عرض مشاركة واحدة
قديم 09-15-2013, 03:43 PM
المشاركة 16
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
وخصوصاً إن من تخصّهُ الحكاية رجلاً ستينـياً يـودّع زمنا ً غابرا ً، ويمارس الحياة في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. الشتاءُ عانق المدينة، طابعاً على خدها الأسمر قبلاً باردة. كنت طفلاً أراه كالباقين قرب المدفأة، يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظارا ًبعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة.

في الفقرة التالية نجد القاص وقد بادر الى تسخير عنصر جديد من عناصر الجمال وهو تسخير لغة الارقام ذات التأثير العظيم على عقل المتلقي كونها لغة الكون..فها هو يقول وضمن وصفه لشخصية البطل بأنه ( ستينيا )، ويقول ان مصارحة النفس لدى هذا الرجل او الاحتفاظ بسر ما جرى لذلك الرجل كان اصعب من المعتاد لانه رجل يودع زمنا غابرا ولا شك ان القاص نجح في جعل الصراع الدائر في ذهن الرجل يبدو اكثر حدية كونه قد بلغ الستين من العمر.

ونجد القاص انه عاد لستخير الاضداد من جديد بقوله ان ذلك الرجل (يودع زمنا غابرا) لكنه ورغم ذلك (ما يزال يمارس الحياة) في بساطة مألوفة لعمره الشائخ. ونجد ان القاص قد جاء بلفظ (بساطة) وهي عكس (صعب) وفي ذلك تناقض يوقظ ذهن المتلقي ويستفزه.

ثم نجد ان القاص عاد من فوره ليشخصن الشتاء فيجعله مثل رجل.. ويشخصن المدينة فيجعلها مثل فتاة ويرسم صورة لذلك الشتاء وهو ينهمر على المدينة، وكأنه رجل يعانق فتاة ويطبع على خدها الاسمر وفي استخدام كلمة ( الاسمر ) تسخير للالوان وهي من المحسنات بالغة التأثير والتي تجمل النص ولها وقع يشابه تسخير لغة الارقام...

كما انه يستخدم كلمة ( باردة ) في وصف للقبل ولا بد ان ذلك جاء بهدف رسم المشهد الذي يدور فيه الحدث وهو يهدف الى استثارة مشاعر المتلقي ودفعه ليستشعر تلك الاجواء الشتوية الباردة التي تمثل جو النص كما اراده القاص.

ويعود القاص من فوره في الجملة التالية لتسخير النقائض من جديد، فمن ناحية يصف الرجل بأنه شيخ ستيني لكن المتحدث الراوي للحدث طفلا صغيرا.

وفي استخدام كلمة ( اراه كالباقيين ) تسخير لحاسة الرؤيا، و بذكر المدفئة تسخير للنقائض من جديد فالجو شتاء بارد لكن ذلك الرجل كان يجلس قرب المدفأة.

وفي وصف ما كان يقوم به الرجل من نشاط ( يتصفـّحُ كتاباً أو صحيفةً أو يعتكِفُ كناسك يرسل أنظاراً) هو توفير مزيد من المعلومات عن شخصية ذلك الرجل الستيني، وهذا ما يشير الى ان القاص حريصا على رسم شخصيات قصته بتفاصيلها الدقيقة لجعل المتلقي قادرا على تصور تلك الشخصية في مخيلتة، وهذه التفاصيل هي التي تمنح الحياة لشخصيات القصة فتبدو هذه الشخصيات وكأنها ناس حقيقيين يعيشون بين الناس وهو عنصر مهم من عناصر التأثير فالمتلقي يتفاعل مع الشخصة الحية وربما يتعاطف معها او يمقتها.

وفي كلمة ( يتصفح) حركة والحركة تجعل النص ينبض بالحياة. وفي ذكر كلمة ( يعتكف ) تسخير للنقائض ( الحركة والسكون) من جديد.

وفي استخدام كلمة ناسك مزيدا من الوصف لشخصية البطل وفي نفس الوقت تسخير لكلمة من التراث الديني او الشعبي حيث يوقظ استخدام هذه الكلمة ما يرتبط بها من صفات في عقل المتلقي..

وفي استخدام كلمات ( يرسل انظارا ) مزيدا من الحركة، من ناحية ومن ناحية اخرى ايقاظ لحاسة البصر من جديد لدى المتلقي.

وفي استخدام كلمات ( يرسل أنظاراً بعيدة من خلال النافذة المطلة على البساتين النائمة) رسم تصويري يستكمل القاص من خلاله رسم المشهد ليجعل المتلقي يستشعر جو النص.

وفي استخدام كلمات (البساتين النائمة ) شخصنة للبساتين التي يجعلها مثل فتاة نائمة.

وفي الاجمال نجد القاص قد نجح نجاحا باهرا في هذه الفقرة ايضا من خلال حشد كل هذه المحسنات الجمالية ( النقائض، والارقام والالوان والحواس والحركة والتشخيص والرسم التصويري) وهي كلها بمثابة قنابل جمالية ما يلبث ان يقوم القاص على تفجيرها واحدة تلو الاخرى بين يدي المتلقي فيكون لذلك كله ابلغ الاثر في ذهن المتلقي.

ومن خلال رسم صورة البطل الذي بدت ملامحة حية وكأنه واحد من الناس الاحياء الذين نعرفهم او يسكنون الى جورانا... فهو رجل ستيني، شائخ، وهو يجلس الى جوار المدفأة يتصفح كتابا او صحفية او يعتكف مثل ناسك ويرسل انظاره عبر النافذة...

هذا من حيث الصورة الظاهرة طبعا والتي اتقن القاص رسمها، لكن القاص يخبرنا ايضا ان في داخل ذلك الرجل صورة اخرى مغايرة، حيث يدور صراع عنيف ناتج عن بعض الذكريات التي احتفظ بها وكبتها هناك في الذاكرة لمدة طويلة وهو لم يكن قادرا على ان يفصح عنها لان الافصاح امر صعب لكنه لم يعد قادرا على الاستمرار في كبتها حيث اصبح عدم التصريح بها اصعب من الحديث عنها.

وفي مقابل وصفه لذلك الرجل بطل القصة نجده يروي لنا حكايته على لسان طفل صغير ولا شك ان ذلك لم يكن صدفة فباستخدام ضمير المتكلم ( كنت اراقبه ) وهو الراوي العليم اراد القاص ان يمنح قصته اعلى حد من المصداقية والواقعية...فعقل المتلقي يميل الى تصديق الحكاية اذا ما كان المتحدث بها رواي عليم...

وهو حتما ينجح في وضع المتلقي في جو النص الذي جلعه شتويا باردا ومشحونا بالمشاعر والاحاسيس والصراع..فيزداد شوق المتلقي لمعرفة بقية الحكاية..حكاية الرغيف الذي ضاع؟؟؟!!!

يتبع،،