَحْنا لها المجالَ منذ الأعداد الأولى من مجلّة الآداب، وأعتقد أنّها التطوّر الطبيعي للشعر العربي بعد العهد الأندلسي. ولكنّ مشكلة هذا الشعر الجديد أنّه ليس كالشعر العمودي، للاستماع؛ وإنّما هو للقراءة. الشعر العمودي تَسْمعه، فيأخذكَ بعموديّته ووزنه وإيقاعه وقوافيه، فتتحمّس له، وتدركه بأسهلَ ممّا تدرك الشعرَ العربيَّ الحديث أو شعرَ التفعيلة. هذا من ناحية الشكل. ولكنْ من ناحية الاستماع والإقبال عليه باعتباره جديدًا في الفكر أيضًا، فإنّه لا بدّ من أن يُقرأ أكثرَ من مرّةٍ ليُفْهم.
- هل لأنّه مغرِقٌ في الرمزية؟
+ الرمز صفة لا تنحصر فقط في شعر التفعيلة، بل يمكن أن تقال عن كلّ أنواع الشعر. على أنّني أؤيّد تمامًا القولَ بأنّ كثيرًا من الذين يدّعون أنّهم شعراء أصبحوا يستسهلون الشعرَ، ويَكْتبون أيَّ كلامٍ ويقولون إنّه شعر. وأكثرُ ما يتجنّون به على الشعر هو أنّهم يَفْتكون فيه بالموسيقى، ويَفْتكون فيه بالإيقاع. أنا لا أفهم أبدًا أن يُنتزعَ من مقوّمات الشعر العربي هذا المقوِّمُ الأساسي، مقوّمُ الموسيقى، أيّاً كانت الحُجّة. وربما يحدّثكَ بعضُ هؤلاء عن أنّ لقصيدة النثر موسيقاها الخاصّةَ، أيْ ما يَدْعونه "الموسيقى الداخليّة" أو "الإيقاعَ الداخلي." وأعتقد أنّ هذه فكاهةٌ أكثر ممّا هي حقيقة. على أنّنا لا ننفي أنّه قد يكون في بعض هذا الإنتاج الحديث ممّا يُطْلق عليه "قصيدةُ نثر" شيءٌ من القيمة الجمالية. ولكنّ اعتراضنا هو على تسميته "شعرًا." فنحن نفضّل أن يبقى تحت تسميةٍ عامّة، مثل "نصوص فنية جميلة" لأنّ النصّ يمكن أن يكون جميلاً جدّاً من دون أن يكون شعرًا؛ وربما تكون فيه شاعريّة، ولكنْ ليس من الضروري أن يكون شعرًا. ذلك أنّ هناك فرقًا بين الشعرية والشعر: فاليوم توجد رواياتٌ كثيرةٌ حديثة تتميّز بالشعرية، فهل يمكن أن نقول إنّ هذه الرواية شعر؟ ينبغي أن تبقى هذه الحدودُ أو الشروطُ قائمةً لكي لا يصبح هناك خلطٌ في المفاهيم وفي التعريفات.
نحن في مجلّة الآداب نَنْشر بعضَ هذه النصوص ونرحّب بها، ولكنّنا نرفض أن نسمّيها "شعرًا،" لأنّ الشعرَ شعر، والنثرَ نثر، ولا يمكن للشعر أن يكون نثرًا، ولا للنثر أن يكون شعرًا!
- إذن، يا دكتور سهيل إدريس، ما هو تعريفُكَ للشعر؟
+ أنا لا أجد أيَّ مانعٍ في أن أتبنّى التعريفَ القديمَ للشعر مع شيء من الفويْرقات، إذا صحّ التعبير. الشعر هو الإنتاج الموزون، أي الذي فيه وزنٌ يوفِّر لنا إيقاعًا وموسيقى. ولكنّني لستُ من الذين يتشبّثون بـ "المقفّى" في قولهم "الشعر الموزون المقفّى"؛ ذلك لأنّ القوافي الآن تتنوّع، وربما تكون في قصيدة واحدة عدّةُ قوافٍ، وهذا من تطوير الشعر الذي لا يضرّ في كينونته ولا في تطوّره. فالحال أنّ القافية ليست دائمًا، في الحقيقة، عنصرًا إيجابيّاً في القصيدة العمودية، كأنْ تُنْشد قصيدةً من أربعين بيتًا تكون قافيتُها موحّدة. إنّ هذا في الحقيقة يولِّد المللَ والضجرَ، وربما يكون فيه نوعٌ من "الطُبوليّة" إذا صحّ التعبير، أي "الطُبوليّة" الجوفاء التي تأخذنا برتابتها.
- لقد شاركتم في معارض كثيرة للكِتاب في العالم العربي، وأسهمتم إسهامًا مشرِّفًا وبارزًا في مجال التعريف بالكِتاب بكلّ أنواعه. فهل تعتقد أنّ الشعر مازال رائجًا كما كان في الزمان القديم باعتباره "ديوانَ العرب،" أمْ أنّه تزحزح عن موقعه لتصبح "الروايةُ هي ديوان العرب" كما يقول البعض؟
ـ يجب أن نعترف بأنّ الشعر على صعيد الإقبال هو الآن إلى انحسار. وأعني أنّ الشعراء الذين يبقون في نطاق التجاوب مع الجمهور العربي أصبحوا قليلين. ولمّا كانت دُورُ النشر تعاني معاناةً شديدةً من نشر الشعر، فإنّني لا أجد أكثرَ من دارٍ أو داريْن تهتمّان بنشر الشعر، وعلى نطاق ضيّق أيضّا.
نحن مثلاً نُصْدر كلَّ عام في دار الآداب ثلاثةَ دواوين من الشعر أو أربعة، للشعراء المحْدثين الشباب، لا يزيد إصدارُ الواحد منها عن ألفيْ نسخة، وتبقى مع ذلك خمسَ سنوات أو سبعًا قبل أن تَنْفد كلّيّاً. وهذا يدلّ على أزمة القراءة الشعرية على أقلّ تقدير. ولا يُستثنى من ذلك تقريبًا إلاّ شاعرٌ أو شاعران أو ثلاثة من الذين لم يخفَّ الإقبالُ عليهم، بل لعلّه يزداد؛ وعلى رأس هؤلاء: الشاعر العربي المعروف نزار قبّاني، ويليه أدونيس ومحمود درويش. على أنّ الفارق بين قبّاني والآخرين فارق كبير من حيث النشر والتوزيع.
الذي نعرفه أيضًا أنّ الشعر في العالم كلِّه يعاني هذه الأزمةَ. ربما كانت نتيجة هذه القضية أو سببها ما يُعلن اليومَ من أنّ الرواية حلّت محلَّ الشعر. وإذا كنّا في السابق نقول إنّ "الشعر ديوان العرب" فإنّ بعض النقّاد اليوم، وبعضَ الروائيين، ومنهم حنّا مينة نفسُه، يقولون إنّ "الرواية ديوان العرب" على أساس أنّ الرواية تستطيع أن تستوعب من الشاعرية ما يُغْني عن قول الشعر. بل إنّ بعضَ كبار الشعراء في العالم تحوّلوا من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، كما كان سارتر تحوَّلَ مثلاً من كتابة الفلسفة إلى كتابة الرواية لأنّه استطاع أن يُضمِّنَ روايتَه كلَّ فلسفته.
فهل هذه الأزمة تعني أنّ الشعر قد مات؟ لا أعتقد ذلك. لن يموت الشعرُ مادام في الحياة حبٌّ وعواطفُ إنسانية وإشراقُ شمسٍ وإضاءةُ قمر. وجميعُ هذه الأشياء التي كنّا نسمّيها "رومانسية" تعود الآن لأنّ "الواقعية" تتخبّط في دماءٍ كثيرةٍ، لن يُنقذَها منها إلاّ العودةُ إلى الينابيع. والشعرُ هو من "الينابيع."
- د. سهيل هل تستطيب ترديدَ أغنيةٍ ما؟ وهل هذه الأغنية ترتبط بقصّة حبّ؟ وهل ضمّتْ إحدى قصصكَ أو رواياتك قصّةَ حبٍّ ما؟
ـ بالنسبة إلى الغناء، أنا أتمتّع في أوقاتي الخاصّة ببعض أغاني محمد عبد الوهّاب القديمة وأمّ كلثوم ورياض السنباطي... وطبعًا فيروز. وربما كان لي صوتٌ ظَنَّ والدي أنّه جديرٌ بأن يوظّفه في إقامة الأذان؛ فأنا أنتمي إلى عائلة دينية، وظَنُّ والدي يكفي لكي يُدْرجني في المشيخة أو في الزيّ الديني ـ وهو ما تحدّثتُ عنه في روايتي الخندق الغميق. ولكنّي أعترف هنا، ولا بأس من ذلك مادمنا دخلْنا بعضَ المناطق الحميمة من الحياة، بأنّني وَظّفتُ أيضًا هذا الصوتَ في استمالة فتاةٍ أحببتُها، وكان لديها نوعٌ من التحفّظ تجاهي. فحين غنّيتُ لها لاحظتُ تغيُّرًا في موقفها، واستسلمتْ لهذا الحبّ الذي كنتُ أظنّ أنّها تبادلني إيّاه. وأظنّ أنّ هذه الأغنية كانت "الجندول" لمحمد عبد الوهّاب.
ومادمنا أيضًا في موضوع الحبّ، فقد سبق لي أن رويتُ قصّةً حدثتْ لي، وهي متعلّقة برواية الحيّ اللاتيني. فهذه الرواية حين صدرتْ، كما تعرف، أثارت ضجّةً في الوسط الأدبي ومناقشاتٍ مطوّلةً، وبثّتْ في نفسي نوعًا من الغرور، حتى اعتقدتُ أنّني قُذفتُ إلى الخلود بسببها! وذاتَ يوم كنتُ في إحدى الجلسات الأدبية فتعرّفتُ بفتاةٍ قالت إنّها قرأت الحيّ اللاتيني، فسألتُها بنوع من الكبرياء: "وهل أعجبتكِ الرواية؟" قَلَبَتْ شفتيْها قائلةً: "لا... لم تعجبني!" استغربتُ هذا الموقف طبعًا، واستخففتُ بهذه الفتاة التي لا تريد أن تعترف بالشهادات التي كَتَبها النقّادُ والكتّاب، وأرادت أن تعارض "الرأيَ العامَّ الأدبي" إذا صحّ التعبير. فقلتُ لها: "أخشى أنّك لم تقرئي الروايةَ قراءةً متمعّنة، ومعمّقة، فأنصحُكِ بأن تعيدي قراءتها." قالت: "أنتَ أستاذ، وسآخذ بنصيحتك."
وبعد فترة التقيتُ بها ثانيةً، فقالت لي: "قرأتُ الكتابَ مرّةً ثانية." قلتُ لها: "أرجو أن تكوني قد غيّرتِ رأيكِ." قالت: "نعم... غيّرتُه... ولكنْ إلى أسوأ. فهذه المرّة درستُ الروايةَ دراسةً ناقدة، فوجدتُ أنّكَ تشوِّه فيها الفتاةَ الشرقيّة وتمتدح الفتاةَ الغربية." وأخذتْ تتكلّم ويرتفع صوتُها، فتجمّع حولنا بعضُ الحاضرين يتساءلون مَنْ هذه الفتاةُ الوقحة التي تتصدّى للدكتور سهيل إدريس صاحبِ الحيّ اللاتيني. وبقيتْ تتكلّم بهذا الحماس، الأمرُ الذي جعلني أتساءل: كيف السبيلُ إلى إسكات هذه الفتاة أمام كلّ هؤلاء الناس؟ فأجبتُ نفسي: إنّ أفضلَ طريقةٍ لإسكات هذه الفتاة هي أن أتزوّجها.
وهذا هو الذي حصل، وتزوّجتُ عائدة مطرجي. ولكنّها لم تسكتْ، بل أنا الذي سكتُّ فيما بعد!
- الكاتبُ الناقدُ جورج أَزْوَط في كتابه سهيل إدريس في قصصه ومواقفه يتّهمك بالطائفية في قصصك، وخاصّةً "رحماك يا دمشق" المستوحاة من أحداث انفصال سوريا عن مصر ضدّ الوحدة؛ وكذلك في الحيّ اللاتيني، لأنّك صوّرتَ الفئةَ المسيحيةَ (كنصري وجورج وأنطوان) بعيدةً عن العمل القومي الثوري، بينما صوّرتَ الآخرين (كربيع وعدنان وأحمد) يبحثون في قضايا التحرّر والثورة العربية. فما هو ردّكَ على هذه التهمة، ولو أنّني لا أعتقد كذلك؟
+ إنّ ما ذكرتَه نصٌّ في كتاب أزوط الذي نشرتُه أنا شخصيّاً، وأردتُ أن أبقيَه على ما هو عليه. ولكنّي ناقشتُ المؤلِّفَ ـ رحمه الله ـ في هذا، وأنكرتُ أن تكون التسمياتُ التي أطلقتُها على بعض هؤلاء الأبطال ذاتَ مغزًى سياسي أو طائفي. فأنا أعرف أنّ كثيرين من الذين تحدّثتُ عنهم في رواياتي، وعلى سبيل المثال "فؤاد" في رواية الحيّ اللاتيني، كانوا مسيحيين ولكنّهم كانوا من معتنقي الفكر القومي إلى أبعد الحدود. وقد كان لفؤاد تأثير في بطل الرواية نفسه. إذن أعتقد أنّ في هذه التهمة شيئًا من التجنّي. وأنا لم أُعرفْ في سلوكي العامّ بأنّني طائفي، بل إنّ قوميّتي تَحُول دون أن أكون طائفيّاً.
- د. سهيل، قد يبدأ الإنسانُ في حياته شاعرًا، وخاصّةً إذا عاش قصّةَ حبّ. فهل بدأتَ شاعرًا قبل أن تكون قصّاصًا وروائيّاً؟ وهل حاولتَ الشعرَ؟
ـ نعم... حاولتُ الشعر فيما كنتُ أكتبُ القصّةَ والنقد. وربما كان هناك شيءٌ طريفٌ في هذا المجال، وهو أنّه كان لي صديقٌ سوري اسمُه عبد الغني العطري يُصْدر مجلّةً أسبوعيةً في دمشق كان اسمُها الصباح على ما أذكر. وكنتُ أوافيه ببعض إنتاجي، فيهتمّ بهذا الإنتاج وينشره في مكان ممتاز من المجلّة. إلى أن أخذني الغرورُ نفسُه يومًا ما، فحاولتُ كتابةَ قصيدةٍ أرسلتُها إليه، فكان احتفالُه بها أكبرَ من احتفاله بسائر إنتاجي، إذ نشرها في الصفحة الأولى مقدِّمًا لها بقوله: "وهذا وجهٌ جديدٌ يَطْلع به علينا سهيل إدريس الكاتبُ القصّاص." وأعتقد أنّه في ذلك كان يَحُوك لي مؤامرةً، بدليل أنّه في العدد التالي، وما بعده، نَشَرَ مقالاتٍ وتعليقاتٍ وردودًا على قصيدتي هذه، وكلُّها تسفِّهُها وتنتقدها انتقادًا مرّاً، الأمرُ الذي جعلني بعد ذلك أتوب عن قول الشعر وأنصرفُ إلى الإنتاج الإبداعي الآخر الذي هو القصّة والرواية!
أمّا مطلعُ القصيدة فأقول فيه: "حيران هائم يا دهر، ما لَكَ تَظْلمُ/قلبي الحزينَ وتَكْلمُ/يا دهرُ إنّي أَعْلمُ..." إذنْ، بعد ذلك، مررتُ بفترة من النقد الذاتي، فسكتُّ عن قول الشعر. وهذا ما قد يعزّ على كثيرٍ من الذين ينبغي عليهم أن يَصْمتوا عن قول الشعر أيضًا!
- بالنسبة إلى النقد، هل تعتقد أنّ النقد العربي بلغ المستوى المطلوب؟
+ ربما كان من الواضح أنّ النقد العربي قد انحسر في العقدين الماضييْن، بمعنى أنّنا كَفَفْنا عن أن نجد ما كنّا نجده في نقّادنا القدامى من الجهد وروح المعاناة و"الاستصعاب" (إذا صحّ التعبير)، مقابل كلمة "الاستسهال" التي هي الميزةُ الأساسيةُ في كثيرٍ ممّا يُنشر اليومَ من نقد. إنّه نقد خفيف... سهل.. لا يَعتمد الأسسَ العلميةَ والموضوعيةَ، بل يستهين بالكِتاب المنقود. وأَذْكر أن بعض النقّاد المعروفين سابقًا قد كفّوا اليومَ عن أن يَكْتبوا كما كانوا يكتبون، وربما كان ذلك بفضل بعض المجلاّت التي ترفض نشرَ دراساتٍ معمّقةٍ ومطوّلةٍ وتدّعي أنّ صفحاتها لا تتّسع لذلك.
إذن، هذا النقد هو الآن في أزمة، ولا بدّ من أن نستعيدَ له الوعيَ والعمقَ اللذين كنّا نحسّهما في كتابات النقّاد الأوائل، أمثال أنور المعدّاوي وعبد القادر القطّ وغالي شكري وصبري حافظ. لا بدّ من أن نسترجع مثل هذه الأصوات، وأن يعي النقّادُ المحْدثون دورَهم في تطوير الإبداع الأدبي الحديث.

- من حين لآخر تهوي بعضُ النجوم من سماء الفكر. هل تعلِّق أملاً على الجيل الجديد في أن يَحْمل الرسالةَ وأن يعوّض مَنْ يختفي عن الساحة من العمالقة؟
+ الحقيقة أنّ هناك اليوم أساليبَ في إغراء الكتّاب لكي يستسهلوا الكتابة، وهذا مرتبطٌ بالسؤال السابق.
إنّ الكاتب العملاق هو الذي يَبْذل أكثرَ ما يستطيع من جهد ليتجاوز نفسَه، ويتجاوزَ طاقاته، فيبرز إذّاك كائنًا يعي مسؤوليةً كبيرةً في الكتابة. هكذا كان عمالقةُ الأدب العربي الحديث، أمثال طه حسين وعبّاس محمود العقّاد وميخائيل نعيمة وسواهم. وكثيرٌ منهم لم يكونوا يسألون على الإطلاق تعويضًا مادّيّاً عن هذه الأعمال العظيمة التي كانوا يقومون بها. ولم يكونوا يتّخذون الأدبَ وسيلةً واحدةً للرزق، بل كانوا يستجيبون لدوافعَ نفسيةٍ: فلقد كانوا ملتزمين بالكتابة من غير أن يُلْزِمهم أحدٌ إلاّ ضميرُهم ووعيُهم.
نحن اليومَ في عهدٍ تُشترى فيه الأقلامُ والضمائرُ والذِّمم، ولذلك نجد هبوطًا وانحدارًا في المعايير وفي الإنتاج. أخشى على الأقلام العربية كلِّها أن تَغْرق (ولأقلْها بصراحة) في هذا المنحدر البترودولاري الذي ربما كانت له خطّةٌ في أن يُسْكت الأصواتَ أو يصرفَها عن الأمور الجادّة، وعن الأدب الرفيع، ليتاحَ للسلطات أن تَفْرض سياستَها على الشارع وعلى الجماهير من غير أن تكون هناك أصواتٌ معارضةٌ لها.
هناك مؤامرةُ تحاك ضدّ الفكر العربي، وليس بعيدًا أن يكون مشاركًا فيها جماعةُ "النظام العالمي الجديد" الذي يراد فرضُه على ضمائرنا بسبب هزيمةٍ تعرّضْنا لها. وينبغي أن يتنبّه لهذا، بالدرجة الأولى، المثقّفون الواعون والمسؤولون.
- كلام كثير يردّدونه عن الحداثة وعن مواكبة العصر. فما هو رأيكَ في ما يردّدون؟
+ في الحقيقة نحن نفضّل دائمًا أن يُنتج المبدعُ شيئًا حديثًا لا أن يتحدّث عن الحداثة. أعطونا إنتاجًا نَحْكم عليه فيما بعد، بدل أن نطالِبَ ليلاً نهارًا بأن نكون حداثويين وما بعد حداثويين وما إلى ذلك من الاصطلاحات المقتبسة من غيرِ أجوائنا ومن غيرِ أرضنا. وإنّما نحن نطالب بالعمل، لا بالكلام والتعريف.
- يتحدّثون كثيرًا هذه الأيّام عن الهويّة، وكأنّ الأمّة العربية لم تَكتشفْ بعدُ هويّتَها، أو كأنّها مازالت تتحسّس الطريق. ولعلّها قضية مختلقة لمجرّد التلهية وتشغيل عقولنا بقضايا أعتقدُ أنّ التاريخ قد بَتَّ فيها منذ زمن.
+ أعتقد أنّ من قوانين التاريخ أن يحاول الإنسانُ، إذا ما تعرّض لنكسات في حياته أو لتدمير بعض طاقاته، أن يعودَ إلى الصفر، وأن يحاول أن يبحث عن السبب الذي من أجله وَصَلَ إلى ما وصل إليه. وأنا أُدرج هذا التيّارَ الجديدَ، في التكلّم على الهويّة، في هذا النطاق. فنحن نبحث الآن فعلاً، ولم نُفِقْ بعدُ من الضربات المتتالية التي تَعرّضْنا لها في سنواتنا الأخيرة. إنّنا نبحث عن ذاتنا مرّةً أخرى لنُجوهِرَها، ونخرجَ بها إلى حيّزٍ تستطيع أن تكون فيه فاعلةً من أجل التطوّر والتغيّر وتجاوُزِ الواقع المؤلم. فلا ضير في أن نقوم بمثل هذا البحث بين فترة وأخرى، لأنّه يعرِّفنا بذاتنا أكثر. وربما كان في ذلك دفعٌ لنا لتدارُكِ ما فاتنا، ولمحاولة الخروج من المآزق التي يأخذ بعضُها برقاب بعضٍ وتضعنا في حالةٍ من الإحباطِ نبحث فيها عن ثغرةٍ من الأمل.
- ما مدى مسؤوليّة المثقّف العربي عمّا يجري في الساحة العربية من معاناةٍ ومآس؟
+ لا شكّ في أنّ للمثقّف العربي مسؤوليةً ما في ما نعانيه اليوم، ولكنّنا لا نستطيع أن نتّهمه بأنّه هو وحده المسؤول. يكون وحدَه مسؤولاً فعلاً إذا كان متاحًا له أن يتكلّم بحرّية، ولكنّ المثقف العربي الآن لا يتكلّم بحريّة؛ بل قد يساعد أحيانًا في أن تُفرض عليه القيودُ، بدل أن يعملَ على تحرير نفسه منها. فهو في كثير من الأحيان يَخْضع وينساق مع السلطة. وأنا أودّ هنا أن أتّهم كثيرًا من أصحاب الأقلام بأنّهم يهادنون السلطة بغير ما دافعٍ للمهادنة، إيثارًا للعافية، أو تخلّيًا عمّا قد يجدون فيه من جهد من أجل الإنتاج والإبداع الحقيقي. أقصد أنّ هناك جهات تريد أن تشتري الأقلامَ، ولكنّ هذه الأقلامَ مستعدّةٌ في كثير من الأحيان لبيع نفسها. هنا مسؤولية المثقّف في تغييبه الوعيَ الذي يجب أن يتزوّد به من أجل أن يلتزم بعمله وبحقيقته. ونحن من الذين يعتقدون أنّ الأديب مُعارِضٌ أبديٌّ للسلطة، وينبغي أن يتحمّل هذه المسؤولية، ومن دونها لن يكون هناك تقدّمٌ ولا تطوّرٌ للمجتمع.

- مثلُكَ الأعلى في الحياة؟
+ ليس هناك مثلٌ أعلى واحد، بل مُثُلٌ كثيرة. ولكنّني، ككاتب، أرى أنّ الـمَثَلَ الأعلى للكاتب هو أن يَجمعَ الإبداعَ إلى صدقِ الحياة والسلوك. ذلك لأنّني أعتقد أنّ المبدع، إذا كان خاليًا من الأخلاق، فإنّ إبداعه نفسَه موضعُ شكّ.
- لو لم تكن قصّاصًا وأديبًا.. فماذا تريد أن تكون؟
+ ... قصّاصًا وأديبًا.
- في نهاية هذا اللقاء نستغلّ هذه الفرصة، يا دكتور سهيل، لتقدّم نصيحةً أدبيةً إلى الأدباء الناشئين. فبماذا تنصح؟
+ لا أحبّ النصائحَ كثيرًا، وإنّما أَذْكر أنّني جاهدتُ طويلاً لكي يُنْشر لي في الصحف والمجلات التي فَتَحَتْ لي صفحاتها فيما بعد. ينبغي أن لا يشعر الأدباء الناشئون بأيّ إحباط، وأن لا يمتنعوا عن الاستمرار في الإنتاج إذا صادفتْهم بعضُ العقبات الأولى. فالاستمرار والمثابرة هما طريقُ النجاح في الحياة..
تونس
المقالة منشورة في مجلة الآداب, 7-9 / 2008