عرض مشاركة واحدة
قديم 06-26-2016, 02:35 AM
المشاركة 54
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المرض ، من الطبيعي أن لا يستطيع جسدك أن يتحمل كما لا تستطيع النفس أن تتحمل سياط الحياة ، رغم أن العام مرّ في جوّ آمن ، إلاّ أنّني أصبت في الصّيف بمرض الحمّى ، كان ذلك بعد جني اللوز و جني الأركان ، ذات يوم حارّ عند عودتي من الغابة ، لم أشعر متى ارتميت داخل الصّهريج ، أحسست بانتعاش هائل ، عدت إلى الغابة بحمارتي لأحمل عليها ما تم التقاطه من الحبّ ، فجأة أحسست فشلا في ركابي ، لم أصل إلى المنزل إلاّ وقد أصبحت منهارا بالكامل ، بقيت عشرة أيام في المنزل أنتظر الفرج الذي لن يأتي ، رغم أنّي مستيقظ إلا أنّني أرى ما يزعجني ، بين الحلم واليقظة كنّ يسبحن في مسبح فسيح ، دعونني لمشاركتهن العوم ، ارتميت ارتماءة المتلهف ، جفت مياه المسبح في لحظة وأنا في المنتصف ، تقصدني العقارب و الأفاعي و ووحوش ممسوخة، صحت صيحة مرعبة ، استعدت وعيي و في تلك اللحظة جاءني أنيق يشع الوقار من وجهه ، طمأنني ، لا تخف يابني ، ستتعافى . لكن في الغرفة تتهيا الأشياء أمامي ، أنظر نحو الشيء فإذا به يتحول بسرعة البرق إلى مخلوق غريب يملأني رعبا . أبي يتدخّل ، إلى تارودانت توجهنا ، هناك مستشفى كبير أجنحته متعدّدة ، وجدنا هناك واحدا من معارفنا ، تذكرون الليلة التي قضيتها في أكادير عندما كان الزّرق يقتلون الخضر ، و الخضر يقتلون الزّرق ، هذا سليل تلك الأسرة ، أصبح طبيبا و يعمل الآن في قسم المستعجلات ، نصح أبي بإبقائي في المستشفى لبضعة أيام ، قادني إلى جناح أمراض الجهاز الهضمي ، هناك أعطاني سريري ، أوصى الطبيب القيّم على الجناح بالعناية بي ، تقيس الممرضة حرارتي كلّ يوم ، كانت في الأربعين يوم دخولي ، لكنها تقلّصت بعض الشيء في اليوم التالي إلى التاسعة والثلاثين ، بعد يومين تقهقرت إلى الثامنة والثلاثين ، أصبحت متعافيا نسبيا ، لكنّني أحتاج إلى نقاهة ، فجسمي ليس متماسكا بما يكفي ، أبي يزورني يوما و يغيب يوما فالمستشفى يبتعد عن موطني بمئة وعشر كيلومترات جهة أكادير ، شيخ هرم كان قبالتي ، شابّ يشغل سريرا في الزاوية ، الشيخ يئن تحت وطأة المرض ، والشّاب تسكنه الهواجس ، بنت الشيخ تزوره كل يوم ظهرا و مساء ، الشابّ أيضا تزوره أمه كلّ يوم ، الطبيب يزورنا صباحا و قد يعود مساء ، كل يوم يراقب مبيان الحرارة ، يسألنا عن أحوالنا ، الشيخ يشتكي كلّ يوم من آلام رأسه التي لا تزول ، و من خرير مزعج في أذنيه ، الشّاب يتماثل للشفاء ببطء ، أنا يسألني الطبيب عن دراستي ، كل يوم يذكرنا بالصّلاة ، الله هو الشافي ، نحن نعمل على الأسباب فقط ، توبوا إلى الله ، لا يسمعه الشيخ الهرم ، بل لسانه يشتكي ، إنها الصّحوة تظهر في كلّ مكان .
بعد فترة كمون بدأت استكشاف الوسط ، أصاحب أعوان المستشفى ، أساعدهم في تقديم الطعام للمرضى ، أذهب إلى المطبخ ، أتجول في أغلب أجنحة المستشفى ، أتوجّه إلى الحديقة ، التقيت هناك شيخا آخر ، هو من تالوين ، رغم أنه مريض ، و دائما تلازمه الأنابيب ، إلا أن روحه مرحة ، يقتلني ضحكا بنكاته ، يسرد لي سيرته ، هناك أيضا شاب آخر في جناح مرضى السّكري ، طالب جامعي شعبة البيولوجيا ، أنا أطول منه ، لكنه مقبول جدّا ، يحدثني أنه كان في صحّة جيّدة ، الآن قهره السكّري ، وأضحى نحيفا بعض الشّيء ، تزوره فتيات جميلات ، أقضي معه الكثير من الوقت ، يحضرن له أنواعا مختلفة من الأطعمة ، أنا من يفترس أغلبها ، أصبحت أحبّ المكان ، كل يوم بقصّة ، هذا عضّه ثعبان و يده منتفخة ، والسّم يتغلغل في أحشائه ، طوال الليل في سمر مع تنهداته و زفراته الحارّة ، هذا فتى اشتد عليه النزيف ، تعلن حالة الطوارئ ليلا ، ممرضات، أطباء ، عربات ، آلات ، لم ينجح الإسعاف ، أخذه الموت من أمه الكريمة التي طافت على أجنحة المستشفى توزع أوراقا نقدية على المرضى. هذا المكان لا يبرحه الموت ، هنا بين جدرانه يسكن ، هنا الآهات تلبس أنواعا مختلفة من النبرات ، هنا القصّة تلد قصّة ، هنا عرفت أن الحياة وهم ، فالوجود مجرد رحلة لمعانقة الموت ، تخيل أن تسير إلى الموت بملء إرادتك ، مع الإصرار على أنك لا تحبه ، مع الإصرار على أنه لن يصل إليك ، مع الإصرار على أنك أكبرمنه .