عرض مشاركة واحدة
قديم 05-28-2012, 07:51 AM
المشاركة 712
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
7)
جميل عطية ابراهيم في “1981”:
فاجعة اغتيال العقل وفقدان الذاكرة

المصدر- فتحي ابو رفيعة
لكل أمة ماض ثابت ومستقر، أما المستقبل فهو غير معلوم. وإذا كان لنا أن نعرف الماضي فإنه لايسعنا سوى التكهن بالمستقبل. أما الحاضر فلا هو ثابت ولا مستقر، وهو سرعان ماينحسر دوما بين تلافيف الماضي. وإنه فقط من خلال تفسير الماضي ورؤية الحاضر من خلال هذا التفسير يمكننا أن نحدد موقعنا الحالي على خريطة العالم. وبمعنى آخر، فإنه إذا كان يستعصي علينا استقراء المستقبل، وتستغلق علينا قراءة الحاضر، فلا أقل من استكناه الماضي. وإذا عرفنا ماذا كنا، فربما نكتشف ماذا نكون. إنها التساؤلات التاريخية الأزلية: ماذا حدث؟ ولماذا حدث؟ وما هي التفسيرات المختلفة لماحدث؟ الوقائع، والتفسير، والمغزى. إنها باختصار العناصر الأساسية لفلسفة التاريخ. هذه التساؤلات ومحاولات الرد عليها هي فحوى عمل جميل عطية ابراهيم العظيم: ثلاثية 1952 التي صدر مؤخرا الجزء الثالث والأخير منها تحت عنوان “1981”.
وقد تناول المؤلف في الجزء الأول إرهاصات الثورة وقيامها، وتناول في الجزء الثاني ماسمي بأزمة 1954 التي أطاحت بالرئيس محمد نجيب. نعم، لقد كان1952 و 1954 تاريخين هامين في عمر الثورة وفي مسيرة الوطن. وكانا تعبيرا عن مرحلة مفعمة بالآمال والأحلام وأيضا بالصراعات التي هددت الثورة من الداخل إلى أن مرت العاصفة، وانتصر جناح على آخر، وبدا أن الأمر أصبح مهيأ للثورة كي تحقق أحلامها الموعودة. وقد استطاع جميل عطية ابراهيم أن يرسم معالم هذه المرحلة بكل الصدق وبكل الأمل في تحقيق الحلم والخوف من تبدده. فأي طريق سلكته الثورة؟ أو أي طريق أريد لها أن تسلكه؟
ربما تصور البعض أن المؤلف، سيرا على المنهج التاريخي التقليدي، سيتوقف عند 1956 أو 1967 أو 1973، وكلها تواريخ هامة وإن كان يجمع بينها أنها كلها تواريخ معارك وحروب. لكن جميل عطية ابراهيم، بحركة ساحر، أخرج من جعبته “جوكرا” مسح القديم والجديد، وغطى على مايمكن أن يقال عن أي من هذه التواريخ وغيرها والتي قادت جميعها إلى هذه النقطة الفارقة في تاريخ الوطن: نقطة الإنهيار أو مرحلة الكتلة الحرجة Critical Mass التي كان لابد عندها من تعديل المسار: ينطبق هذا على الوطن ككل وعلى شخصيات الرواية فردا فردا، كما سنرى.
ثلاثون عاما، 1952 ـ 1982 ، أعمل فيها جميل عطية ابراهيم قلمه وفكره ليس بمنهج الرواية التاريخية التقليدية ولكن بأسلوب المؤرخ الفرنسي البارع فرناند برودال مؤسس المدرسة البنيوية في تسجيل الحوليات التاريخية والذي اعتبر من طليعة مؤرخي مدرسة مابعد الحداثة. وتجسد نظرية برودال فكرة التاريخ الممتد أو الطويل الأجل في مقابل الوقائع القصيرة الأجل، بما فيها الحروب والغزوات. وتركز مدرسة الحوليات، التي بلغت ذروة تأثيرها خلال الستينات والسبعينات، على التاريخ العام والشامل وعلى تنوع التفاعلات التي تشكل في النهاية قاعدة عامة موحدة أكثر من تركيزها على التاريخ السردي التقليدي. ويستجيب برودال لنظرية نيتشه من حيث كتابة التاريخ من مواقع ومناظير مختلفة تشمل الإجتماعي والثقافي والإقتصادي والأنثروبولوجي. ويعكس جميل عطية ابراهيم هذا المفهوم المتعدد الجوانب للتاريخ في ثلاثيته التي تبدأ في عزبة عويس قبيل قيام ثورة 1952 وتنتهي في عام 1982، حينما تجمع الغربة والإغتراب بين بعض أبطالها خارج الوطن، لكنهم يقررون في لحظة هامة من لحظات اتخاذ القرار أن يعودوا إلى “عزبتهم” وإنقاذها من الخطر الذي يتربص بها.
من الشخصيات الرئيسية في “1891” كرامة سرحان السقا، طالب اللغة الإنجليزية، الذي التحق بعد تخرجه بوزارة الخارجية، وتزوج من الأميرة جويدان إبنة اللواء عويس، أما زهية الفلاحة التي حملت منه، في لحظة نزوة، طفلا أسمته محمد نجيب تيمنا بقائد الثورة، فقد التحقت بخدمة الدكتور أحمد السيد باشا أستاذ القانون الذي فقد إبنته في حادث يتعلق بنشاطها السياسي، وانتهى الأمر بزواج زهية من الباشا، الذي قام بتربية محمد نجيب الذي أصبح عمره الآن ثلاثين عاما.
في نيسان 1982 (نيسان أقسى الشهور، إفتتاحية “الأرض الخراب” الشهيرة لإليوت التي كان يعشقها كرامة سرحان ويرددها في سنوات صباه)، هاهو نيسان يعود بعد ثلاثين عاما بقسوة أشد. فقد حضر إلى جنيف، حيث يعمل كرامة مستشارا بالبعثة، الباشا وزوجته التي أصبحت الآن زهية هانم، ومعهما إبنه ـ أي إبن كرامة ـ المعروف بأنه إبن زوجة الباشا من “رجل آخر”. وستظل صفة “الآخر” هذه تعذب كرامة إلى أن يقرر الإعتراف بإبنه في آخر الرواية، التي تنتهي بموت الباشا، وربما ـ كتحصيل حاصل ـ زواج كرامة من زهية وانفصاله عن زوجته الأميرة التي ثبت حتى نهاية الرواية أنها لاتزال تتآمر ضد عزبة عويس وأهلها.
هذا هو السياق الروائي لـ “1981” الذي يطوي في ثناياه نصا زاخرا بالرؤى والأفكار والأحكام والشخصيات التي تتحرك حركة دؤوبة في كل اتجاه. وهاهو قصر الأمم في جنيف يشكل مسرحا دوليا يختلط فيه العام والخاص، ويدلف بنا المؤلف ليس فقط بين دهاليز هذا المبنى التاريخي وكواليسه السياسية والدبلوماسية ولكن ايضا بين خبايا النفوس البشرية فنتعرف على شخصيات فريدة أبدع المؤلف رسمها وسبر أغوارها: أميرة تحولت إلى مترجمة وتعاني من الوحدة في أواخر العمر، لازوج ولا ولد، وعينها على المصير الذي ينتظرها: بيت المسنين؛ وملازم سابق في الجيش (هو أيضا تحول إلى مترجم) وحكاياته عن مؤامرة قام بها ضد عبد الناصر وانخراطه في العمليات الإنتحارية في سيناء في أعقاب نكسة 1967؛ والخال عباس أبو حميده الإشتراكي الذي هدته الغربة.
على أن أهم الشخصيات التي قدمها جميل عطية ابراهيم في “1891” هي شخصية الأستاذ عبد الله صابر التي أفرد لها تمهيدا صدر به روايته. فهذه الشخصية التي لم يكن لها وجود في الجزأين السابقين إن كانت توحي بأي شىء لأول وهله فلا أقل من أنها توحي بشخصية سقراط العظيم، المثقف الأزلي، الباحث عن الحقيقة.الأستاذ عبد الله صابر الذي يضطهد ويعتقل بسبب أفكاره، ويتحلق حوله الصغار والكبار في القرية يحكي لهم ويسمع منهم، ومع ذلك فهو يردد لهم دائما أن “جعبتي خالية ياأولاد من الإجابات، هي تساؤلات نطرحها على بعضنا البعض حتى نعثر على حكيم يفتح أعيننا على الحقيقة.” ولكننا ماأن نتعلق بهذه الشخصية ـ التي ربما أراد لها المؤلف أن تمثل العقل أو روح الشعب ـ نفاجأ بأنه “في اليوم التالي عثر على عبد الله صابر مكوما أمام باب الدار وقد اخترقت جسده عدة طعنات بخنجر من الخلف.”
لماذا يبدأ جميل عطية ابراهيم روايته بواقعة تمثل إغتيال العقل؟ لعله يعبر بذلك عن حكمه على ماآلت إليه الأمور في عزبة عويس التي كانت في الجزأين السابقين تعبيرا وتجسيدا للوطن؟
هنا، تتأكد مرة أخرى، مثلما تأكدت في الجزأين السابقين، رؤية جميل عطية ابراهيم للكتابة باعتبارها تعميقا للوعي التاريخي الذي يشكل الأساس البنيوي الذي تقوم عليه المعرفة السياسية والعمل السياسي، وإيمانه بمقولة ماركوز بأن استعادة الوعي، كوسيلة للتحرر، هي مهمة من أسمى مهام الفكر الإنساني. وهاهو كرامة سرحان، الشخصية الرئيسية في الرواية يسترجع ذكرياته المكبوته، وفي هذا الإسترجاع يحدث التحول في شخصيته السلبية إلى الشخصية التي يريدها لنفسه. في هذا الإسترجاع يتحول سرحان من مجرد “الآخر” إلي “الأنا”، ويحقق لنفسه السعادة والحرية.
إن ذاكرة الوطن هي همّ أساسي يحمله سقراط جميل عطية ابراهيم، وتصبح من الشواغل الرئيسية التي تتمحور حولها الرواية. “لقد خلقت الجماعات الإسلامية، التي تتخذ الإرهاب وسيلة لتحقيق أهدافها، ذاكرة أخرى للوطن، العودة إلى القرن الأول الهجري تحت شعار تطبيق الشريعة الإسلامية والإسلام هو الحل.”
“ـ والحل؟
“ـ الدفاع عن ذاكرة الأمة وتاريخها. التصدي لهذه الجماعات في الشارع المصري دفاعا عن أحلام الشعب.”
من هذا المنطلق يصدق على ثلاثية جميل عطية ابراهيم وصف الرواية “الجمعية” التي تستهدف استثارة وعي الجماهير والتعبير عنه في مواجهة ماتتعرض له هذه الجماهير من عنت ومن استلاب للحلم. وفي الرواية الجمعية تقوم الجماعة أو المجتمع بدور الشخصية الرئيسية، ويتعين على المؤلف أن ينقل هذا الإحساس الجماعي الذي يصبح أكثر أهمية من التركيز على شخصية الفرد. وهذا هو الإحساس الذي نجح جميل عطية ابراهيم تماما في نقله إلى القارئ.
ولأن 1981 هو عام اغتيال السادات فإن “1891”(الرواية) تتضمن الكثير من الأحكام على الحقبة الساداتية وهي أحكام تخضع في مجموعها للقبول أو الرفض. من هذه الأحكام مثلا مايقوله عباس أبو حميده الإشتراكي : “لاتنس ياسعادة المستشار أن الرئيس (السادات) قد حكم برجال عبد الناصر فيما عدا القلة من رجال مكتبه والمقربين إليه ، هؤلاء وضعهم في السجن بعد محاكمة سياسية ظالمة ليتخلص من منافستهم له.” (؟) ويقول أحد شخصيات الرواية:”المأساة أننا خرجنا جميعا في وقت مبكر جدا ونحن في قمة العطاء. حقيقة لايبقى على المداود غير شر البقر. الطاعون والمجاعات هي وحدها التي تجبر الناس على الفرار، وما جرى في مصر في زمن السادات يشبه الطاعون، فرار جماعي.” وتضيف هذه الشخصية قائلة :”مانردده هذه الساعه في جنيف يردده مئات غيرنا، من المثقفين المصريين المطرودين، في كافة أنحاء المعمورة. مقاهي لندن وباريس وروما وبرلين تغص بالمصريين، حتى المدن الصغيرة في بلدان الشمال عرفت المهاجرين المصريين لأسباب سياسية.” وفي مكان آخر يقول المؤلف إن “السادات رحمه الله استحق مصيره ليس لأنه وقع اتفاقية سلام مع اسرائيل، فكلنا يعرف أن اتفاقيات السلام غير العادلة ليست إلا هدنة حرب، لكن أخطاءه السياسية هي أنه عمل لمسح ذكريات الوطن… ذكريات الوطن ضاعت في عهده من أذهان الناس، والوطن هو الذكريات.”
عزبة عويس الآن “…غارقة في الهم، وصفار شمس العصاري كالذهب المزيف يثير الشجن. … منذ الهوجة التي حلت بعزبة عويس … قلت الأشغال وكثر الكلام وانتشرت الحواديت. يتجمع الفلاحون في السوق بحثا عن قطعة لحم وحزمة جرجير وأربع بيضات بشق الأنفس. أما الزبد والجبن القريش فقد اختفيا وحل محلهما الزبد والجبن الدانمركيان.” أهالي عزبة عويس أصبحوا يتسوقون حاجياتهم من سقارة والبدرشين وأبو النمرس، وفي الرايحة والجاية يلعنون هذا الزمان. عيونهم على مكتب البريد لتلقي الحوالات من الأولاد الذين يطفحون “الكوته” في بلاد النفط الغنية. النقود جرت في أيديهم، وعزت عليهم اللقمة.”
“تتحول الدكاكين الطينية إلى بوتيكات بها سجائر مستوردة وكوكاكولا لكنها خالية من رغيف الخبز والجبن والفول والطعمية. بوتيكات تباع فيها الحلي والتماثيل إلى السياح ويجري فيها تغيير العملة سرا.”
عزبة عويس التي كانت تستعد لإقامة مشروع لتعليب الخضروات، من كثرتها، والتي كانت تباع فيها المانجو بالكوم والخضروات بالشروة، تغير حالها. لم تعد مفرداتها زراعة وتصنيعا واكتفاء ذاتيا ولكن سياحة وانفتاحا وتاكسي بالنفر وتحويل عملة وتأشيرة خروج إلى بلد عربي وتوظيف أموال. “أحلام كالذهب الفالصو في شمس العصاري التي تغرق السوق.”
في”1981″، واتساقا مع ذروة الأحداث في الثلاثية، تسمو لغة الرواية إلى مستوى رفيع وبالغ الدلالة والتعبير:
“شمس الماضي أشد فتكا بالروح من أحلام المستقبل الوردية التي لم يقدر لها التحقق بعد. هي تبزغ فجأة فتعري الحقائق وتزيل عنها تلك الستائر الواهية التي طرزتها الأيام والليالي.”
“ الغربة بطالة، ونحن بشر. رنت في أذني كلماته كالنفير الناعق في مقطوعة موسيقية مليئة بالشجن. و “1981” هي هذه المقطوعة ذاتها، وهي تحمل شجنا لايوصف، وهو شجن يبدو أن المؤلف يحسه حتى النخاع، ولهذا فقد جاء التعبير عنه بكل العمق والسلاسة: “أمضيت عمري كله متغربا. طحنتني الغربة في عزبة عويس بين أهلي وناسي. وفي الغربة الحقيقية تجرعت كأس الوحدة حتى الثمالة.”
هناك أيضا الكثير من الإيحاءات والتلميحات التي لايتسع المجال لذكرها، لكن أهميتها تكمن في أن المؤلف يعني كل كلمة وكل عبارة ويعني ماوراءهما من دلالات . في مطلع الرواية تطغي على القرية نذر “التقسيم”، ومع أن المقصود هو تقسيم الأراضي الزراعية بعد تجريفها تمهيدا لبيعها وتحويلها إلى أراض للبناء، إلا أن شبح كلمة التقسيم بمدلولاتها السياسية يفرض نفسه على السياق. “مات جمال عبد الناصر، فانفض مولد الثورة، وتفرق الناس.” وفي آخر الرواية، وحينما يقرر كرامة المثقف وعباس أبو حميدة الفلاح الثوري العودة إلى القاهرة لإنقاذ عزبة عويس، تقول إحدى الشخصيات في تعبير لاتخفى دلالته:”يبدو أن عزبة عويس عليها العين منذ حركة الجيش.”
إن جميل عطية ابراهيم حينما تصدى لقراءة ـ أو إعادة قراءة ـ ثلاثين عاما من تاريخ الوطن فقد كان يدرك أن التاريخ هو أكثر من مجرد حادثة تلو أخرى، وأكثر من مجرد استرجاع وقائع قديمة، بل وكان يدرك أنه أكثر من مجرد ماوقع من أحداث. لقد نظر جميل عطية ابراهيم إلى تاريخ هذه الفترة باعتباره خطابا سياسيا يفوق مجرد سرد أحداث الماضي وتفسيرها ليصبح تعبيرا عن مجمل تجربة شعب وتفاعل العلاقات بين أفراده في ظل المعطيات التاريخية لهذه الفترة. وقد جعل ذلك من ثلاثيته عملا كلاسيكيا أصيلا سوف يحتل دائما مكانته بين شوامخ أدبنا الحديث.