عرض مشاركة واحدة
قديم 11-22-2013, 09:36 PM
المشاركة 6
عماد تريسي
من ملوك الأدب

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


التوأمان : الشرق و الغرب ( البيادر )

( تتمة ما سبق )





لمَّا حَمَلَ الشرق مشعل الدين إلى العالم حَصَرَ جُلَّ همِّه في قلب الإنسان وما انطوى عليه من الأشواق المُحرِقة لمعرفة مَن هو، ومن أين، وإلى أين، ولماذا. أما عقله فقلَّما أعاره اهتمامًا. والعقل هو الدرجة الأولى في سُلَّم المعرفة. فكأن الشرق حاول أن يبلغ بالإنسان أعلى درجة من سُلَّم المعرفة من غير أن يطأ الأولى.

لئن كان ذلك في مستطاع الأنبياء والرسل والأولياء فما هو في مستطاع الذين لا يبصرون من العالم ما كان أبعد من أنوفهم، والذين لا يؤمنون إلا بما يُبصرون، وهم سواد الناس.

لذلك نام العقل، ولكن على مضض. فما إن دار الزمان دورته، وفترت الحماسة الدينية، حتى أحسَّتْ البشرية خللاً في التوازن بين قلبها وعقلها. فتنبَّه العقلُ وراح يطالب بقسطه من حياة الإنسان. وحمل الغرب راية العقل، وأجلسه على عرش من الوقار، وانبرى يناضل باسمه. ومن هذا النضال انبثقتْ المدنيةُ التي عشنا – وما نزال عائشين – في كنفها طوال هذه الأجيال.

غير أن هذه المدنية، لشدة مغالاتها في الأمانة للعقل واندفاعها في خدمته، قد أهملت القلب البشري وحنينَه الأبديَّ إلى ما وراء المعقول والمحسوس. فهي قد صرفتْه، أو حاولتْ صرفه، عن الدين، ولكن من غير أن تعطيه جوابًا أفضل من جواب الدين على أسئلته الملحَّة: من أنا؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فما إن بلغت أقصى مداها حتى عادت البشرية فأحسَّتْ من جديد خللاً فظيعًا في التوازن بين عقلها وقلبها. وعادت الحكمة التي لا تُحَدُّ تُصلِح ذلك الخلل بشتى الوسائل، من ظاهرة وخفية – ومنها هذه الحرب التي يكاد الناس يغرقون في غمارها ويختنقون بدخانها.

وكأني، كلَّما أنصتُّ في هذه الأيام إلى قلب الإنسانية الدامي، سمعتُه يخاطب عقلها فيقول:

"ألا بوركتَ يا أخاه. فلقد جئتَ حقًّا بالمعجزات. لقد خرقتَ حرمة الأعالي. وفضضتَ بكارة الأعماق. وحشرتَ أجرام السماء في عدسية مرقبك. وفضحتَ أسرار الجراثيم بعين مُجهِرك. واتخذتَ من البرق رسولاً لأفكارك. وجعلتَه قنديلاً في دارك.

"ولقد أرحتَ الثورَ من نيره، والجوادَ من مركبته، والحرَّاث من محراثه، والحطَّاب من فأسه، والحدَّاد من كوره ومطرقته وسندانه.

"ولقد دخلتَ بسحرك جوف الأرض فقرأتَ تاريخها في ما سطَّرتْه الدهورُ على صخورها وطبقاتها. ثم أكرهتَها على التخلِّي عن الكثير من دفائن كنوزها.

"ولقد خلَقْتَ المطبعة، واتخذتَ من دواليبها رُسُلاً تذيع سحرك في الناس وتجعله حلالاً لكلِّ راغب وطالب، دون ما تمييز بين خاصَّة وعامة.

"ولقد بنيتَ للناس معاهدَ يستظهرون فيها علومَك، وينعمون بفنونك، ويتذوَّقون سحرك، ويحرقون لك البخور، ويسبحونك ويمجِّدونك.

"ولقد شيَّدتَ للناس بيوتًا يداوون فيها أوجاع أبدانهم وعقولهم. فإنْ نجع الدواء كان الفضل لك. وإنْ لم ينجع كان اللوم على الأبدان والأقدار، لا عليك.

"أجل. لقد فعلتَ كلَّ ذلك من أجل الناس، وفعلتَ أكثر من ذلك يا أخاه. ولكنك بعتَ نفسَك والناس من مخلوق عجيب، خلقتَه ليكون خادمك وخادمهم، فإذا به يصبح سيِّدك وسيدهم من غير مُنازع. فوا عجبًا لمخلوق فاق خالقه، ولعبد ساد سيده! أما اسم ذلك المخلوق فالدرهم.

"فبالدرهم تُباع رحمتُك للموجوع – ويا ليتها كانت رحمة؛ ومعرفتُك للجاهل – ويا ليتها كانت معرفة؛ وخبزُك للجائع، وعطفُك لليتيم، وقِراك لابن السبيل، ودفؤك للمقرور، وثوبُك للعريان، وحريتُك للرقيق، وعدلُك للمظلوم، وسَلْواك للمفجوع. ودرهمُك لا يُنال إلا ببذل ماء الوجه، وسفح دم القلب، وإنفاق الدماغ، وإرهاق العضل، وتخدير الضمير، وحرق فتيلة العمر، بلا شفقة ولا حساب.

"وهكذا أصبحتَ يا أخي ألعوبة في يد مخلوقك العجيب. وأصبح مَن والاه مخلوقُك سيِّدَ الناس، وإن يكن أشدَّهم فتكًا بالناس؛ وأصبح مَن جافاه مخلوقُك عبدًا للناس، وإن يكن أشدَّهم غيرة على خير الناس وأعرفهم بالسبل المؤدية إلى سعادتهم. ورحتَ تأتمر بأمر الدرهم. فإن قال لك: اخترع لي ما أُلهي به الجائع عن جوعه، والعبد عن حرِّيته، وما أسلِّي به أخا الضجر والبطر، وما أخدع به طالب الجمال والكمال – اخترعتَ له في الحال من الملاهي ما يلهي حتى الحمار عن علفه، ومن الملذات ما يخدِّر الوجدان؛ وخلقتَ لطالب الجمال والكمال تمائم دَعَوْتَها الفنون، ولطالب المعرفة تعاويذ أسميتَها سُنَّة النشوء وتنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ وخلقتَ لناشد الحرية والاستقلال تعاويذ سواها دعوتَها الوطنية، والقومية، والجنسيَّة، وشرف المحتد واللسان، وعلَّقتَها كلَّها بحواشي خرقة ذات ألوان، وقلت للناس: ها هو رمز حريتكم واستقلالكم؛ فافدوه بدمائكم – فآمن الناسُ بما قلتَ وبما فعلتَ، وراحوا بدمائهم يَشرَقون.

"وأما أنا – أنا القلب الذي ما انفكَّ ينبض منذ كان الزمان وكان الإنسان – فأسألك: مَن أنا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فلا تسمع ولا تجيب. وأشكو إليك أوجاعًا تتأكَّلني، من غضب وبغض وحقد وحسد وطمع وفجور وقلق وذعر وشكٍّ وحيرة، فلا تتعطَّف عليَّ بدواء سوى التمليق والتخدير.

"وأُسِرُّ إليك أشواقًا تساورُني في هدأة الليل وضوضاء النهار إلى حياة لا محاباة في عدلها، ولا مواربة في صداقتها، ولا مخاتلة في إخائها، ولا شناعة في جمالها، ولا باطل في حقِّها، ولا خوف في قلبها، ولا موت في مفاصلها؛ إلى كيان لا يبتدئ هنا وينتهي هناك، بل تضيع في جوانبه البداياتُ والنهايات، وتغور في أعماقه الفواصلُ والمتناقضات، وتتلاقى في فضائه سائرُ الكائنات. فلا نزاع ولا صراع، بل فَهمٌ يترفَّع عن النزال، ومحبة لا تتدنَّس بالقتال.

"أُسِرُّ إليك أشواقي، فتسخر بها وتدعوها أضغاث أحلام – وأنا أعْرَف منك بها وبمصادرها. وإنِّي لعلى يقين من أنني ما اشتقت شيئًا إلا كان له في كياني كيان. فلو أنه كان عدمًا لاستحال عليَّ أن أشعر به وأن أشتاقه. ففي جوعي الدليل على وجود الغذاء، وفي عطشي الدليل على وجود الريِّ. ولكن مسالكي قد استعصتْ على علمك وسحرك. فما نالني من طعامك غير الجوع، ومن ريِّك غير العطش، ومن نارك إلا البرد، ومن نورك إلا الظلمة.

"لقد تسلَّمْتَ يا أخي قيادة الناس زمانًا ليس باليسير، فأحسنتَ وأسأتَ؛ لكنك أسأتَ أكثر مما أحسنتَ. وها هي ذي البشرية لا تنهض من حفرة إلا لتقع في أخرى، ولا يلتئم لها جرح حتى ينفتح في جسمها ألفُ جرح. وإني لأسمعُها في خلواتها وصلواتها تستغيث بي. فتنحَّ وناولْني الأعِنَّة!"

بمثل هذا الكلام أسمع قلب الإنسان المفجوع بآماله يخاطب عقله المغرور بأوهامه. ولا عجب. فالتوازن بين الاثنين قد اختلَّ إلى درجة لا تطاق؛ فلا بدَّ من تعديله وتصحيحه.

وإني لأبصر أعنَّة البشرية التائهة ما بين سمعها وبصرها تنتقل من يد الغرب – وهو توأمها الماشي على ضوء البصر – إلى يد الشرق – وهو توأمها السائر على هدى البصيرة. وإني لأرى هذا الشرق يعبِّئ قواه منذ الآن للقيام بمهام القيادة الملقاة إليه.

والذي يعبِّئه الشرق لن يكون – بإذن الله – جيوشًا برية تحمل النقمة والثأر، ولا عمارات بحرية تزرع الويل والدمار، ولا أساطيل جوية تُمطِرُ الناس كبريتًا ونارًا؛ بل سيكون بلسمًا لجراح الإنسانية الدامية، ودعامة لِما تصدَّع من إيمانها بالعدل والأخوَّة، وطعامًا وريًّا لِما جاع وعطش فيها إلى السلام الذي لا ينام على الأسنَّة والشفار، والحرية التي تأبَى فوهة المدفع مسكنًا لها، والحقَّ الذي يُغيث ولا يستغيث.

وإذ ذاك فما على الشرق إلا أن يدير وجه البشرية شطر الهدف الذي أدارت له قذالها من زمان. فهدف الشرق ما برح وضَّاح الجبين والسُّلَّم الأوحد الواصل ما بين الأرض والسماء. والمنارات القائمة على جانبي الطريق المؤدي إليه ما تزال تشعُّ القوة والإيمان لكلِّ قلب جسور ينشد الحقَّ الأبدي، ولكلِّ روح مقدام يحنُّ إلى مواطنه الفردوسية، بما فيها من حياة لا تبلى، ونور لا يخبو، وحرية لا يطوِّقها زمان ولا يحصرها مكان.


.
.


لأنَّ الحزن هو أبو الوحي , فإنَّني لا زلتُ أبرّه !

فإن ذوتْ سنابله يوماً, رويتُه باستذكار جرحٍ آخر .

.....