عرض مشاركة واحدة
قديم 05-12-2012, 11:29 AM
المشاركة 558
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
قــــراءة نقـــــدية فـــــيروايــــــة «القبر المجهول أو الأصول»



د. عبد الله أبو
هيف


تندرج رواية أحمد ولد عبد القادر «القبر المجهول أو الأصول
» في رواية التأرخة التي تسند التخييل السردي إلى أصالة التاريخ في موريتانياوجغرافيتها الصحراوية والمدينية معاً وتمازجات هذه الأصالة التاريخية مع عناصرالتمثيل الثقافي، إذ تأخذ العادات والتقاليد والطقوس والأعراف في مدلولات الأضرحةوالعقائد والأصول الناظمة للسلطان الديني والاجتماعي الذي يفضي إلى هيمنة السلطانالسياسي وطغيانه اعتماداً على السلاح المادي من جهة، والفتن والمخادعة والتضليل منجهة أخرى.
وتقوم الرواية على تشابكات الخطاب الروائي من طبيعة المعتقد الديني
إلى مشكلات الصراع السياسي ولبوسها بلبوسهما الاجتماعي، ويظهر غطاؤهما التاريخيتعبيراً عن أشكال الصراع العسكري والسياسي في موريتانيا بخاصة وفي الوطن العربيبعامة، فقد عانى العرب خلال القرن العشرين من الانقلابات والطغيان والقمع وهدرالإمكانية العربية من أجل التحكم بالسلطان السياسي واستغلال الثروات والسيادةوالحرية.. إلخ. ولو تأملنا في التطورات السياسية الموريتانية منذ نصف قرن حتىاليوم، لوجدنا الصراعات العاصفة والمدمرة بين سلطة وأخرى، مثلما يطرح السلطانالسياسي العربي في موريتانيا وسواها العزف على المأثور الديني والعقائدي والثقافيوتعليلها ضمن سيرورة تاريخية، وهذا جلي في هذه الرواية المبنية على مدلول الضريحالمقدس أو المبارك (المجهول) في الصحراء ومدلولات الصراع القبلي بين مالكي المالوالثروة من خلال السلاح والسلطة، ومالكي الجاه والعلم والنفوذ الثقافي الروحي، وبينالمضطهدين الذين يندفعون إلى أي سبيل متاح لهم في المواجهة، ولو كانت الحيل والفتنوالمخادعة والتضليل.. الخ.
مهّد الروائي لضبط المنظور السردي بالإيماء إلى دلالة
القبر المجهول ومعنى الأصول في الفصل الأول عن «الضريح» (والفصول كلها مرقمة)،إثارة للتساؤلات العميقة حول قيمته عند المسلمين، فهل هو قبر لأحد الأولياءوالصالحين المعروفين أم لأحد عمالقة العصور الماضية البعيدة والقرون الغابرة، أم «لأحد المسلمين من الجان شُهر على هذا النحو ليزوره أصدقاؤه من الإنس تبركاً منهووفاء للعهد؟!» (ص5)، ولُفت النظر إلى امرأة مختبئة (هي أو الولد صاحب الضريح الذيمات ودفن رضيعاً) بين شجيرات طلح ملتفة حول بعضها البعض، بينما تكاثر عدد مرتاديهالذين يحضرون أخشاباً لحمايته، ويتبركون منه.
ثم كشف السرد في الفصول اللاحقة
واكتمال دائرته في الفصل الأخير (26) أن القبر لوليد ميمونة التي أحبها ابن عمهاسلامي ولد الهادي، كما أشرنا إلى ذلك، وتزوجها دون معرفة أمها، و غادر البلاد لطلبالعلم، ووعد بالعودة بعد شهرين، غير أن غيابه طال ثماني سنوات، في الحج والإقامة فيمصر دارساً ومدرساً في الأزهر.
ثم هربت ميمونة من منزل أمها مطرودة من زوج الأم،
لتدفن وليدها الذي مات في الصحراء عطشاً، ووضعت على قبره أخشاباً وقاية من الرمال،وأقامت في منطقة أخرى، وتزوجت هناك لفقدان الأمل بعودة زوجها سلامي.
وأبان الفصل
الأخير حقيقة الضريح عند والديه فحسب، إذ صار مزاراً عند الجميع، فقد عاد سلامي،وصار شيخاً، وتزوج امرأة أخرى لدى إخباره عن وفاة ميمونة، فزار الضريح الذي كثرتحوله الحكايات، وتشعبت الروايات «حول استجابة الدعاء عنده، لما لصاحبه المجهول منجاه عظيم عند الله» (ص248).
واقترب الفقيه من موضع القبر، وصلى ركعتي الضحى
قبالة رأس الضريح، وفوجئ بوجود زوجته الحبيبة الفقيدة ميمونة بنت الهادي، ولميخامره أي شك في أنها هي بعينها، وشاءت الأقدار أن يلتقيا في هذا المكان عند قبرولديهما، وظهر جوهر الصراع بينهما، على أنه، برأيها «الخائن، الكاذب، المخادع» (ص251)، و«الخسيس المتحايل النصاب!» (ص252)، وجاهرته أن دعاءه لن يستجاب، «لأن اللهعاقبك بالداء على جريمتك النكراء» (ص252)، واتهمته بالجهل والبلادة، وأنه مغفل،و«أن المدفون هنا هو ولدك، فضحتني وكنت وحدك المسؤول عن قتله يا مجرم» (ص253).
ورفضت أن تقصّ عليه حكايتها، ولن تستمع إلى «أساطيره» (ص254)، ونبذت
نداءه لعودتها، وهي لن تخون زوجها، ما دامت نمداوية وفية، وهددته بالمقدرة على صرعهوتعفيره، بل على ردمه هنا في التراب إلى جانب ولده المظلوم (ص256- 257).
وخطا
إلى الوراء بعد تهديدها، وربط في دعائه بين المدلول الأعم للقبر المجهول والمدلولالأخص لجوهر الصراع المتأصل في الذات: «سبحان خالق الأصول ومغيرها! سبحان من قسّمالأقدار والأقسام وحددها!» (ص257).
وأدغم المنظور الروائي بالتأرخة والتمثيل
الثقافي لإضاءة معنى الأصول في تصوير الصراع بين ثلاثة مناطق بدوية في الصحراءسماها الروائي أحياء، الأولى «من قبيلة أولاد اسويلم: حسانيون محاربون أشداء، كسبهممن المواشي قليل، إلا أنهم مسلحون بالبنادق، ولديهم بعض الخيول المسومة العربيةالعتيقة»، والثانية من قبيلة أولاد عبد الرحمن: «عشيرة زوايا من قبائل العلمالمتخصصة أصلاً في تدريسه، والعمل بمقتضاه، مجردة من السلاح، ولكن لديها مواشٍكثيرة»، والثالثة من قبيلة أولاد إحميدان: زناقة عزل تقريباً من السلاح والعلم،ولكن مواشيهم أكثر من حيوانات الحيين الآخرين مجتمعين، على أن في أموالهم حقاًلأولاد اسويلم أهل السلاح والسلطة، وآخر لأولاد عبد الرحمن بحكم النفوذ الثقافيوالروحي» (ص7).
وأوحى المنظور الروائي ضمن عملية ضبط أغراض السرد النابعة من
«الأصول» في المجتمع الموريتاني، إذ تتعدد القبائل والعشائر في براري الصحراءتمثيلاً للقوى المتصارعة باسم الدين أو السلاح أو المال في فئات حسان المتحكمةبالسلطة زمناً بالسلاح التقليدي وسواه والزوايا المتسلحة بالدين والثقافة، وأزناقةالمظلومة والمضطهدة من الفئات الأخرى، وصور الراوي المضمر العارف بالواقع وتحولاتهاتسيّد فئة على أخرى من ببكر ولد عثمان وجرفون وغزوهم لأولاد أعميرة وأولاد احميدان،إلى حرب شكرود وأبديهل انتصاراً للثاني على الأول، إلى انتفاضة ديلول وأولاداحميدان الذين صاروا الحكام الجدد لأولاد اسويلم وأولاد أعميرة الذين رضخوا مع فئةالزوايا أو فئة أزناقة، فقد ثبت «أنهم قتلوا كثيراً وكثيراً جداً من الرجال!» (ص225)، واعترفوا أنهم سحقوهم «سحقاً.. وفرّ بعضهم بدون أسلحة، واعترضهم كمين منرجالنا المسلحين بالسيوف والفؤوس ومزقوهم في لحظات..!» (ص229)، وزاد ديلول من تدريبقومه على الرماية وأعمال الفروسية بعد نجاح الانتفاضة، حرصاً على السيادة والمقدرةعلى تنفيذ الخدائع! (ص234).
واندغم سرد قصة القبر المجهول الناجم عن مكابدة
العيش الذي أفسد مصير ميمونة وولدها الرضيع الميت، بسرد قصة الأصول، عندما عادسلامي ليجد تبدلات الأحوال في انتقال السلطة ممن كانوا مظلومين ليصبحوا ظالمين، علىأن الحاكم ليس بإرادة الآخرين، بل بتسلله إلى السلطة كلما أمعن في التلاعبوالاحتيال والمخادعة والإرهاب والعنف دفاعاً عن نفسه وممارسة للجور والطغيان علىالآخر تبديلاً لموقع العدو من الداخل، ولقد مات الكثيرون، وأُنتهكت أعراضهموممتلكاتهم وحياتهم، لذلك تكررت تسمية الأعداء كثيراً من فئة إلى أخرى، وما يندرجفي منظومتها المأساوية، مثل أرض الأعداء والرصاص والقتال والمعارك والموت والحرب،حتى أن طرفاً من هذه الفئات شبّه هذه الحرب «بحرب البسوس التي توجد أخبارها فيالكتب، والتي دارت في الجاهلية بين تغلب الأراقم وأبناء عمهم بني بكر..!» (ص93).
ولطالما رددت الأطراف انتظارها للمعركة الحقيقية التي ما زالت أمامهم
«عندما نلتقي بذلك الشيطان المقطوع الأصابع ورجاله» (ص97).
ولا يكتفي المقاتلون
بمجرد النصر على الفئة أو الفئات الأخرى، بل يربطون معاركهم بموت هذه الفئة أوالفئات الأخرى، كوصف سلامي لديلول: «ولكن شكرود أطلق حال سقوطه على الأرض آخر رصاصةعنده، فاستقرت بين كتفي الأعور، وزحف إليه على بطنه ليقطع رأسه قبل أن يلتفت إلىكسر ساقه» (ص113).
ولعل مثل هذه المحاورة بين أفراد فئة مقاتلة كاشفة عن مدى
استغراق الفئات جميعها في ارتهان «النصر»، تجاوزاً بالقضاء على الفئاتالأخرى:
«-
أظن أن علينا الآن أن نعجل تعبئة الجيش لغزو الأعداء. ولو تمكنا من
القضاء على شخص شكرود، كما فعلنا بأبيه وأشقائه، فلن تبقى أمامنا عقبة في طريقالانتصار المحقق على أولاد اسويلم» (ص139).
ووصفت العلاقة بين الفئات «بالدائرة
الجهنمية» (ص152)، وكأن الفئة الواحدة تحارب عدداً بالفعل من خارج هذه الفئاتالواحدة:
«-
لأن الحرب سجال، والشرّ جرّ، البسوس دامت أكثر من مائة سنة. وعدم
الغزو ليس دليل ضعف. في بعض السنوات تتالت غزوات أولاد أسويلم، وبقي الآخرونمدافعين. إنهم يتبادلون الأدوار، يوماً لهذا ويوم لذاك.. هذا يغزو وذاك يدافع..» (ص155).
وأشار قتل شكرود غدراً من آخر، وهما يتقاتلان، إلى طبيعة الحياة الخانعة
للصراعات المخادعة والمضللة والظالمة، إذ رُمي بسهم مارق، و«لعلع الرصاص من بندقيةمعتوق ولد بلال في مكمنه، وأصاب شكروداً في خاصرته اليمنى، ونفذ من اليسرى، وسقطمجدلاً على قفاه بعيداً عن فرسه وإعفاج بطنه المرتمية على مسافة عشرة أمتار من نقطةمصرعه!» (ص202).
وقد اعتمد أحمد ولد عبد القادر في بناء الرواية على التقانات
التالية:
أ- التأرخة
:
وسمي التاريخ زمناً موريتانياً قديماً جداً «بالنظر إلى
مدى اختلاف ظروف حياة أهله عن عادات وظروف حياتنا نحن أبناء اليوم، والقريب جداًبالنظر إلى درجة ابتعاده في الماضي، وهو العقدان الرابع والخامس من القرن التاسععشر الميلادي» (ص7).
وربط التاريخ بجغرافية المكان وامتدادها العربي لدى وصف
البيئة والمناخ والطقس والأعراف في هذه المنطقة الصحراوية إلماحاً إلى الدلالاتالكامنة عن طبيعة الحياة المعذبة تحت وطأة الصراع الدائم للتسيد علىالحكم.
وأفاد المنظور الروائي إلى مجازية السرد نحو إفصاح الخطاب عن الغرض
المراد، مثل استنطاق التأرخة للسياسة الراهنة، حين سمّي أحد السادة «رئيساً سياسياًللعشيرة» (ص50).
وأكثر الروائي من إيراد أسماء الأماكن والمدن والقرى والمناطق
إلى جانبها مثل الرقيطة وتقانت وآراء وأجبتين وأفلة والركيز وأفان وتيرس والحلة.. الخ.
ب- العتبات السردية
:
عمد الروائي أحمد ولد عبد القادر إلى العناية
بالعتبات السردية مثل العنوان ودلالاته في التبئير لإظهار القصد الروائي. وثمة شروحعديدة لمفردات وتراكيب وأسماء لدى استخدامها في النص الروائي من أجل توضيحالمدلولات الخافية، وأورد أمثلة لذلك:
-
التوالة: نظام للضيافة، اتبعته بعض
قبائل الزوايا.. الخ (ص29).
-
حلق القرن: عادة عُرفت قديماً عند القبائل المسلحة
الحسانية.. الخ (ص34).
-
السلام عليك: لفظ التحية عند قدماء قبيلة النمادي
الصيادين (ص98).
-
التلاليس: في اللهجة الحسانية، خيمة الصوف التي تشققت مسوحها
لقدمها، أو قطعة منها بالية.. الخ (ص137).
-
القراقيز: واحدها أقرقز، وتنطق
شعبياً آقراقيز من أصل منهاجي، جلود الغزلان.. الخ (ص164).
ج- التناص
:
لجأ
الروائي إلى التناص تدعيماً لعناصر التمثيل الثقافي، ولا سيما النصوص الدينيةالإسلامية كالقرآن الكريم والأحاديث الشريفة والسيرة النبوية والدعاء والصلاة وصلاةالاستسقاء.. الخ. مثلما أدغم بعض الحقول الدلالية بالأمثال الشعبية، في عشراتالأماكن ص81، 85، 101، 140، 148، 179، 186، 188، 195، 210، 212، 214، 220.. الخ.
وأضاف إليها الشعر الشعبي للشاعر الشعبي الموريتاني القديم سيدي عبد الله
بن أحمد بن أحمد دام الحسني (ص246- 258)، اختتاماً لحال الصراع الدائر خاتمةللرواية:
ومن صحب الأيام أنأين جاره

وأدنت له من ليس بالمتداني

أوحت
الرواية من خلال التعالق النصي بين قصة القبر المجهول وقصة الأصول في هذه المنطقةالصحراوية وتواصلها مع المناطق المدينية في موريتانيا أن وصف الحروب الدامية بينالفئات العربية تؤدي إلى العذاب والقتل والدمار بتأثير استلام سلطة الحكم، إشارةإلى استمرار الانقلابات العسكرية في العديد من الأنظمة العربية التي لا تنتج إلاانعدام الحرية ودوام الاستبداد.
<
أحمد ولد عبد القادر: القبر المجهول أو
الأصول، رواية، الدار التونسية، تونس، 1984، وتشير الإحالات إلى الطبعة الثانية،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، مكتبة الأسرة العربية، سلسلة الكتابالعربي 8، تونس، 2003.