عرض مشاركة واحدة
قديم 06-01-2012, 11:37 AM
المشاركة 777
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فركوح: المصادرة منطق الرقابة

حوار مع الروائي الأردني إلياس فركوح 4/2 شوكوماكو أجرى الحوار: محمد ديبو "أوليست هي
الحروب ما عَلَّمَ وحفرَ وفرزَ وخلَطَ وولّدَ وأدّى وكشفَ وخَبّأَ وطمَرَ وعَرّى عارَ مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسيّة راعية هزائمنا وداعمة خسارات أرواحنا وأحلامنا .. وأراضينا" يمتاز الروائي الأردني الياس فركوح عن غيره من الروائيين العرب بنشاط متنوع الاهتمامات, وطاقة موزعة على حقول متعددة تبدأ بالرواية ولا تنتهي عند حدود القصة والمقالة والترجمة ودار النشر التي تستنزف وقته وعمره, محاولا البحث عما يعينه على تحمّل مأسي العالم من جهة , ومنقبّا من جهة أخرى عن كوّة نور يطل من خلالها على الأمل . شوكوماكو التقى الروائي الياس فركوح وحاوره حول وصول روايته” أرض اليمبوس” إلى القائمة المصغرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأولى وحول أمور أخرى. للروائي : في الرواية :أعمدة الغبار – قامات الزبد – أرض اليمبوس في القصة: حقول الظلال – من رأيت كان أنا ...‏ - ولدتَ عام 1948، هذا العام الذي يصادف ذكرى النكبة، والآن يحتفل العالم بذكرى “تأسيس إسرائيل” بينما نحيي ذكرى النكبة الستين وسط خَجَل عربي فاضح. ماذا يعني لك هذا على الصعيد (الشخصي والعام؟ وهل ولادتك في ذكرى النكبة أثرّت على شخصيتك لاحقاً وزرعت فيك جينات ستجعل منكَ لاحقاً كاتباً مغموساً بالهم العام والكتابة عن فلسطين؟‏ أن تولد عام 1948 يعني أنَّ الحياة باشَرَت، ومنذ بداية بداياتك، بحفر علاماتها الجارحة في روحك. معناه أنَّ “صُدفةً تاريخيّةً ما” عملت على تكريسك، ربما بنصف وعي أحياناً، شاهداً رغمكَ على محطات الحياة العربيّة المعاصرة، ومنخرطاً منغمساً في تفاصيلها اليوميّة. معناه أنَّ تلك البداية وضعتكَ داخل سياق عَيشٍ أنتَ لم تختره اختياراً حُرّاً صافياً في عمومه، إذ لم تترك لكَ سوى هامش الموافقة على أن تكون إبناً لهذا السياق تتفاعل معه وتفعل فيه بقدرٍ شخصي ضئيل .. أو تخرج منه (إنْ استطعت) فتخسر الخسارات الكبرى واهماً لتكسبَ، بالمقابل، ذاتاً مُعَرّاة ومنعزلة تتغذّى على ذاتها دون شَبَع. هي حالةٌ أو معادلةٌ لا مكان فيها لأي بطولة مفتخرة بنفسها، لأنَّ منطق قاعدتها لا يسمح أو يمنح أبناء جيلنا فرصة إلاّ أن يكونوا ضحايا/ مقاتلين، أو إنْ شئت، هُم: المقاتلون/ الضحايا. كأنما صدى “ البحرُ من ورائكم، والعدو من أمامكم، فأينَ تنفرون وتفرون!” هو النداء الوحيد، أو القَدَر المرسوم الذي أطبقَ على مصائرنا طوال أكثر من خمسة عقود، بدايةً من نفير 1948 الأوّل! ثمة الكثير من المعاني لهذه الولادة من حيث التاريخ. وكذلك، وهذا في غاية الأهميّة كما أرى، من حيث الجغرافيا. فالأردن هو وجه فلسطين الآخر، عَبْر دلالات مجازيّة تفكريّة وواقعيّة أرضيّة لا تُحصى. فكيف لي أن أهرب من فلسطيني اللصيقة بي، أنا الأردني!‏ - عشتَ ودرستَ في القدس وعمّان وبيروت، هذه المدن التي نجدها مزروعة في روح نصوصك. إلى أي حد سكنتكَ المدينة؟ وإلى أي حد أسكنتها في أعمالك عموماً ورواياتك خصوصاً؟‏ أنا إنسانُ مدينةٍ في معظم طبقات تكويني الشخصي. أنا كذلك لأنني لستُ سليل أُسرة ريفيّة، كما لستُ ابن صحراء أو بادية. صحيحٌ أنَّ مُدننا العربيّة لم تُمْنَح ما يكفي من الوقت لتستوي مُدناً تنمو (وتتطور وفق “أُسس وقوانين” نشوء المُدن، إذ ضُرِبَت مبكراً بريفٍ هَجَّرَهُ الجوعُ وأجبره على غزوها ومَلئها، فأعاقها وشوهها رغماً عنه وعنها ـ إلاّ أنَّ ذلك كلّه لم يَحُل دون تميّزها وتميّز أبنائها بهويةٍ مختلفة وأُخرى مغايرة لسواها. هي ليست أكبر شأناً بالضرورة، لكنها ليست أقلّ أصالة بالتأكيد. ولأنني كذلك؛ ولأنَّ المدينة تشكّل فضاءً طبيعياً لي، فضاءً ليس مُعادياً، أو صادماً، أو باعثاً مستفزاً لاختلاق ما يشبه كذبة عَيش “الغُربة” الرومانسيّة المفتعَلَة التي يدّعيها عدد من الكُتّاب القادمين من خارجها لأسباب وحجج شتّى؛ لأنني كذلك، كانت القدس كعمّان، في تحليها بمبادىء المدينة الصغيرة وفق الطراز البسيط لذاك الزمان، فما وجدتُ فيها سوى التنويع على أمرٍ أوّل أليف مألوف. أما بيروت؛ فجاءت فيما بعد لِتُزْهِرَ فيَّ قابليّة القبول بالمدينة الكبيرة والرضا الهادىء السلس بها. نعم. المدينةُ تعيشُ فيَّ لأنها رحمي الأول ومالكة تكويني. ولأنني، قبل كل شيء، عشتُ فيها كمكانٍ أصْل فعاشتني كحالةٍ متناميّة. فأنتَ، بعد عُمْر، تتحوّل من ابنٍ لها لتصبحَ أباً لتوالي تحولاتها المستمرة، وبذلك تصيرُ بانياً لها صفةً تضيفها إلى مجموع صفاتك. فإذا كان ذلك كذلك، فلا مفر من حضورها الكبير في نصوصي. هي وحدها المكان ـ البطل. إني من الكُتّاب الذين لا يقتربون، بالكتابة، من عوالم وفضاءات أزعمها معرفةً، لكنني لم أعشها حياةً وحالات.‏ “-أرض اليمبوس” روايتك الأخيرة التي دخلت قائمة البوكر العربيّة، تتداخل فيها السيرة الذاتيّة بالسيرة العامة للتاريخ العربي في نصف قرن. هل كنتَ تكتب سيرتك الشخصيّة، أم سيرة عَمّانك وقُدسك، أم كنتَ تصفّي حسابك مع تاريخ عربي أكلَ عمركَ وروحكَ ولم يهبكَ سوى الهزائم وبُكاء اللغة؟‏ بين السيرة الذاتيّة أو الشخصيّة، وانتقاء محطات معينة من تجربة الكاتب الحياتيّة يراها منسجمة ومتآلفة مع السياق الروائي ومعززة لدلالته .. ثمة فرق. هذه نقطة أراها حاسمة للتمييز بين مَعنيين يجري خلطهما أحياناً، فيأخذ أحدهما مكانَ الآخر مستبدلاً بذلك هويةَ أو ماهيّة الجنس الكتابي، وهذا خطير؛ إذ تقع عمليّة القراءة في شَرَك الشواش أو قُلْ الانحراف باتجاهٍ آخر تماماً. وفي أحسن الأحوال يصير لاجتهاد القارىء سبيل تسميّة العمل المكتوب بـ”سيرة روائيّة”، أو “رواية السيرة”، أو “رواية ـ سيرة”، أو “رواية سيريّة”. ومع أني منفتحٌ تماماً، لا بل أدعو وأحضُّ على طموح توسعة الهوامش في أي جنس كتابي، لتتضمن ضروباً وافدة من أجناس أخرى، إغناءً له وتجريباً واعياً مسؤولاً؛ إلاّ أنني أخشى سوء القراءة والاستنتاج الذي يجعلُ العملَ يندرج في جنسٍ حائر! فبقدر ما يتحمّل الكاتب غير المتمكّن مسؤوليّة إضاعة هويّة كتابته، إذا ما لجأ إلى تهجينها عبر توسعة هوامشها من غير تدبُّر مكين؛ كذلك الأمر في ما يتعلّق بالقارىء المتسرّع الذي يجد نفسه كمن وقع على اكتشاف مفترَق طُرُق: أأقرأ النصّ روايةً؟ أم سيرةً؟ .. ثم يريح نفسه في منطقة الوسط ليجلس حيث هو بينهما: هي رواية سيرة! عَليَّ الإقرار بأنَّ درجةً عاليّةً من التماهي أوْجَدتُها واعياً بين شخصيتي ككاتبٍ للرواية يمتحُ من تجربته الحياتيّة، وبين شخصيتي المكتوبة كراوٍ متعدد الأصوات وزوايا النظر داخل الرواية، وهذا ما دفعَ معظم ـ إنْ لم أقُلْ جميع قُرّائها ـ إلى تأويلها على أنها رواية سيرية. ولعلّي أبالغُ في تحسسي لمفردة “سيرة ذاتيّة” جرّاء أخذ نفسي بشدة عند الالتزام بِدِّقة معاني المفردات وحدودها قبل استخدامها، كتابةً أو حواراً مع آخرين. ثمة الخِشية من إضاعة اللغة المشتركة ، بمعنى عدم الاتفاق الضمني والأولي على معنى أو دلالة اللفظ قبل النُطق به! إضافةً إلى ذلك، وهذا ما لم يلتفت إليه أحد ممن كتبوا قراءاتهم للرواية، هنالك توسعةٌ أزعمها في تطبيق مفهوم الكتابة ما بعد الحداثيّة. فإذا كانت، في أحد جوانبها، معاينتها لنفسها ككتابة ومحاورتها من وفي داخل النصّ حين يتخلّق ومساءلتها لنفسها؛ فلقد أُخضِعَت شخصيّة الكاتب هي أيضاً لأسئلتها عنها، ولضروب التشكيك في ذاكرتها، وبالتالي لمدى مصداقيّة أو موثوقيّة ما تكتب، حين تكتب نصّها عنها وعن سواها! جُملة ما تخرج به القراءة تنضفرُ في سَلَة أسئلة تجافي الذهاب إلى أن الرواية سيرة تتستر برداء رواية. فالسيرة وقائع أكيدة الحدوث ليست كتابتها سوى عمليّة تدوين لوقائعها كما وقعت .. وإنْ بقليلٍ من التعديل. وقائع ليست موضع تساؤل أو تشكيك، يسجّلها صاحبها عنه وعنها، وبذلك يسجّل سيرته، وسيرة آخرين، وسيرة الأمكنة وأزمنتها. لا أنفي ولا أعترض على أنَّ جانباً من “أرض اليمبوس” أُوكِلَت إليه مهمة كهذه، غير أن الرواية ليست هذا فقط، كما أنها ليست تأريخاً إلاّ بقدر ما يكون التاريخ، في الأدب والفن، إعادةُ كتابةٍ مَرَّت في موشور الذاكرة المنتقيّة الحاذفة والمضيفة (كما ورد هذا حرفيّاً داخل النصّ)، ومصافي اللغة المتفكّرة، و”شياطين” الرغبات الفالتة من شروط “الملائكة” المحافظين على سكون الخليقة، كما هو، عند أوّل بزوغها.‏ - تمارس الترجمة إلى جانب نشاطاتك المتعددة، كيف تقيّم حال الترجمة /من وإلى/. هل نستطيع القول أننا بتنا موجودين على قوائم الترجمة العالميّة، أم أننا ما زلنا متخلفين عمّا يحصل في العالم في هذا الأمر أيضاً؟‏ لا زلنا على الصعيد العربي، بمؤسساتنا الرسميّة وشبه الرسميّة وكذلك بدور النشر الأهليّة ضئيلة القدرات الماليّة الممولة لمشاريع الترجمة، في وضعٍ متخلّف بكل معنى الكلمة. وإني هنا أشير إلى حال (الترجمة من لغات العالم إلى لغتنا العربيّة. فبالإضافة إلى تقرير اليونسكو الذي نشر قبل سنوات قليلة بهذا الخصوص والأرقام الصريحة الواردة فيه والتي تشكّل فضيحةً ثقافيّةً حضاريةً ينبغي لكل مشتغل بالثقافة ومَعْنيّ بها التفكير بمدلولها الخطير؛ أقول: إضافةً إلى هذا التقرير، بإمكان أي متابع لحركة الترجمة، وفي جميع حقول المعرفة، وضع اليد على أننا في آخر دول العالم عنايةً واهتماماً والتماساً لضرورتها، رغم أننا الأحوج في هذا الراهن من التاريخ إلى نقل معارف الآخرين إلى لغتنا وبالتالي إلى إنساننا الذي لا يتقن سوى لغته الأُم. أما عن ترجمة نتاجنا الفكري إلى لغات العالم؛ فحدّثْ ولا حَرَج! فإذا كان تقرير اليونسكو يشكّل فضيحة؛ فإنَّ الجانب الآخر لهذه الفضيحة أكثر فضائحيّة وأشد مرارة. ناهيك عن السؤال الذي يطرح نفسه علينا جميعاً: هل لدينا في نتاجنا المعاصر والحديث من المعارف (غير الرواية والشعر والقصة القصيرة) ما ليس مُتاحاً للآخرين هُم بحاجة إليه يسدون به نقصاً ما في دوائر معارفهم؟‏ - نلاحظ في رواياتك الثلاث (قامات الزبد، وأعمدة الغبار، وأرض اليمبوس) حضور الحرب كحدث مركزي. هل تسعى لتأريخ الحروب العربيّة روائياً؟ وكيف تتجلّى لديك العلاقة بين الحرب والرواية؟ أي، كيف تستطيع أن تُخضِع الحرب كوثيقة ومعارك وموت ودمار و.. لمفهوم الرواية وأدواتها، دون أن تخسر الرواية وتقع في مطب المحاكاة الساذجة لواقع قائم وترتفع بها نحو مصاف الإبداع الخالص؟ ﴿ بدأتُ قاصّاً منشغلاً برصد النُتَف الصغيرة في يوميات أفرادٍ يمثّلون ذواتهم مثلما يمثّلون، في الوقت نفسه، غيرهم. لكنني، حين كنتُ أكتب ذلك، وجدتني أسجّل رؤيتي لعوالم غلُبَت عليها العاديّة لفرط تكرارها في حياتنا، كل يوم، ومن خلالها كنتُ أكشفُ عن قسطٍ من موقفي حيالها: بمعنى أني كنتُ أكتشفُ لحظةَ الكشف قسطاً مني أنا شخصياً. وهكذا تحوّلَ وعيي على الكتابة ليكون وعياً للذات الكاتبة أيضاً، وبذلك صرتُ أرددُ قائلاً بأنَّ القصة تكتبني شيئاً فشيئاً كلّما تدرجتُ بكتابتها مشهداً مشهداً. كانت »قامات الزبد« روايتي الأولى بعد مجموعات قصصيّة عدة، وما كنتُ أعرف ماذا سأكتب بعد انتهائي منها. ثم، وإثر نشري لها بسنوات، وقعتُ على أنني لحظة شروعي بالكتابة الروائيّة، مستنداً إلى محطة في حياتي، إنما باشرتُ التأسيس للكتابة عن جيلٍ أنتمي إليه مَرَّ بكل المحطات التي مررتُ بها. وهكذا اتضحَ لي مشروع ثلاثيّة روائيّة غير معلَنَة تغطّي المفاصل الرئيسة في حياتنا، فكانت »أعمدة الغبار« ثم انتهت بـ »أرض اليمبوس«.ما المفاصل الرئيسة في حياتنا، إذَن، إنْ كنتُ أسجّل روائياً سيرةَ جيل ولِدَ عام ١٩٤٨؟أوليست هي الحروب ما عَلَّمَ وحفرَ وفرزَ وخلَطَ وولّدَ وأدّى وكشفَ وخَبّأَ وطمَرَ وعَرّى عارَ مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسيّة راعية هزائمنا وداعمة خسارات أرواحنا وأحلامنا.. وأراضينا؟ ست حروب خلال ستة عقود، كأنما ثمة حرب في كل عقد هدية لكل جيل! لستُ أسعى لتأريخ الحروب روائياً، ولستُ مَيّالاً للكتابة عنها إلاّ بقدر ما تعمل هي على كشف التوتر داخل الشخصيات التي مرَت بها، أو مرّت الحربُ عليها، ولكن كأمرٍ مسبب وكخلفيّة تصبغ المناخات وتحدد الإيقاع. يَرِدُ ذِكر الحرب كعامل استفزاز يكشف عمّا هو أهمّ منها: الفردُ الذي طحنته نتائجها المدمّرة. كما أني، بالكتابة، إنما أدوّنُ دواخل الشخصيات وتاريخها على وقْع الحرب وصداها المتردد في أعماقها. الحربُ ليست موضوعاً مثيراً لكتابتي إلاّ بقدر ما تشير إلى »الحرب الأخرى« الدائرة بين »نحن المكشوفة« و»نحن المطمورة«. لن يجد القارئ في رواياتي حرباً أحاول وصفها وتصويرها، بمفرداتها العسكريّة ومعاركها وجنودها وقتلاها وضحاياها وأبطالها ومشاهد ساحاتها، إلخ. ذلك ليس هَمّي أبداً. وبالتالي فأنا لا أحاكيها ولا أحاكي سواها. كتابتي »فـي« الأشياء وليس »عـن« الأشياء. والعلاقة بين الحرب والرواية التي أكتبها بحسبي، هي علاقة بين إشارة استفزاز تعمل على إثارة الأسئلة عن حروب ذواتنا. أسئلة عني أنا أيضاً، تماماً مثلما فعلتُ في كتابة القصص، كما بدأتُ ممهداً للإجابة. تعدّد - كتبتَ الرواية، والقصة، والمقالة، والبحث، والترجمة، والشهادة، إضافةً لدار النشر التي تملكها. لماذا هذا التعدد؟ هل هو صدى لروحك المتشعبة؟ وأين يجد الياس فركوح روحه أكثر؟ ﴿ لو أنكَ سألتني هذا السؤال قبل سنة أو سنتين، لربما أجبتكَ على هذا النحو: روحي تحققُ ذاتها في هذه الأنواع الكتابيّة جميعها، ولكن بِنِسَبٍ متفاوتة بالطبع. فما دام المرء الواحد ينطوي على مستويات أو طبقات عدة تبتغي التعبير عن طاقاتها، وهنالك ما يكفي من الوقت لأن يتوزع صاحبها عليها منشغلاً بها؛ فليس ثمة مشكلة. هذا صحيح من حيث المبدأ. وصحيح أيضاً قبل سنة أو سنتين، حين لم ألتفت إلى ضرورة ترتيب الأولويات بإعطائها حقها الأوفر من الجهد، والانشغال، والوقت ـ وهو الأمر الذي بِتُّ أعيش إشكاليّة توفيره الآن. ولم يعد المتبقي من العُمْر يكفي للإحاطة بهذا »التَرَف«! تحضرني بهذا السياق حكاية نيكوس كازانتزاكيس ووقوفه عند زاوية الشارع متسوّلاً المارّة شيئاً من الوقت يدّخره لإكمال أحلامه الكتابيّة! كما ينبغي للمرء، في هذه المرحلة من عمره، أن يواجه نفسه بعنوانه الأوّل أو الرئيس، وبذلك يكون قد تحلل، ولو نسبياً، من مُلحَقات العنوان باعتبارها تفريعات له. ربما لا يتمكن من التخلص منها نهائياً كونها تشكّلُ إعاقةً لمشروع العنوان، لكنه سينصرف حتماً إلى الحَدّ منها ليتفرغ لِما يراه يتحلّى بالأولويّة. التعدد سِمة جوهريّة في الكائن، والعمل على إشباع مكوناته يحققُ له التوازن. لا شك في هذا. إنما، وبالنسبة لي والآن، معترفاً بفضل هذا التعدد في إثراء جوانبي المعرفيّة الثقافيّة، أصبحت عمليةُ تلبيتها مرهقة ومسببة للتشتت وفقدان القدرة على التركيز. وبذلك، أصبحتُ بدوري أنحو باتجاه الانصراف إلى الرواية، إعداداً، وقراءات، وتفكراً، لتكون عنواني الأوّل. دار النشر مشروعٌ وعملٌ جميل! مشروع وعمل مِعطاء وصاحب رسالة بمعنىً ما. لكنه غولٌ يلتهم الوقت، والجهد، والتركيز، والمال القليل، ويستنفد أنايَ الكُليّة التي ما عادت قادرة على تلبيّة حاجاته واحتياجاته من ذلك كلّه. لن يكون باستطاعتي التخلص من الدار؛ فليس سهلاً تصفيّة ما يشبه مؤسسة طفقت تحقق نجاحاً ثقافياً وحضوراً لافتاً محترماً، ومحو منجزها وشطب طموحاتها. وهذه مشكلة حقيقية تؤرقني. رقابتان - الرقابة في العالم العربي أمر محيّر ومربك للكاتب، وفي الوقت الذي يعتبر أغلب الكُتّاب خارج الأردن أن الرقابة السياسية أخطر أنواع الرقابات وأشملها؛ نراك تركّز على الرقابة المجتمعيّة. لماذا؟ وماذا عن الرقابة الدينيّة؟ كيف تؤثر الرقابة على عملك الإبداعي بالدرجة الأولى وعلى عملك كناشر؟ وهل سبق أن اضطررت للمراوغة بشكل ما أمام الرقيب؟ وما الحل برأيك للتعامل مع الرقابة السياسية من جهة، والرقابة المجتمعيّة والدينية من جهة أخرى؟ ﴿ لستُ مستخفاً بأي من الرقابتين السياسيّة أو الدينيّة على الإطلاق. أبداً. فأنا أعي تماماً بأنَّ الرقابة المجتمعيّة بقدر ما تنطوي على أثقال الرقابة الدينيّة وممنوعاتها الخافيّة المتخفيّة بالمحافظة على »دين وأخلاقيات وقيم وعادات« المجتمع والأُمة. أو تلك الجاهرة بتكفير كل ما/ ومَن تراه خارجاً على منطوقها اللفظي بشروحاتها الجامدة أو شروحاتها المتطرفة ـ فإنها أيضاً تتضمن، في أُسها وأساسها، منطق المَنْع والمصادرة، وتمنح نفسها سلطةً على الجميع هي مستمدةٌ أصلاً ومدعومة من السلطة السياسيّة المتراجعة أمامها خوفاً، أو مجاملةً لتيّارٍ زاحف يصطبغ بشعبويّة ساخطة، أو بالتواطؤ، أو عبر عَقدٍ تضامني (هو مرحليٌ بالضرورة) يكفلُ للطرفين مساحاتهما السلطويّة. عندما أركّز على الرقابة المجتمعيّة (وليس الاجتماعيّة) فإنني أدعو إلى تفكيك عناصرها المكوّنة لها لاكتشاف أنها مجموع الرقابتين السياسيّة والدينيّة، ومعاينة آليات فعلهما المشترك داخل البِنيات الاجتماعيّة المؤدية إلى: انحباس في الرؤيا، وتَعَصُّب في التعامل، وحَظْر للحِراك المدني والاجتهاد الفكري بعمومه، ومصادرة للاختلاف، وفِتنة في المعتَقَد، ومعاكسة لمتطلبات العدل والمساواة، وضرب لمفهوم المواطنة القائم على عدم جواز التفريق بين المواطنين بسبب اللون، أو الدين، أو الجنس، أو الأصول، أو القرابة، أو العشيرة، أو المال، أو النفوذ المتوارَث، إلخ. السلطة المجتمعيّة بمواصفات كهذه وراهن كهذا، وبالتالي رقابتها المتأتيّة عنها، لن تنتج بلداً بمؤسسات مدنيّة مرتكزة إلى قواعد ديموقراطيّة حقيقيّة غير زائفة أو شكليّة ترسم حدوداً واضحة للحريات، ولأذرُع السلطات التي تتغوّل، في حالاتنا العربيّة، السلطةُ التنفيذيَة لتهيمن على التشريعيّة والقضائيّة! نعم، هذه هي الرقابة المجتمعيّة في خُلاصتها. وهي شاذة. وهي أخطر بما لا يُقاس من مجرد رقابة سياسيّة تمنعُ كِتاباً بمقدورنا تسريبه إلينا وقراءته رغماً عن أنف الحدود والرقابات البلهاء. نحن الآن بصدد أزمة انغلاق أُفق، وحالة تخلُّف شديدة التعقيد في تركيبتها تتجاوز المفهوم السياسي لدولٍ باتت رهن التحلل والارتهان لقوىً إقليميّة وعالميّة شارعة بتسيُّد العالم وإعادة اقتسامه، مزيحةً من طريقها هذه »الدول« المشكوك بسيادتها السياسيّة على أراضيها! أما عن الشق الثاني من سؤالك؛ فأود الإشارة إلى أن تجربتي الكتابيّة علّمتني كيفيّة التعامل مع الرقابة الرسميّة دون أن تتنازل عن منطوقها من جهة، أو أن تُنْزِل الضرر بمستواها الفني. فلكّل رقابة، وبحسب التجربة الشخصيّة، تخومها وحدودها على الكاتب والناشر معاً معرفتها ليصار لكلٍ منهما أسلوبه في إدارة ما أسمّيه »سِجال الذكاء« المفتَرَض والمفروض عليهما. ثمة قاعدة اجتهدتُ خلال ما يقرب الثلاثين سنة من الكتابة في بنائها، تتلخص في أنَّ على الكاتب (والناشر) أن يحترم نفسه فلا يبتذلها! والابتذال عادةً ما يكون بواحدة من طريقتين: إما أن يتجاوز الخطوط الحُمْر بمباشرة وانكشاف وصراخ بحيث يُجبر الرقيب على فعل المنع، فيتحوّل إلى »شهيد« بالمَجّان، لكنه يصبو في الوقت نفسه لأن يصنع من نفسه »نجماً« ضمن منطق إعلام الإثارة وسوق فبركة الأبطال. مع ملاحظة أنَّ المباشرة والانكشاف والصراخ، في الأدب والفن، تستدعي معها، غالباً، لغةً وأسلوباً يقعان خارج البناء الفني وعلى حسابه. ولذلك، فإنَّ قراءةً نزيهةً ونبيهة وبريئة من طغيان »نجوميّة شهيد الحريّة« لكثير من »النصوص الممنوعة« تدلّنا على فقرٍ كِتابي داخلها تم تعويضه، أو التستر عليه بالأحرى، بضجيج الحظر والمنع. أما طريقة الابتذال الثانيّة، فإنها ببساطة الخضوع لاشتراطات الرقابة على نحو مبالغ فيه يصل عند البعض إلى درجة المهانة، فيتنازلون عمّا ليس مطلوباً التنازل عنه! ليس هنالك من حل واحد في التعامل مع الرقابات، السياسية والمجتمعيّة والدينيّة. ليست هنالك صيغة جاهزة. أنتَ تبني صيغتك بحسبكَ وبحسب تجربتك. أما الحل الجذري؛ فبإلغاء الرقابات كافة، واستبدالها برقابة الضمير، وروح احترام الكتابة كاحتراف له شروطه. -قلتَ لنا في الأردن إنك تعتبر أن المستقبل سيكون للنصّ النخبوي، وأن الثقافة تتجه لأن تكون نخبويّة. ألاْ ترى أنكَ بذلك تلغي القارئ من المعادلة الثقافيّة التي تموت دونه؟ ﴿ لستُ أنا مَن يلغي القارئ من المعادلة الثقافيّة؛ بل هو النظام التعليمي، والتربوي، والتثقيفي الآخذ بالتفكك والانحلال على طول الوطن العربي وعرضه. هنالك عمليّة تَخَلٍ كامل من قِبَل المؤسسات ذات الشأن عن مسؤولياتها تجاه تنميّة ثقافيّة، عريضة وعميقة ومستمرة، تطال مواطنيها عبر جميع المراحل، بحيث تعودُ للمعرفة المتجاوزة حدود المتطلبات الأكاديميّة ومستلزماتها قيمتها داخل المجتمع، وبالتالي داخل الحياة الخاصة لكل فَرد عربي. ثمة إفقارٌ في الوعي الثقافي للإنسان العربي، وإجدابٌ في التذوق الفني والأدبي لديه، كأنما بقصدية ووعي وهذا أمرٌ مُريب! وإنْ كان ليس كذلك، فالأمرُ ينذر بكارثة قادمة على مستوى عُمق الشخصيّة العربيّة كنتيجة حتميّة لهذه المقدمة. مثلما يدلل، في الوقت نفسه، على تَرَدٍ فاضح في كفاءة أصحاب المسؤوليّة، وغياب منهجيّة أو استراتيجيّة عارفة متأتيّة عن رؤيا واضحة بعيدة المدى تعي مفهوم »الوطن« حقاً، وتُعنى بمستقبله. فلنكُنْ أكثر صراحةً: حين يتحوّل الفسادُ إلى ظاهرة متفشيّة وراسخة في المجتمعات العربيّة، فإننا لحظة اعترافنا به والتسليم بصعوبة اجتثاثه كونه أصبحَ مؤَسَساً (بفتح السين) إنما نعاينُ ونشهدُ انفلاشه خارج المؤسسات الرسميّة الحكوميّة وأجهزتها، ليغطّي ويتغوّل على معظم جوانب البِنية المجتمعيّة.. اللهم بعض الدوائر الصغيرة والمشتتة من المثقفين والشرفاء، والمعزولة للأسف. هي دوائر تم عزلها بفعل إدبار الجسم الأكبر من المجتمع عن التعاطي مع ضروب الإنتاج الثقافي، فباتت نتوءاً شاذاً ربما يُلتَفَتُ إليه كرنفاليّاً وعلى سبيل استكمال الديكور باقتطاع يومٍ ما من روزنامة السنة للتذكير به بدافع (رفع العَتَب)، ثم يُنسى! معارض الكتب تشهدُ تراجعاً واضحاً في زوّارها، وخسارات تؤكد أرقامها في مبيعاتها، وانفضاضاً عن الكتب الموسومة بـ»ثقيلة الدم« مقابل الهجوم على تلك الموصوفة بـ»الصفراء« المبشّرة بعذاب القبر، والموصية بأي من القدمين عليكَ دخول المرحاض، وكيف للزوجة أن تجذب زوجها وتحتفظ به عبر سُبُل الإثارة والإغراء، والصفحات التي تُطلعك على حظك كل يوم في كتب تدّعي علم الفلك والإبحار بين النجوم! أي صورة يمكنكَ رسمها عند الحقيقة القائلة بأنَّ عدد النسخ المطبوعة من أي كتاب، قبل عشرين سنة، كان ثلاثة آلاف ـ بينما الآن، رغم تكاثر الجامعات والأكاديميات على اختلاف تخصصاتها تكاثراً بكتيريّاً، لا يتجاوز الألف نسخة! والبعض من الكتب، الشعر خصوصاً، الخمسمائة! عند تدقيقنا بهذا الحال، هل تتوقع قارئاً مثقفاً يتجاوز دائرة النخبة بمقدوره التفاعل مع النصوص الأدبيّة الحديثة؟ هل تتوقع أن يكّف الكُتّاب عن المضي عبر تحولات الأجناس الكتابيّة، ليتوقفوا عند نقطة الانقطاع الثقافي والفني والأدبي ـ المعرفي عموماً ـ للمجتمع، بانتظار صحوة شاملة تأخذ بالاعتبار تعويض ما فاتها؟ هنالك نخبوية على صعيد الكتابة لأنَّ هنالك نخبويّة، ومن قبل، على صعيد القراءة. وهنالك غُربة بين الفئتين تكاد تقتل. - نلاحظ في كتابتك عموماً اهتمامك الكبير باللغة، حيث تغدو لغتك معجميّة صافية ومنحوتة بإدهاش، وتقترب من تخوم الشعر. كيف تتعامل مع اللغة؟ هل تتقصد أن تكون لغتك هكذا وأنتَ تكتب، أم أن الأمر يأتي تلقائياً؟ ومن جهة أخرى، ألاْ تخشى أن تُبعدك هذه اللغة عن القُرّاء؟ ﴿ من الأقوال المأثورة: »الكاتبُ هو الأسلوب« ومن الخُلاصات التي خرجتُ بها عبر تجربتي الكتابيّة وعنها: الكتابةُ هي اللغةُ كعلامةٍ فارقة تشير إلى كاتبها، تماماً مثلما هي بصمةُ الكائن الواحد التي لا تتكرر. من دون لغة خاصة يتعرّى النصُّ وينكشفُ خفيفاً فاقداً لخصيصة صاحبه، ويتحوّل إلى مجرد كتابة تشبه غيرها من كتاباتٍ سواها، فلا يبقى ما يشير إليها إلاّ موضوعها وطريقة بنائها. وبالرغم من أهميّة هذين العنصرين (الموضوع وطريقة البناء)، لكنهما لا يكفيان لوحدهما ليوجدا للكاتب حيّزه الخاص على خريطة الجنس الكتابي الذي ينخرط فيه. أما عن خِشيتي من ابتعاد القُرّاء عن كتابتي بسبب هذه اللغة؛ فإني أحيلك إلى إجابتي السابقة بخصوص نخبوية القُرّاء. ناهيك عن وجهة نظري الرائية إلى أن ليس ثمة وجود للقُرّاء (بأل التعريف) .. بل ثمة قُرّاء معينون لكل كتابة معينة. لقد انتهت أسطورة جمهور القُرّاء، أو الوهم بوجودهم ككتلة متجانسة واحدة في مستوى وعيها الفني والثقافي، والخروج بالتالي بنتيجة علمية قياساً إليهم وإحالةً عليهم. - العلاقة بين المبدع والسلطة بطبيعتها علاقة إشكاليّة من حيث طبيعة كل منهما، ولكن في العالم العربي تغدو تلك العلاقة مدمرة وتناحرية. كيف تقرأ العلاقة بين السلطة والمثقف؟ وهل من الضروري أن يكون المثقف نابذاً ومواجهاً لأي سلطة، على الأقل معنوياً؟ ﴿ لم تتسم العلاقة بين المثقف والسلطة يوماً، خاصةً في الوطن العربي، بالتوافق أو الانسجام، اللهم إلاّ إذا تقاطعت رؤية كل منهما أو المصلحة لديهما عند نقطةٍ ما. وهذا نادر الحدوث. تاريخنا يشهد على ذلك، والمشهد المعاصر تكملةٌ ليست نشازاً لذاك التاريخ الطويل. إنَّ طبيعة الأنظمة العربيّة، على اختلاف شعاراتها وتسميات عناوينها، بما تتضمن من أُحاديّة في وجهة النظر وفرضها: وانعدام مساحة القبول الحقيقي بالاختلاف والتعامل الموضوعي معه، والتعارض الجوهري مع مبدأ تداول وانتقال الحكم، والاستناد إلى قبليّة وعشائريّة المجتمعات وعصبياتها بما يحول دون بناء الأسس الراسخة لمجتمع مدني يفرز أحزابه السياسية الحقة، وجمعياته النقابيّة غير المشتراة، وصحفه الحرّة حقاً؛ كل ذلك أفضى إلى هذا التوتر التاريخي في العلاقة بين المثقف العربي وسلطاته الحاكمة. هذه الأنظمة بطبيعتها والتي تجيز للرئيس أو للرجل الأول، أياً كان، الاستمرار بالحكم رغم عجز حكوماته وبالتالي عجزه هو عن حل المعضلات المعيشيّة في الداخل والاختلالات الهائلة بين الشرائح الاجتماعيّة من جهة، وإفقاد بلده لوزنه الدولي لإضاعته دوره مهما بلغ حجمه من جهة ثانية، وفشله في ردّ الاعتداءات المباشرة أو استرداد الحقوق الوطنيّة من جهة ثالثة .. ومع ذلك؛ نراه يترسخ مع الزمن ليتحوّل إلى »زعيم« و»محط الآمال«! يتحوّل من حاكمٍ مطلق إلى حكيمٍ بصير وضرورة تاريخيّة! يتحوّل شخصياً ليكون هو المؤسسة، والدولة، والمرجع الأول والأخير، والتجسيد الملموس لروح الأُمة، والموّجه للسياسات الداخلية والخارجية ملغياً بذلك كافة المؤسسات الدستورية، وناسفاً حتّى الديكورات الكاذبة لديمقراطيّة شوهاء، وبالتالي يحق له تمثيل مقولة: »أنا الوطن، والوطن أنا«! من بعد؛ هل لنا أن نتصور نظاماً كهذا يتقبّل المثقف، أو تسمح تركيبته بدورٍ عضوي للمثقف يلعبه باتجاه إحداث تغييرات حقيقية، تنويرية وتثويرية وتثقيفية وتعليمية تقلب المعادلة السائدة طوال ما يقرب قرن من الزمان؟! ثمة خطوة ناقصة يحلم بها المثقف، حتّى البراغماتي الاتجاه، تعجز عنها السلطات المبنيّة على الفرد الواحد. خطوة التسليم بأنَّ الحاكم ليس ظِل الله على الأرض، وأنه مجرد لحظة خاطفة في التاريخ. هذه من ثوابت التاريخ العربي. إضافةً إلى أن النقد، وعدم الرضا، والتعفف عن تبييض ذِمة الحاكم، تعتبر من لوازم المثقف ومن صفاته الجوهريّة. باختصار: إنَّ مكان المثقف الدائم يقع خارج مؤسسات السلطة. على هامشها. وكلّما عسفت السلطة نأى المثقف عنها وتعاظمت حالةُ التوتر بينهما. السلطة، وفق النظام العربي، هي المُطْلَق، بينما المثقف هو النسبي. الأولى خارج التاريخ لأنها مضادة للعلم والمنطق. والثاني ضحيّة تاريخه رغم محاولاته لأن يدخل تاريخ الانسانيّة. أسماء وأسماء - نلاحظ في العقد الأخير وصول النتاج الأدبي الأردني إلى العواصم العربيّة، ولكن رغم ذلك نرى أن الأمر محدود بعدد قليل من الأسماء وكذلك الأمر في دول عربيّة أخرى بحيث تطغى أسماء معينة على كامل الحضور الثقافي لبلدٍ ما. إلامَ تعزو هذه الظاهرة، وهل فعلاً أن هذه الأسماء هي الأفضل في كل بلد عربي، أم أن علاقات الصداقة والشلليّة والعلاقة الجيدة مع السلطة هي التي تجعل من هذه الأسماء واجهة لبلدانها؟ ﴿ أبدأ بالقول أنَّ هذه ظاهرة حاضرة وشاملة جميع البلدان العربيّة، للأسف، وإنْ بِنِسَب مختلفة، آخذين بالاعتبار التمييز الدقيق بين الغثّ والسمين في مجموعة »الواصلين« تلك، على صعيد النتاج الأردني أو سواه. وبقدر ما يدعو انتشارها للاستفزاز والغيظ فإنها، في الوقت نفسه، تجلب معها أسئلةً كأسئلتك. لماذا؟ والسبب، بحسب اجتهادي، ليس واحداً بل هو متعدد يتصف بالتركيب وأحياناً، عند التدقيق باسمٍ ما، بالتعقيد بحيث يصعب الحصول على إجابة مقنعة تشفي الغليل. يمكن لي أن أعدد الآن مجموعة أسباب ليست من اكتشافاتي بالتأكيد؛ إذ يعرفها الجميع مثل الشللية، واحتكار المنابر الإعلاميّة، وأمزجة المسؤولين الثقافيين ومستواهم المعرفي وشبكة علاقاتهم، وتبادل المنافع هنا وهناك، واجترار الأسماء عينها في كل المؤتمرات والندوات، واحتراف صناعة العلاقات العامة بما تجلب معها الأضواء والمانشيتات لزوم »الشهرة«!، ثم تأتي درجة العلاقة مع السلطة في آخر سلم الأسباب. فأنا لم أعرف أديباً واحداً على علاقة جيدة بالسلطة ظل محتفظاً ببريقه الإعلامي، وبسبب من هذه العلاقة وليس نتيجة إبداعه العميق، في أي من الحالتين التاليتين: موته الفيزيقي هو نفسه، أو انهيار السلطة التي عملت على رفعه والترويج له. ربما أكون صادماً في رأيي حين أقول بأنَّ هشاشةً ما تتسم به الحالة الثقافيّة في بلداننا العربيّة سببت هذه الظاهرة، ولسوف تستمر في تغذيتها ما دامت الهشاشة والخِفّة والاستسهال من طبيعة الحالة الثقافيّة، وبالتالي من طبيعة المتحركين ضمن دوائرها. وما دامت روافع الأديب جُلِبَت من خارج نصوصه الأدبيّة بما تحمل أو لا تحمل من قيمة فنيّة وفكريّة! ثمة أبعاد أخلاقيّة ذات صِلة بالقِيَم والمبادئ تمَ التخلّي عنها وهَجْرها لصالح الشهرة السريعة والسهلة المأخوذة من مانحٍ لها (شلة، منبر، علاقات، إلخ) ارتضى لنفسه أن يقبض وأن يقايض. فإنْ كُنا تطرقنا للفساد في موضعٍ سابق من الحوار، فإنَّ فساداً مفضوحاً يمكن معاينته بسهولة، أو استنتاجه، عند قراءتنا لهذه الظاهرة. ثمة ما يمكن النظر إليها وتسميتها بحالات »الرشوة«! وكذلك، ثمة ضحالة ثقافيّة سمحت بانتشارها.