عرض مشاركة واحدة
قديم 03-11-2016, 09:07 PM
المشاركة 46
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
المفاتيح: تحليلٌ لبعض روايات سليم بركات
د. عباس توفيق

في: 09 نيسان/أبريل 2013
****** تشغل القضية الكردية جانبًا من الأعمال النثرية للأديب السوري سليم بركات، وربما كانت الكتابات المُعَنونةبـ: سيرة الصبا؛ فقهاء الظلام؛ الريش؛ وهي الأعمال التي وقعت بين يديّ؛ أبرز ما يعكس معاناة الكرد ووعيهم لقضيتهم، وقد اصطنع بركات لغة شعرية شفافة استنطق بها الشجر والحجر والطير، وأدار معها حوارًا أسهم ببراعته الفائقة في رسم إنسانية تلك الموجودات رسمًا متقنًا. غير أني سأرجئ الحديث عن البنية التركيبية اللغوية لأعود إليها في دراسة مستقلة إن شاء الله، وأريد هنا أن أركز على الجانب الفكري الذي يتعلق بهذه القضية والذي تُسهم الأسماء المختارة للشخصيات بعناية في كشف الستار عنه.

ولعلنا لا نرى في "سيرة الصبا" خصوصية كردية باستثناء البيئة التي تدور فيها الأحداث، إنها سيرة صبا بكل ما يرافقها من لعب وصخب وعبث كانت تقوم به فتية يربط بينهم مكان اسمه "الشمال"، ويمتلك هذا الاسم دلالته المعروفة على التجمع الكردي المتركز في هذه الجهة من كل من سوريا والعراق، وقد جاءت الأنماطالسلوكية التي عبر عنها بركات متناسبة مع عقول الصبية المراهقين سواء كانت أنماطًا سلوكية صادرة عنهم أو أنها صدرت عن "الكبار" ولكنها صوِّرتْ بعيون هؤلاء "الصغار"، وتمثل هذه الأنماط في مجملها مشاكسة ولهوًا وكان بركات بوصفه الراوي لما جرى؛ أحد أقطابها، وما كان لينفصل عن أقرانه فيما كانوا يفعلونه وله من بينهم جولاته الخاصة به][1 إلا أن هذه المشاركة الآنية العابثة لم تصرفه في تلك المرحلة المبكرة من حياته عن الإنشغال بهمٍّ أكبر، لا يبدو أنه كان يشغل أقرانه، هو همُّ كرديَّته: "سلو الذي هو أنا، سلو، سليمو، "بافي غزو" ابن الملا بركات هو أنا، الرجل الصغير الهارب، المدقِّق المتفحِّص في الحسابات الكبرى للشمال، هو أنا "][2، و "شمال أنت يا شمال، تركنا لك أن تتباهى بنا على مضض. كانت الجهات الأخرى قد اختارت شعوبها، فلم ير – كلانا – بدًّا من عقد قران المصادفة على المصادفة، رضينا بك فارضَ، ألا ترانا تُنَيّمنا الحكومات وتوقظنا الديكة؟" ][3.

*وقد نما وعي هذا "الرجل الصغير" المتفحص للحسابات الكبرى للشمال بالقضية الأساسية نموًا واضحًا في روايته الموسومة بـ "فقهاء الظلام"، وتجري أحداث هذه الرواية في قرية صغيرة تمثل نموذجًا لأرض كردية واسعة، ويشرع بركات في سرد الأحداث شروعًا طبيعيًا ومألوفًا لأناسٍ تتجاذبهم سلوكيات مخصصة ومصالح معينة: "حاول الملا بيناف؛ ابن كوجري؛ أن يبدو وقورًا كعادته، ابتسم من دون افترار لشفتيه عن أسنانه الكبيرة القوية، عمد بعض الرجال المحيطين بمجلسه إلى تملّقه بكلمات إطنابٍ ممطوطة فلم يلتفت، إليهم، بل نهض في هدوء، فَرَدَ سجادة وصلى ركعتين في إطالة ظاهرة..."][4 غير أن هذه البداية المألوفة تحمل ملامح اللامألوف واللاتحديد اللذان يكادان يطغيان على الرواية كلها فيما بعد ويكوّنان سِمَتها البارزة، وتكمن هذه الملامح في أمرين: أولهما: هو الوصف الذي يبدو دقيقًا وتفصيليًا للقرية التي تجري أحداث الرواية فيها وبقاؤها على الرغم من ذلك قرية مفتقرة إلى خصوصية متميزة، "وهذا الطريق هو وحده الذي يصل، على كل حال، مدن الشمال الصغيرة بعضها ببعض، ضيق قليلًا لكنه يفي بما عليه، وتتناثر من حوله، بعد اجتياز الحي الغربي بالطبع، بعض البيوت وحقول منبسطة من الجهتين بيضاء في فرائها الثلجي، على مدّ البصر لكن يتخلل الجهة الشمالية منه دغل يتصل بالهضبة التي تستقر عليها القرية"][5 أو: "البيوت متصلة على طول الزقاق من الجهتين، كما هي حال بيوت الحي الغربي بعامة، بحيث يستطيع شخص أو حيوان أن يعبر المسافة كلها متنقلًا من سطح إلى سطح،وكانت ثمةفواصللا يؤبه لها، ويمكن مجاوزتها بقفزة صبي"][6 وهكذا، وكأن بركات يريد الإيحاء بأن المكان الذي يحتوي الأحداث مكان ولا مكان في آن واحد طالما ظلت كردستان رقعة لا تمتلك كينونتها الذاتية وكيانها الخاص، وقد أدى هذا الإحساس بانعدام الكيان إلى الإحساس بانعدام الذات، وهو الأمر الثاني الممثل لملامح اللامألوف في هذه الرواية.

لقد ركز سليم بركات الشعور بانعدام الذات في الاسم الذي اختاره لأهم شخصيات روايته وهو "الملا بيناف بن كوجري". فمن صُلْب بيناف، الذي يعني في العربية مَن لا اسم له، ابن كوجري، الذي يعني مَن لا استقرار له أو المتنقِّل، ومن أم أسمها: برينا، أي الجرح، ولد بيكاس( بيكه س) الذي يعني الوحيد أو مَن لا أهل له وهو الذي بُنيت الرواية عليه، فهذه أسماء مصاغة بحيث تسهم دلالاتها في تضبيب شخوص أصحابها، ويلتقي بذلك اللامألوفان: المكان والإنسان لكي يغيرا رتابة الوضع ونمطيته.

ويمثل بيكاس العنصر الذي يقلب الأمور رأسًا على عقب ويصيبها بهزة عنيفة منذ اللحظة الأولى لولادته، فقد كان مولودًا عجيبًا وخارقًا، ولد ونما وتزوج واختفى في خلال يوم واحد، وقد كان غريبًا في قدرته على الإدراك وتفتُّح بصيرته وإحاطته التامة بمجريات الأحداث، بل إن هذه الإحاطة كانت من نصيبه العقلي منذ أن كان نطفة، وقد كان بركات بارعًا في أن يداول الفكرة بين هذه النطفة "الحيوان"][7 في تداعياتها وكشفها عن معرفتها العميقة بتاريخها وموجبات بقائها وكمالها والحقيقة الإنسانية العامة وبين باذر هذه النطفة، الملا بيناف، ذي الوجود غير المحدد، وهذه النطفة هي التي صارت بيكاس العجيب الذي أنجب بدوره وليدًا حمل اسمه فكان بيكاس الثاني وشاكله في الغرابة، فقد ولد هو الآخر ونما واختفى في يوم واحد، وقد صار هذا الاختفاء عنصرًا أصيلًا في هذه السلسلة ولم يقتصر على بيكاس الأول وابنه (أو شبيهه) بل شمل الملا بيناف أيضًا، والد بيكاس الأول، الذي لم يعد له الحضور "المادي" الذي كان له منذ أن دفن مخدة على أنها جثة ابنه بيكاس][8 تهرُّبًا من الوضع الغريب الذي رافق مولده.

ولئن أوحى المحيطون ببيكاس إلى الآخرين أنه مات وأنهم قاموا بالشعائر اللازمة لتصديق هذا الزعم فإن بيكاس نفسه وأهل بيته كانوا يعرفون أن الحقيقة غير ذلك وأن "الحق" مخفيٌّ أو مختفٍ، وكان هذا الحق يتمثل ببيكاس بالنسبة إلى الأسرة التي جهدت في إخفاء أمره، ويتمثل بالنسبة إلى بيكاس في الدفتر الأزرق الذي ورثه أبوه الملا بيناف وحوى حسابات قديمة. وقد كرّس بيكاس وجوده لإنجاز مهمته الجوهرية وهي أخذ هذا الدفتر وإعادة ما فيه - أي الحق التاريخي- إلى نصابه، وصارت حياته وتنفيذ هذه المهمة أمرين متلازمين لديه.

بيد أن بيكاس لم يشأ لتحقيق غايته هذه أن يسلك مسلكًا عنيفًا، ورأى أن من الحكمة أن يلج في الأمور بالحسنى وأن يتراءى بين آونة وأخرى لمن يتلمّس فيه تفهّمًا وإدراكًا لسرّ وجوده وإمكانيةً لتقبّل ما كان يدور في عقله، وإيجاد الأرضية المشتركة في التفهم خطوة أساسية فيما وطّن نفسه عليه، فقد كان، طبقًا لإحاطته التامة بما جرى، على بيّنةٍ من أن بني قومه وقفوا بحزم في وجه الاحتلال الفرنسي لسوريا، "أما الأكراد فكانوا متزمتين دينيًا، ويرون في الفرنسي كافرًا نجسًا، يأكل لحم الخنزير ويسفّه دينهم، فاستعصوا في التعامل معهم" ][9، ثم إنهم تملكوا السلاح: "كانت وطأة البنادق وطأة صلبة على أكراد الشمال، فتوزعوا على قرى بعيدة، قبل أن يجدوا منفذًا إلى استيراد البنادق التركية، عبر المهربين، فيحصّنوا الشمال كله" ][10، وعلى هذا فإن الكرد تمتعوا بالإرادة الصلبة وامتلكوا السلاح إلا أنهم كانوا بحاجة إلى الفكر الذي يعزز إرادتهم ويسدد سلاحهم تسديدًا قويمًا، ولا يكون هذا الفكر مبلورًا وفعّالًا بغير التاريخ (الدفتر الأزرق) الذي حوى حسابات الحقوق، ولهذا حين ناقش بيكاس أباه – يوم دفنت المخدة على أنها هو – بشأن الأرقام الواردة في الدفتر ولم يقنع بإجابات أبيه قال: "لا يا أبي، المسألة أن المسافة ضاقت ما بين القريتين، فابتسم الأب: لم أسمع أن أحدًا بنى بيتًا واحدًا في أيٍّ من القريتين، فكيف تضيق المسافة؟ *تقترب القريتان إحداهما من الأخرى ردّ بيكاس، وأضاف: سأباعد بينهما لتعود المسافة إلى حالها الأولى، يلزم الأمر أن أعيد كتابة نصف هذا الدفترمن جديد، بافتراض ما كان ينبغي أن تكون الأرقام عليه، سأستعيره لا أكثر، عليَّ إعادة ترتيب تلك المسافة مسترشدًا بالأرقام المدونة هنا، سأجعلها تتسع لنا دون استنادٍ إلى تقدير خاطئ لِمَا جرى فيها"11][،

وسواء كانت دلالة بيكاس شخصًا أو رمزًا لطليعة أو حزبًا فإنها تمتزج عادة بالقلب الذي يحتويه الصدر والذي يمثل منبع الشعور والإحساس لدى الشعوب جميعا ومنها الشعوب الشرقية.
وقد عانى الكرد من الشعور بعدم الاستقرار ومرارة الحاجة إلى الكيان المحدد الثابت الذي يشيع الاطمئنان، وهذا القلق "الوجداني" يظل ماثلًا طالما كان الكيان مغيّبًا، ومن ثم فإن المرء يكون في ارتحالٍ معنويٍّ أو ماديٍّ مستمر، و"كوجري"- أي المتنقِّل أو المرتحل أو الذي لا وطن له – عميقٌ ومتجذِّرٌ في نفوس الناس ومستقر في صدورهم، وهم الذين كثَّفهم سليم بركات في شخص الملا بيناف – أي مَن لا اسم له كما ذكرنا – الذي أورثه ولدَه بيكاس ونقله بدوره عبر زواجه بـ "سينَم" إلى ولده بيكاس الثاني. و "سينَم" – أي صدري – مثلٌ للصدر الذي استوعب الفكرة واحتواها وتبنّاها وكفل لها الديمومة، ولم يكن صدر أبلهٍ على الرغم من أن بركات كان يلحق بـ "سينم" صفة البلهاء دائمًا بل كان صدر الواعي المدرك العارف بما جرى وبما ينبغي أن يكون مسار الأمر عليه، غير أن سليم بركات أراد بوصفه ذاك أن يعكس نعت الآخرين للمغامرين الأوائل وظنونهم السيئة فيهم، وأما مَن كان يتفاعل أو يتعاطف معهم فإنه كان يرى في حامل الفكرة رجلًا حقيقيًّاً، ولهذا فإن "سينم" كانت تنعت بيكاس بأنه ديكٌ، وهي الصفة ذاتها التي استعملها بركات في سيرة الصبا حين قال: "تُنيمنا الحكومات وتوقظنا الدِّيَكة" ][12، وتتجاوز هذه التسمية دلالتها المألوفة في المجتمع الكردي على الفحولة إلى مَن هو متفرِّدٌ بين بني قومه، مَن يعرف سرَّ وجوده ويدرك هدفه و" يبذر" ما يراه حقًّا ويسعى إلى إيجاد جيلٍ يشاكله ويؤمن بما يؤمن هو به. ومن هنا وُلِد لهذا الديك "بيكاس" ولَدٌ حمل اسمه وطبيعته وغرابته وهدفه هو "بيكاس الثاني"!

وبرفقة هذه الفئة الداعية إلى إعادة الحق المحفوظ تاريخيًّا في (الدفتر الأزرق)، الذي ورثه الملا بيناف عن أبيه وجدِّه وانتقل إلى ابنه بيكاس، يفيض الإحساس بالأمن والسلام، ولربما أراد سليم بركات الإيحاء بهذا المعنى حين صوّر الزرازير هاربةً من كرزو، أخي بيكاس الأول، المولع باصطيادها، ومتجمِّعةً تحت عباءة بيكاس لشعورها معه بالأمان ومنطلقةً زهوًا لشعورها معه بالحرية. ][13

ولربما تأتّى هذا الشعور من حقيقة أن الحالة التي يصورها بركات حالة ذهنية خالصة، بمعنى أن بيكاس لم يكن في حقيقة أمره مولودًا مرَّ بالأطوار الغريبة ولم يكن له وجود فعلي ملموس، غير أن الكاتب وظّفه لكي يعبر من خلاله عما كان يدور في الذاكرة الجماعية بشأن الأماني العامة وعلى نحوٍ تراكمي زمنًا بعد زمن.

ولقد يروق للمرء أن يجد في إشارةٍ ما عارضةٍ تعزيزًا لهذا الظن، أي أن يكون بيكاس ممثلاً للذاكرة وحسب، وتكمن هذه الإشارة في عدم عودة الأب، الملا بيناف، إلى داره إثر اللقاء الذي تم بينه وبين ابنه بيكاس ساعة دفن المخدة وفي انشغال أسرته بأمره وبأمر "المهزلة" – كما يسميها الكاتب – التي تعرضت لها، وكان مما استبطنه من مناجاة الأم لنفسها:" هيـه، سينسون، إنها حكاية من مخيّلتهم، لا من رحِمها هي – رحِم برينا ابنة عفدي ساري" ][14، وليس المراد بالمخيّلة ههنا فيما أحسب إلا الذاكرة التي اغتنتْ بتراكماتها الزمنية والتي يُلتَفتُ إليها بذكر اسم برينا – أي الجرح – مقرونًا باسم أبيها، بل إن بيكاس صرّح حين لم يكن إلا حيوانًا منويًّا أنه الذاكرة: "ذيله الرقيق يرتطم، في انزلاقه، بجثث كثيرة لم تزل ساخنة بعد، "حمير" يهمس، محتنقًا من سرعته: يسمونني الحيوان وأنا ذاكرتهم كلها" ][15.

ولعلي أزعم أن هذه الذاكرة؛ وإن كانت جماعية، إلا أنها ذاكرة الملا بيناف نفسه، وإن كونها ذاكرة إنسان لا اسمَ له يكفي للتدليل على جماعيتها، وقد ألبسَ بركات هذه الذاكرة هيئة الإنسان وتعاملَ معها على أنها كيان منفصل له وجوده الخاص، وهي الأنسنة ذاتها التي اتبعها في تعامله مع الموجودات الأخرى كالأرض والحجر والطير والشجر. وما دام بيكاس عبارة عن ذاكرة أبيه الملا بيناف فإن من الطبيعي أن يصير الاثنان متماثلين، بل متطابقين، في ملامحهما المرسومة، فحينما التقى الملا بيناف بابنه بيكاس؛ أو لنقل بذاكرته، تفرَّس فيه مليّاً ورأى أن وجه ابنه إنما هو وجهه هو، "لقد تغير الوجه كثيرًا عليه، لكنه( يرى) فيه شيئًا ما لا ينساه؛ أهو السخرية البادية من أطراف العينين؟ أم الحاجبان المتصلان بانحدارٍ فوق قاعدة الأنف؟ أم هو الأنف المحدب كالذي يحمله الملا في وجهه؟ كلها معًا، إنه وجه الأب نفسه برغم القناع اللوني" ][16

وينحسر العجب في هذه الحال من كيفية وصول الدفتر الأزرق إلى بيكاس وهو الذي كان في حوزة الأب وبصحبته حتى الصباح" ][17 طالما ظننّا أن الاثنين شخص واحد، وأن لحظة الالتقاء بينهما ما هي إلا لحظة مكاشفة الإنسان لنفسه وما يصاحب هذه المكاشفة من صراعٍ مع الذات قدّمه بركات على أنه اختلاف الرؤية بين رجلين، وقد آلت هذه اللحظة وما رافقها إلى موقف مزدوج؛ التظاهر بالتخلي عن الذاكرة (دفن المخدة) في العلن، وانتصار الذاكرة في السر وبقاؤها ممثلةً ببيكاس العنصر المهيمن المكشوف على صفحات الرواية واختفاء الملا بيناف من الواجهة منذ أن قال لبيكاس: "سنفعلها معًا، أنا آتٍ معك" ][18.

إن رواية "فقهاء الظلام" تعكس مرحلةَ تأمّلِ الحالة التي كان الكرد عليها والتي كانت بحاجة إلى إعدادٍ فكريٍّ لتغييرها، ويتضح هذا الأمر من خلال: مناقشاتِ بيكاس مع أفراد أسرته إثْر ولادته والتقائه بهم بين آونة وأخرى بعد اختفائه، وبناءِ الموقف (الزواج)، ومنحِ الموقف رسوخًا وديمومةً وشيوعًا (الإنجاب)، وقد كرّس سليم بركات، فيما أرجِّح، روايته الموسومة بـ" الريش" لبيان الهدف من بناء الموقف، ولقد استلهم لتأطير مرماه هذا الحكاية الأسطورية الكردية "مَمْ وزين"، وهي حكاية غرامية نقل منها بركات غرام "مم" بـ "زين" إلى غرامه بالأرض، وعزز هذا الوله باختيار اسم دالٍّ للأب هو آزاد، أي الحر، لتصير دلالة التسمية العاشق الحر! ولكن هذه التسمية تقوم على تناقضٍ ما، يدركه سليم بركات ويقصده، وهو أن هذا الذي يؤسس روايته عليه عاشق فعلًا لأرضه ولكنه ليس حرًا، ثم إن مَمْ آزاد يشبه الملا بيناف إلى حدٍّ ما فيما يتعلق بعمومية الاسم وعدم امتلاكه لخصوصية فردية معينة، فـ "مم" الذي يستثير معنى العاشق بين الكرد يمكن أن يطلق على كل مَن يجد في قلبه لذْعةً تجاه "شيءٍ" ما، كأن يكون عاشقًا لامرأةٍ أو مالٍ أو وطنٍ أو ابن، ومن ثم يلتقي الاسمان: الملا بيناف، في رواية فقهاء الظلام، ومَمْ، في رواية الريش، في إمكان إطلاقهما أو انطباقهما، على كل إنسان في المجتمع الكردي. وإن افتقار مَمْ وأمثاله إلى الحرية أمر مبثوث في ثنايا الرواية، من ذلك مثلًا:

"وماذا كانت التهمة الموجهة إلى رجلٍ حاول تطويق الغضب الكردي بعدما أفلتَ الزمام من أتاتورك؟كنتَ تحضر جلسات المجلس، في أنقرة، بالزي الكردي" *][19.*

و"تمنح وزارة الداخلية حق تعديل أماكن سكنى الشعوب بحسب ارتباطها بالثقافة التركية، والأكراد لم يكونوا مرتبطين بتلك الثقافة، لذلك كان على موتاهم أن ينتقلوا، من قبورهم، في ولاية بَدْلِيْسْ حائرين". ][20

و"فاللغة الكردية ممنوعة، و(رَمُّو كْرِيْفْ) ملقىً في سجن الحَسَكَة لأنه اقتنى كتبًاً بالكردية في الصرف وفي التفسير، فوشى به جاره..." *][21

ولقد كان مَمْ عل بيّنة من التقييد الذي ينوء به، وكانت تتجاذبه نوازع مختلفة وكان أشدّها إثارةً له هو تساؤله عن سرّ وجوده في ذلك البيت الواسع 22][ الذي يرمز إلى الأرض التي يعيش عليها، ولقد استنزفت منه هذه المعاناة ستة أعوامٍ صوّرها سليم بركات على أنها كانت رحلة إلى جزيرة قبرص، ولكنها كانت رحلة داخل النفس أتاحت لـ"مَمْ" أن يتبصّر الوقائع على نحوٍ جليّ. فقد كان إبّان هذه الرحلة في دوّامة المعرفة واللامعرفة، ولئن أدرك وجوده الفيزيائي فإنه لم يمتلك الدليل على وجوده المعنوي، ولذلك قال في فكاهة للرجل ذي المعطف: " ليس لي اسمٌ، فأجابني: ليَكُنْ اسمك – إذاً – مَمْ بن آزاد" [23، ولم يكن عبثًا أن يكون كلُّ ما نعرفه عن محدّثه لا يزيد على أنه رجل ذو معطف، وأن يوكل به أربعة أشخاص مبهَمون ليوصلوه إلى مبهَمٍ آخر هو "الرجل الكبير" وأن يظلَّ في بحثٍ لا مُجدٍ عنه، وكلما تراءى له أنه بلغ أو سيبلغ ما يريد، أي الالتقاء بالرجل الكبير، انقطعت به السبل وعاد إلى منطلقه الأول، وفي خضمِّ هذا اللف الذي طوّقه أحسَّ أن حواراته مع الآخرين ليس إلا حماقة، و"لذلك اتخذ قرارًا بالانصراف من المكان، برغم ما يشغلني من أسئلة وحَيْرة في الآن ذاته كأنني أحاول الخروج من مصيدة"][24.

وبدا لـ "مَمْ"، وهو لمّا يدرك المغزى من وجوده بعدُ، أن عجزه عن إيجاد الأجوبة الشافية لتساؤلاته يضغط على ذاكرته، ولهذا صار يفكر في الانتحار وفي المكان الذي سيدفن نفسه فيه، ووقع اختياره على مكان له دلالته: رقعة رملية تلي حديقة بيته الخلفية، إنه إذ لم يستطع أن يمتلك هذه الأرض فلا بأس إذن أن تمتلكه هي وتضمَّه إليها! غير أن هذه الرقعة التي اختارها خيّبتْ رجاءه وغدتْ كالصوان لا تستجيب لرغبته على الرغم من وسائل اللِّيْن والقوة التي اصطنعها معها لتحقيق رغبته،وجاء رفض الأرض لما كان يريده من إدراكها لحقيقة دافعه إلى دفن نفسه فيها وهو دافع التهرّب مما يجب عليه أن يفعله، ولهذا فإنها أشعرتْه أنها تأبى أن تحتضن منهزمًا! " أنحني على الأرض تلك، دون حيلةٍ، هامسًا بين أسناني التي تآكلت مبكرًا: بالله عليكِ امنحيني قبرًا، فتردّ الأرض الصلدة: وما حاجتك إلى قبر؟ فيزداد غضبي، كيف لكِ أن تعرفي حاجاتي، فتردّ: بالقدْر الذي تعرف أنتَ حاجاتي، فاستخفُّ: أنتِ تنتظرين، وأنا سأخبرك بحاجاتك فيما بعد، فتردّ سائلةً: وما الذي أنتظره؟ فأقول: مَوتي، فتردُّ: لا، أنتظر بحثكَ عن قبر، فأجيب: وها أنا أبحثُ عن قبرٍ، ألا ترين؟ فتردّ: بل تبحث عن شهوتك... القبر هو الذي يبحث عنك، ويلتقيك في المفترق الصغير الذي تتجرد فيه من شهوة بحثكَ عن قبر" ][25. ولقد كان لهذا الحوار تأثيره ودوره الكبيران في أن "يعثر" مَمْ على نفسه وعلى سرّ وجوده فأقدم على خطوته الحاسمة.

وتتمثل هذه الخطوة في استجابته للسحر المنبعث من عويل بنات آوى ونزوله من سطح البيت الذي يقطنه ليتّجه إلى حيث تجمعاتها في الحقول الشمالية لمدينة القامشلي، وقد تحوّر هيكل مَمْ منذ لحظة خروجه فصار يدبّ خفيفًا ورهيفًا على أربع، ومكّنتْه صيرورته ابنَ آوى، ][26، من أن يقترب من الأرض اقترابًا أشد، إذ هيّأت هذه الحالة لحواسه الأساسية (العين والأذن والأنف) فضلًا عن يديه وقدميه أن تتحسّس هموم الأرض وعذوبتها على نحوٍ جليّ وناصع، وأصبح ثمّة أدقَّ بصرًا وأعمقَ إدراكًا بحقائق الأشياء، وقد تراءىله وهو في هذه الحالة أنه اكتشف حقيقة الظلام الذي عليه أن يبدّده، كما تفعل بنات آوى وهي تمارس لعبها وحياتها ونشاطها في الليل، وإن هذا الظلام صار قرين وجوده الآن، "كل شيء خفيف من حول مَمْ، رئتان قويتان، والليل قوي، وهو بطبعه الذي بات خالياً من أية معرفة إلا معرفة حواسه يحدد لنفسه – في حذر – مداخل إلى الظلام الذي لا يعرف غيره الآن، كأنما لم يشهد النهار، قط ، من قبل"][27.

على أن هذا التحول من هيئة آدمي إلى هيئة ابن آوى كان يعكس رغبة مَمْ في التخلص من الخطة التي رسمها أبوه، حمدي آزاد، له، ولهذا كان يردد في تداعياته، التي اختلطت أزمنتها في خلال هذا الفصل الخاص بتحوّره، "لماذا أنا وليس دينو؟" ][28، وبدافع من الرغبة ذاتها تحوّل مرة أخرى إلى طير: "يقينًا، وأنا في هيئة طير، لم أكن لأثير رِيْبتهما (أعني أبي وأميره) وهما جالسان على حجرين رمليين قرب شجرة توت

][29، ولكن لم تتحقق رغبة مَمْ وانتصرت إرادة أبيه فألفى نفسه في دوّامة البحث عن "الرجل الكبير" طوال ست سنوات في جزيرة قبرص، وقد أعدّه أبوه لهذه المهمة، أو لمهمة ذات شأن، حين كان يريد منه أن يقطع الزمن ويتجاوز سنَّه وقدرتَه، "و(مَمْ) متعوِّدٌ انكسارَه هذا، كلما حثّه أبوه على الإسراع من خلفه، في سوق المدينة أو في الحقول" ][30، ولم يكن حمدي آزاد ليصحب ابنه إلا لكي يجعل منه قلِقاً" ][31، والقلَق هو الأساس الذي لا ينجح مَمْ بدونه في تحقيق المهمة التي رسمها له أبوه.

وإذ كانت هذه المهمة غير صادرة عن إرادة مَمْ فلربما اعتقدَ أن لأخيه دينو يدًا في توجيه فكر أبيه إلى هذه الوِجْهة، فقد انطوى على الظن بأن أباه كان يستحيي من دينو وأن حوارًا خفيًّا كان يدور بينهما أو بالأحرى أن تواطؤًا خفيًّا كان يربطهما، يقول مَمْ: "أستطيع الزعم لنفسي أن كل الذي كان يقوله أبي – في المساءات التي تشتعل لفافات جلّاسه فيها بانتظام، داخل البيت أو في ساحة الدار- إنما كان لدينو شأنٌ فيه" 32][، ومع ذلك فإنه مضى في تنفيذ الأمر الموكل به، أي الالتقاء بالرجل الكبير، وصبر مدة طويلة دون أن يستطيع أن يلتقي به تحقيقاً لرغبة أبيه.

وعلى حين يُفْهمنا سليم بركات على لسان مَمْ أن بطله قام برحلته، دون جدوى بالطبع، فإنه يسرد الحكاية على لسان بطله الآخر، دينو، على نحو مغاير، ويبين لنا أن مَمْ مات قبل سفره، ويمكن أن نفهم هذا المعنى من مثل قوله: "كان على تحريات صغيرة من هذا القبيل أن تُستنفد، برغم معرفة دينو وأبيه معًا أن مَمْ –الذي لم تختف قطعة واحدة من ملابسه، مثلًا – لم يكن في حاجة إلى تدبير هروبٍ من العائلة، أو من نفسه" ][33.

ولكي تستقيم أو تتساوق روايتا مم و دينو للأحداث لا بد من النظر إلى مَمْ على أنه عزمَ أمره، إثْر حواره مع الأرض وما تبع ذلك الحوار من صحوة على الإلتحاق بالمقاتلين الكرد الذين كنّى عنهم سليم بركات بـ "بنات آوى"، وهي تسمية لها دلالتها، فمن صفات بنات آوى أن تُظهر حيطة وحذرًا حتى تنقضّ على فريستها، وتلتقي هذه الصفة مع "قُطّاع الطرق" التي كان مناوئو الكرد يشيعونها عن مقاتليهم! وإن الذي حدث هو أن مَمْ اُقتُنِصَ بالفِخاخ التي كان السوريون والأتراك يضعونها لمنع التسلل، وقد أُصيب حمدي آزاد بموت ابنه بنكسةٍ في آماله، وهي آمال مم أيضاً، فقد كان الأب يهيئ ابنه للالتقاء بـ "الرجل الكبير" الذي يمكن تفسيره على أنه كردستان، أو أنه بهرام جور الذي طارد الغزال حتى دخل وراءه إلى الكهف الذي لم يخرج منه، في إشارةٍ إلى موته في سبيل هدفه، ولكن حمدي آزاد كان يتمنى مصيرًا غير مصير بهرام جور لابنه مَمْ، وأُصيبت أمنيته في الصميم حينما مات مَمْ قبل موعد السفر، ولهذا حاول بعض معزّيه أن يُبْقوا جذوة الأمل في نفسه حين لفتوا انتباهه إلى ابنه دينو ليكون بديلًا عن مَمْ في تحقيق حلمه، بل إن دينو نفسه صار يتمنى لو أنه هُيِّئَ بدلاً من مَمْ للذهاب إلى كردستان: "إنني أتمنى الآن، بعد أيام قليلة من دفن مَمْ لو أن أبي هيّأني، بدلاً من توأمي، للذهاب إلى كردستان، وإذ ألمحَ (قادر حمّو) إلى شيءٍ من هذا أمام أبي، البارحة، في محاولةٍ لمواساته: عندك دينو يا سيد حمدي، عندك رجل – فتأمّلني أبي من فوق لحيته الصهباء الطليقة – عاجلتُ زائرنا سائلًا أن يريني صورة سمكو آغاد، ظل أبي هادئاً البارحة" ][34.

ولم يكن حمدي بحاجة إلى مثل هذا التنبيه، ذلك أن الاستسلام لليأس عنده – كما افترض – يعني الانتهاء، ولئن خبا أمله الأول مَمْ ، فإن أملًا آخر هو دينو كان أمامه، وقد بدا له أن الأمل يمثل صفقة بوصفها يقينًا مجرَّدًا، أما مَن يقوم على هذه الصفقة فإنهم أفرادٌ يرتبطون وقتًا معينًا بالحياة وينتهون، فالصفقة – الأمل– دائمة، والأفراد – الزمن– زائلون، ولعل هذا هو ما يشير إليه بركات بقوله: "ولماذا لا يكون الوقت صفقة، على أية حال؟ إن حمدي لن يخلط الوقت والصفقة، فلقد تخلّف الوقت، باقيًا في المشرحة الكئيبة، بعد خروج جثة مَمْ، أما الصفقة كيقين مجرّد، فقد انطلقت لتحيا في امتلاء، مصفِّرةً لحمدي من مكان عالٍ في أعماقه" ][35، ولهذا استعاد دينو على نحوٍ ما الدورة التي مرَّ بها أخوه: " إلى أين أنت ذاهب يا دينو؟ إلى كردستان، ردَّ دينو، وهو يأخذ نفَسًا عميقًا كأنما يستعدُّ لمشقّاتٍ ما" ][36، وقد دار هذا الحوار بين دينو و مَمْ الذي صار يتراءى لأخيه بعد موته، وغدا عزْمُ دينو على الذهاب إلى كردستان مجسِّدًا لتجديد الأمل.

غير أن هذا التأويل سيأخذ منحىً آخر إذا نظرنا إلى مَمْ ودينو نظرة مغايرة لا نستسلم فيها للطريقة الظاهرية التي عرضهما الكاتب بها، فالموت الذي يُفترض فيه أنه يفرِّق بين الناس ويفصل الميت عن الآخرين لم يستطع أن يفرّق بين التوأمين: دينو و مَمْ، فهل كان التوأمان شخصًا واحدًا، أي أن دينو هو مَمْ وأن مَمْ هو دينو؟

أغلب الظن أن الاثنين في هذه الرواية شخص واحد، وقد بثّ سليم بركات في ثنايا روايته إشارات شتى تقود إلى هذا الظن، ولعل الاسم الذي اختاره لكلٍ من الأخوين يمثل أولى هذه الإشارات، فـ"مَمْ" في الحكاية الشعبية الشائعة في المجتمع الكردي عاشق يُضاهي عشقه وألمه الذي لقيه بسبب حبه ما كان يجده مجنون ليلى في الموروث العربي، فأصبحت التسمية به دالة على "حالة" العشق بدلًا من دلالتها على "إشارة" الاسم إلى شخص معين.

وأما دينو الذي يعني المجنون كما ذكر بركات نفسه ][37 فإنه شكْلٌ محوَّرٌ لكلمة "دِين" أو "ديوانه" الكردية التي تُطلق عادة على مَن جُنَّ بسبب العشق أو تظاهر بالجنون بغض النظر عن موضوع عشقه، وهذا يعني فيما أحسب أن سليم بركات استغل ارتباطَ الاسم بالعشق، أي مَمْ؛ مرةً؛ والصفةَ التي تلازم العاشق في حالته الوجدانية؛ أي الجنون أو دينو؛ مرةً ثانية، وحين نقرن العاشق بصفته يصير لدينا اسم واحد هو: مَمْ المجنون عشقًا، أو: العاشق المجنون، بيد أن الكاتب فصلهما عن بعضهما فصلًا ظاهريًّا، وعلى الرغم من أن مَمْ يصبح والحال هذه؛ الاسمَ الأولَ وتتبعه صفته التي هي دينو مما يقتضي القول إن ترتيب الاسم ينبغي أن يكون هكذا: مَمْ دينو، جريًا على النسق الكردي المتبع: مَمْ ديوانه، مثلًا، إلا أن سليم بركات قلب الأمر وبنى جزئيات روايته على نحوٍ صار معه دينو الشخصية العيانية الحقيقية وأصبح مَمْ صوتها الداخلي وضميرها وممثلًا لآمالها.

ومن هنا تم تكريس القسم المخصص لـ"مَمْ" من الرواية لتبيان تطلعات دينو ومعاناته وأحلامه، ولكن لا على أنها جزء من تكوين دينو مباشرة بل على أنها أفكارٌ لفتى آخر اسمه مَمْ، وما دام مَمْ يمثل حلمًا، والحلم يفتقر إلى الكينونة المادية، فإن هذا القسم خلا من وصف مَمْ جسمانيًا، وتم في القسم المتعلق بدينو من الرواية سرد تفصيلٍ لنشاطاته اليومية المعتادة من قبيل مشاركته أباه في مجالسه الليلية مع أصحابه ومصاحبته له في السوق وانضمامه إلى أفراد العائلة وقت تناول الطعام وحواراته مع أخواته ومراجعته لمكاتب السفر ومراكز الشرطة والمستشفيات... إلخ، ولهذا سرَّب سليم بركات في صفحات مختلفة من الرواية نُتفًا من الملامح الجسمانية لدينو وخاصة لون عينيه ونحافته: "وكلما قطع الشاب -أي دينو-؛ ذو العينين الخضراوين؛ خمسين مترًا؛ فيما طوَّق خصرَه النحيل بيديه مستطلعًا..." *][38

ومما يعزز الظن بأن مَمْ ودينو شخصية واحدة أننا لا نجد حوارًا مباشرًا بينهما إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية حيث مات مَمْ، وهو حوار لا يتعدى كونه رؤيا أو خيالًا، وفيما عدا ذلك فإن تردد اسم كل واحدٍ منهما على لسان الآخر كان من طريق التداعي، أو عن طريق سرد سليم بركات لِما كان يحدث بينهما، ومن هذين الطريقين نقف على بعض التفصيلات أو الدلائل الإضافية بشأن وحدة الاثنين، من ذلك أن مَمْ كان يتمنى عندما كان في جزيرة قبرص أن يكون توأمه دينو معه على الرغم من أن وجودهما معًا يثير بينهما المشاحنات، "لكن مشاحنات مفترضة أفضل، على أية حال، من انتظارٍ على هذا النحو، ومن يدري فلربما صرنا مطيعين، يهادن أحدنا الآخر، كأن يقول لي مثلًا: لم يعد بقاؤنا مهمًا يا مَمْ فلنرجع؛ ولأنني مطيع؛ بحسب افتراضي؛ فإنما أنكبُّ على جمع كل ما تقع يداي عليه من ثياب..." *][39

وحين افترض أن يكون دينو هو المطيع قال له: "لماذا لا تتزوج يا دينو؟ وأضيف: صاحبة الحذاء العسكري" *][40، وافتراض طاعة أحدهما للآخر هو في الواقع استسرارٌ لصراع بين نزعتين في قلب واحد وتضحيةٌ بإحداهما يمثلها التخلي عن العناد الذي يتصف به التوأمان، ومن التداعيات هذه أن مَمْ كان يظن نفسه طائرًا تحت نظرات أخيه: "ولم تكن بي رغبة لأرتفع عن الأرض أكثر من شبر؛ فأنا مفتون ببقائي أسيرًا تحت نظرات أخي؛ في تحليقي بجناحين قصيرين، كأنما أنا وتوأمي دينو في مطاردة فكِهة: هو ابن آوى، ولي جناحا غرنوق ضعيف وجسم إوزة؛ لم يكن أخي يدركني؛ ولم أكن أنجو..." *][41.

وسرد الكاتب لنا طرفًا من هذه الحالة ولكن على أنه كان يراود دينو، فقد همس لنفسه في موقفٍ ما: "لن تسبقني يا مَمْ، لكنه لم يكن متأكدًا – بالطبع – من تهديده، لأنه كان يخوض السباق الغامض في مكانٍ ما من أعماقه بأطرافٍ أربعةٍ وليس بساقين آدميتين" *][42، وليست أعماقه غير مَمْ الذي صوره بركات وكأنه أصبح ابن آوى، كما مر بنا سابقًا، وإذ ظل دينو في هذه المعاناة الداخلية فإن أعماقه المتمثلة بمَمْ ظلت على حالها المضطرمة المحبوسة، وهذا هو الذي يفسر لنا قول بركات وهو ينفي أن يكون مَمْ قد أصبح ابن آوى أو أن يكون غادر موضعه: "كان امتحانًا حقيقيًّا أن لا ينزل مَمْ تلك الليالي الأربع، من فوق السطح، وهو يتشبث بالفراش، كل ليلة منها، بمخالبه، كاتمًا عويل ابن آوى في حنجرته التي عليها أن تجاري العويل البعيد لسربه في الحقول الغربية" *][43.

وقد روى دينو جانبًا من الواقعتين الآنفتين: التخلي عن العناد، وصيرورته ابن آوى مثل مَمْ، لأبيه بعد موت توأمه، وقد سردهما عليه على أنهما تراءتا له في أحلامه: " أبي؛ رأيتُ مَمْ مرتين في أحلامي، قبل أيام؛ كنا معاً في جزيرة قبرص؛ كان يقنعني أن أتزوج، ثم وقف كأنما يحتفظ لنفسه وحدها؛ ببقيةٍ من حلمه الذي يتردد فيه اسم ذات الحذاء العسكري؛ لا أتذكر تحديدًا أكان هذا الحلم هو الأول الذي رأيته، أم الحلم الذي كنت أتبعه فيه على يديَّ وقدميَّ معا، كان مَمْ مع أربعة رجال يطرقون بوابات البيوت سائلين عن شخصٍ ما؛ وأنا كنتُ أمشي على قدميَّ وساقيَّ؛ دائمًا أمشي على قدميَّ وساقيَّ؛ في أحلامي مع مَمْ يا أبي" *][44.

وهذا النص فيما يبدو لي واضح الدلالة على أن مَمْ هو ضمير دينو وأعماقه ودنياه الداخلية، ولكن سليم بركات فصلهما؛ لأغراض فنية بطبيعة الحال، وهو يعلم أنهما عبارة عن صوتين لشخص واحد، ولهذا فقد صار طبيعيًّا أن يُحِلَّ أحدَهما مكان الآخر في بعض الأمور التي مرَّت بنا، أو في كون مَمْ "موعودًا في صيف سنته الأخيرة هذه أن يعمل سائقًا على بيك آب يملكه شيرو بابان المنحوس"*][45، وأن يعزو هذا الوعد في مكان آخر إلى دينو حيث قال: "لكن دينو كان تعلَّم دون مهارة أن يقود بيك آب خاله؛ وكانت تلك القيادة كافي على أية حال، لأن يقرر شيرو بابان؛ رجل الحصادات الضخمة غير المحظوظ؛ تشغيله في موسم الحصاد كسائق"*46*][.

ولئن سلّمنا أن مَمْ هو ضمير دينو لأدركنا أن الرحلة التي قام بها ودورانه ستة أعوام بحثًا عن الرجل الكبير إنما كانت رحلة ذهنية؛ أو تفجرًا لرغبة دينو العميقة، وإن هذه الرغبة لم تجد طريقها إلى التنفيذ الفعلي إلا في الصفحات الأخيرة من الرواية، غير أن هذه الرحلة؛ وقد تم القيام بها أخيرًا؛ مختلفةٌ في الباعث عليها وفي هدفها عن الرحلة التي قام بها دينو داخليًّا ونقلها سليم بركات على أنها رحلة مَمْ، فأما الباعث فهو انهيار أعماق دينو: موت مَمْ، وأما الهدف فهو السلوّ عن مأساته والهرب من نفسه، أو هو الشعور بضرورة أن يقيم دينو ما انْهارَ وأن يرممه ثانية.

وبهذا تتسق الرحلتان: رحلة مَمْ "عقد العزم" ، ورحلة دينو "الإقدام والتنفيذ"، والرحلتان بطبيعة الحال ليستا سوى رحلة واحدة ولهما عُدّة واحدة، فقد فتح مَمْ بعد ذهابه إلى جزيرة قبرص حقيبته وأخرج منها ملابسه كلها فـ"عَلَتْ في قاعها المعتم بغتةً؛ ريشةٌ رمادية صغيرة دارت حول نفسها ثم تمايلت في انحدارها لتستقر على القاع ذي الثنايا الظاهرة في خشونة" ][47، وراح يتساءل عمن وضع هذه الريشة بين ثيابه؛ وهو التساؤل ذاته الذي عرضه دينو حين قرر السفر ليبتعد بعد موت مَمْ عن المكان الذي كان يجمع بينهما: "للمرة الثانية؛ هذا اليوم؛ أجمع ثيابي القليلة في هذه الحقيبة ذات القاع الخشن؛ وها أنا إذ أحزمها الآن قبيل الظهيرة؛ أعيد الريشة الرمادية الصغيرة التي تطايرت من قبل إلى مكانها في قاع الحقيبة المعتم؛ لا أعرف من أين سقطت تلك الريشة بين ثيابي المحزومة في الحقيبة؛ لكنها علت بغتةً أمام عينيَّ حين فتح أبي الحقيبة غاضبًا " ][48.

ومن الملاحظ أن الواقعتين متطابقتان إلى حدٍّ كبير في أجزائهما، والريشة التي تساءل الاثنان؛ أو بالأحرى أعاد دينو التساؤل عمّن وضعها في الحقيبة هي تلك التي التقطها دينو نفسه إثْر لحظةٍ من التأمل" وقد عمد من فوره إلى حقيبة ثيابه ذات القاع الخشن وألقى الريشة فيها ثم أحكم إغلاقها" ][49.

فدينو- إذن – هو الشخصية الجوهرية والمحور الذي تدور الرواية عليه، ولكن سليم بركات وجّه عنايته إلى دواخل هذه الشخصية واستبطن آمالها واستجمع تفصيلاتها ليهبها هيكلًا آدميًّا اسمه مَمْ وليجعله ثمة جزءًا من عنوان الرواية: "البراهين التي نسيها مَمْ آزاد في نزهته المضحكة إلى هناك"؛ وأنسنة الضمير؛ أو الأعماق؛ وفصله عن صاحبه هو الإجراء ذاته الذي اتبعه في "فقهاء الظلام" حين فصل بين الملا بيناف وذاكرته بيكاس.

إن مَمْ لا يمتلك وجودًا ماديًّا في رواية الريش، وإذ أورد الكاتب نسبه هكذا: مَمْ آزاد؛ فإنه رمى – استئناسًا بكون آزاد اسم علم في اللغة الكردية لا لقبًا - إلى أن مَمْ الذي هو ضمير دينو في الرواية إنما هو ضمير أبيه في الوقت عينه؛ ليكفل بهذه الطريقة الإحاطة بضمير الكرد وأعماقهم كما أحاط من خلال بيكاس بذاكرتهم.

*ولقد رجحتُ من قبل أن هذه الرواية وُضِعتْ لرسم الهدف من بناء الموقف وما يرافقه من أحلام؛ ولكن الأحلام هذه أُصيبتْ بنكسة فاجعة كنّى عنها سليم بركات بـ "موت مَمْ"، وربما كانت هذه الفاجعة في 1975م وكانت صدمتها شديدة ووجيبها طاغيًا، ولهذا قال في آخر روايته: "كانت كل المحاورات التي تجري في البيوت وفي الشوارع وداخل الشخص الواحد مسموعة ذلك المساء لمن يريد أن يُصغي إليها"][50، وأصغى إليها كثيرون منهم سليم بركات الذي وعى منها ما دار داخل الشخص الواحد (دينو) وهو ذاته ما كان يدور داخل كل شخص، وأقام عليه بنيان هذه الرواية: الريش.

التدقيق اللغوي: ريم المطيري

د. عباس توفيق