الموضوع: ذاكرة الطباشير
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-10-2022, 12:53 AM
المشاركة 7
عبده فايز الزبيدي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: ذاكرة الطباشير
ذاكرة الطباشير(6):
[لن أحلَّ الواجب]
سألت زميلي (ح.ع.ذ) أحد طلابي، ونحن في أول ساحة المدرسة، عن( ع. ع.ذ) زميله في المتوسطة، فقال هو كما تحب أن تراه في خير. ثم زاد بقوله: كان شاطرا، صحيح؟قلت: عبقري، دخلنا أول المبنى وانقطع الحديث، فقد انشغلنا بالتوقيع وفتح مظاريف اللجان.
في حياة كل طالب ملامح معلم، وفي حياة كل معلم وجوه تلاميذ محنطة في ذاكرة الطباشير، ومن هؤلاء (ع.ع.ذ)، وكعادة التعليم الرتيب تسلمنا مع بداية العام الدراسي دفتر متابعة الغياب والواجبات.
وفي فاتحة كل حصة أتصفح الدفتر كي أذَكَّر الطلاب المتأخرين في تأدية واجباتهم المنزلية، ثم تتحرك عجلة الدروس.
أكمل الطلابُ واجباتهم، وأتمَّ المقصرَّ ما فاتهُ، إلا (ع.ع) ونحن على مشارف نهاية تقييم الفترة الأولى، وتشكل الواجبات 15% خمسة عشر في المئة من مجموع الدرجات، ولم يحصل منها شيئا.
جلست قبل طابور الصباح أسجل في سجل أعمال الدرجات، ووصلت للعبقري المهمل، فأبى قلمي أن يطيعني في كتابة الصفر، ربما كان يشعر من ملامسته لأصابعي، أني أحبُّ ذلك الطفل محبة الأب لصغيره. فطلبت من أحد الطلاب الذين يجرون في الساحة أن يناديه.
وقبل مجيئه كان معلم الرياضيات على يساري على مكتبه يفعل ما أفعلُ، فقال: أبا فائز! ماذا تريد منه؟ قلت: أتفاهم معه! ههههههههههههه.
حين وقف أمام مكتبي، بالكاد كنت أرى رأسه، فهو في سن الحادية عشرة، وجسمه نحيل، وقامته قصيرة. قلت: له يا بني كل زملائك سيأخذون الدرجة الكاملة في الواجبات، إلا أنتَ، هل ترضى أن تأخذ صفرا؟، فسكت.
فتدخل معلم الرياضيات يشتكي الحالَ نفسها، فقلت: يا فلان! هل ستحلُّ واجباتي وواجبات الأستاذ فلان؟، فقال بهدوءٍ عميقٍ: لا، يا أستاذ! فضحكت من تضارب الجسم النحيل الضعيف،والإجابة القوية أمام معلمي الإنجليزي والرياضيات. ثم أدنوته عن يميني، وأخذت أسأله بصوتٍ منخفض: طيب، ليشْ؟ عندك مشكلة؟. هزَّ رأسهُ بمعنى نعم. فقلت : قل لي، يمكن أساعدك!
قال يا أستاذ أنت تعرف أني من قرية بعيدة عن المدرسة، والدرب وعِرة، فأصحو قبل الفجر، أتجهز واصلي ثم انتظر سيارة النقل لتأخذني للمدرسة، وأصل_هنا_ قبل الطابور بوقت طويل، لأن سيارة النقل توصل إخواني وأولاد عمي، للثانوية التي تبعد عن مدرستنا بكذا كيلومتر، وحين ننصرف من المدرسة، أنتم تذهبون لبيوتكم القريبة، وأنا وأولاد قريتي نمشي في الحر والبرد حتى نصل لأقرب قهوة، كي نرتاح ونتغدى، ثم ننتظر طلاب الثانوية، ولا نصل بيوتنا إلا بعد العصر. ثم يعطيني أبي الغنم، ولا أعود بها إلا المغرب، وأنام بعد العشاء مباشرة، فمتى أستطيع حل واجبات كل المعلمين؟
قلت له سأعطيك الدرجة الكاملة_ أيها المكافح الصغير_، ولكن حتى لا يعترض علينا زملاؤك في الفصل، أريدك أن تفعل أمراً، فأشرق وجهه كالشمس، وأجابني: طيب يا أستاذ! وهو يفرك يديه من السعادة، قلتُ له: قلتَ لي إنك تحضر باكراً؟ قال: نعم! قلت: إذا جئت غداً، خذ دفاتر أحد اصدقائك المقربين النجباء، وانقل عنه جميع الواجبات _في سرية_، وإذا دخل المعلمون الفصل، ناولهم دفاترك! فوافق، ووقع على الصفقة برفع حاجبيه الصغيرين، وقفزات قدميه الصغيرتين باتجاه الفصل.
مرت الأشهر، ونما الصبي أمام عيني، وبدأت الطفولة تتراجع وتتقدم المراهقة، وأخذ جسمه في التعافي، وقامته نهضت من القزم، وبدأ يأخذ وضعه الطبيعي في الفصل كطالبٍ عبقري، فمن كان يأخذ عنهم، أصبحوا يأخذون عنه. ثمَّ ألغى الصفقة التي ابرمناها قبل الطابور ذاتَ يومٍ، وقد جنينا منها أرباحا كثيرة.

وسائلٍ عَنْ أبي بكرٍ فقلتُ لهُ:
بعدَ النَّبيينَ لا تعدلْ به أحَدا
في جنَّةِ الخُلدِ صِديقٌ مَعَ ابنتهِ
واللهِ قَدْ خَلَدتْ واللهِ قَدْ خَلَدَا