عرض مشاركة واحدة
قديم 04-13-2012, 09:21 PM
المشاركة 411
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ظروف نشأة محمد جبريل

في عام 1938 شهدت مصر انتقال القوات البريطانية من القاهرة والاسكندرية الي القناة، واستعدت مصر لمواجهة الحرب العالمية التي بدت نذرها في الافق، وخرجت الي الشوارع مظاهرات تهتف بحياة زعيم الوفد وتتهم محمد محمود بمحاولة اغتياله، واعلن عن تأسيس الاتحاد العام لنقابات عمال المملكة المصرية، وارتفع فيضان النيل الي حد الخطر، واصدر طه حسين كتابه العلامة »مستقبل الثقافة في مصر« واذاع عدد من الفنانين والكتاب الطليعيين المصريين - متأثرين بسريالية أندريه بريتون - مانفنستو »يحيا الفن المنحط« وفي خضم هذا الغليان السياسي والاجتماعي ولد الاديب الكبير »محمد جبريل« في حي بحري بالاسكندرية وبرغم انتقاله للعمل والاقامة في القاهرة فان رائحة الاسكندرية لا تغيب ابدا عن معظم اعماله.

- واذا كان لبيئة البحر وما يتصل بها، انعكاسها في العديد من اعمالي الابداعية، فان البيئة الروحية لها انعكاسها كذلك في تلك الاعمال، مثل جوامع ابو العباس وياقوت العرش والبوصيري ونصر الدين وعبد الرحمن بن هرمز وعلي تمراز وثمة أضرحة كظمان والسيدة رقية وكشك وعشرات غيرها من جوامع اولياء الله الصالحين ومساجدهم وزواياهم واضرحتهم، وثمة الموالد وليالي الذكر والاهازيج والاسحار والتواشيح، وليالي رمضان وتياترو فوزي منيب وسرادق احمد المسيري وتلاوة القرآن عقب صلاة التراويح في سراي رأس التين، والتواشيح واحتفالات الاعياد: سوق العيد وما يشتمل عليه من المراجيح وصندوق الدنيا والاراجوز والساحر والمرأة الكهربائية، وألعاب النشان والقوة وركوب الحنطور من ميدان المنشية الي مدرسة ابراهيم الاول وتلاقي الأذان من المآذن المتقاربة والبخور والمجاذيب والمساليب، والباحثين عن البرء من العلل والمدد، بالاضافة الي المعتقدات والعادات والتقاليد التي تمثل في مجموعها موروثا يحفل بالخصوصية والتميز .

-في »رباعية بحري« يشعر الكاتب الكبير محمد جبريل أنه كتب كل ما في مخزونه الروحي ووصف طفولته وصباه متنقلا بين الجوامع الاربعة قائلا: رباعية بحري عملي روائي من اربعة اجزاء: أبو العباس، ياقوت العرش البوصيري، علي تمراز، تعرض للحياة في حي بحري منذ اواخر الحرب العالمية الثانية الي مطالع ثورة يوليو 1952 .

- والحق انني حين اراجع ابداعاتي التي وظفت - او استلهمت الموروث الشعبي اجد انها وليدة العفوية - ومحاولة التعبير عن الواقع، هذا هو ما افرزته تجربة الحياة والمشاهدة والقراءة والتعرف الي الخبرات، لم أتعمد الافادة من الموروث الشعبي بل هو الذي فرض معطياته في مجموع ماكتبت مثل روايتي القصيرة: »الصهبة« وروايتي: »بوح الاسرار«، و»زهرة الصباح« وغيرها.

-علي الرغم من نشأة الكاتب محمد جبريل يتيم الام - لقد ماتت والدته وهو دون العاشرة من عمره - الا انه يتحدث عن اثرها البالغ في تكوينه الابداعي قائلا: وعدت القارئ في سيرتي الذاتية »حكايات عن جزيرة فاروس« بأن يقتصر ما اذكره من الاعوام القليلة التي أمضتها امي في حياتنا علي بعض الصور او الومضات السريعة، رحلت امي قبل ان أبلغ العاشرة فتصورت ان ما اذكره لن يجاوز تلك الفترة الباكرة من حياتي فضلاً عن غياب الوعي بصورة كاملة او جزئية في الاعوام الاولي منها، لكن الذكريات التي كانت مطمورة مالبثت ان استردتها الكتابة وهو ما سجلته في »مد الموج« و»الحياة ثانية« و»اغنيات« في العديد من اعمالي الروائية والقصصية.

- ولعل رصيد امي هو اول ما اذكره من أيامها بيننا، أشرت اليه في العديد من لوحات السيرة الذاتية، والقصص القصيرة وفي فصول سيرتي الذاتية، قالت الجدة في شقة الطابق الرابع انها كانت تجلس بجوار امي تعودها لما انتفضت امي - فجأة - واشارت الي ما لم تتبينه العجوز وهتفت: ابعدوه من هنا! ثم سكت صوتها وجسدها امرني ابي بالنزول الي الطبيب الارمني في الطابق الاول، صعد الطبيب السلم بخطوات متباطئة وكان يقف في كل طابق، امام النافذة المطلة علي الشارع الخلفي، ربما ليأخذ انفاسه وكنت ادعوه - بيني وبين نفسي - الي الاسراع في الصعود كي ينقذ امي، أطال الطبيب تأمل الجسد الساكن، كانت العينان جاحظتين، والبطن منتفخا بصورة ملحوظة والجسد بكامله متصلبا، كأنه وضع في قالب، مال الرجل علي صدر امي وباعد بأصبعيه بين الجفنين، وضغط بقبضة يده علي البطن المنتفخة ثم هز رأسه في اسي: ماتت!




- يقول الكاتب الكبير محمد جبريل محدثا نفسه: قد تهبني هامشية من الخبرات اضعاف ما احصل عليه من شخصية اختزنت المعرفة فظلت ساكنة في داخل الذهن والوجدان دون تأثير حقيقي عليها، وعلي من يخالطونها وتعبير آخر فإن التأثير والتأثير، لا صلة لهما بمعرفة ولا ثقافة ولا مرحلة سنية وازعم انني افدت من رحلة امي القصيرة في حياتي ومن رفعة زوجتي زينب العسال الناصحة المشفقة المتدبرة ومن تمازج الطفولة والوعي في ابنتي امل لما لم تبدله الاعوام، ولعلني اذكر زواج خادمتنا »دهب« واستقلالها بحياتها لكنها ظلت علي صلتها الاسرية بنا، تزورنا وتسأل عن احوالنا - بالذات بعد ان رحلت امي - واضطر ابي - بتأثير المرض - الي لزوم البيت والاعتذار عن غالبية الاعمال التي عرضت عليه وكان مترجما! وعانينا ظروفا بالغة القسوة وصارحنا ابي - ذات يوم - ان »دهب« عرضت عليه مبلعا نجاوز به ظروفنا، وارفق ابي شكره باعتذار مؤدب فقد كان - كما قال لنا - يعرف ظروف دهب جيداً.

يتيم الام قبل سن العاشرة.