عرض مشاركة واحدة
قديم 07-30-2013, 03:26 AM
المشاركة 46
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
نقره لعرض الصورة في صفحة مستقلة

صحوة في طي الخراب / محمد غالمي .

وبعد شدة وعنت سكنت الأجواء وهمد الكون من صلصله الرجوم الناسفة، ودوي الرعود المزمجرة المنسابة من مؤخرات الطائرات وفوهات الدبابات. كانا بدورهما يدبان في خطى متثاقلة، خائري القوة كسائح غريب زاغ عن سربه، فانتهى إلى مفازة نفد فيها القوت وغاض في جوفها الماء. انقلب المكان إلى شبه لوحة ليس في رحابها سوى الموت يركن للراحة بعدما ظل يخبط كالعشواء.. بدا ركام العمارات المنهكة في هيئة أشباح مزعجة.. ثمة بقايا من جذوع النخيل المفحمة، وهنا وهناك تناثرت هياكل سيارات ودبابات بعد أن قضت حرقا.. ونصب القائد الفولاذي يهوي وتتلاشى أوصاله. جابا الشارع في حذر إلى عمارة تداعى شقها، ودخل الثاني في حالة احتضار.. آثرا أن يربضا عند قدمها خلودا لقسط من راحة، ريثما يخف جسماهما المرهقان من فرط سعي مجهد، فرضته ديمومة جائرة.. وضعا سلاحهما جانبا واندمج كل منهما في أسر عالمه الخاص.. ما خطر للسيد كارمن على بال أن يجد نفسه يوما منفصلا كرها عن الأحضان الدافئة في مونتريال، مقودا قسرا إلى جنة الموت المسكرة في الأدغال.. مرميا بالمظلة في طي هذه الربوع الموحشة.. آه ما ذنبك ليقوض الجبابرة أحلامك ويسوقوا حمامتك إلى مذبح العار؟ يا ليوم الفراق ذلك!.. أمه العليلة وأخته اليافعة الوحيدة، دون غيرهما، من استأثرتا بكامل خاطره واستبد طيفهما بهواجسه وسائر جوارحه. استعاد بعض وعيه، فاستوقف زميله الذي راح يدخن في شراهة ويشكو من حين لآخر فراغ بطنه، وجعل يسائله في همس ساخر بعد أن أطلق في الهواء زفرة تحكي عن ألم دفين:

ـ كيف تلفي نفسك في هذا الربع الخالي يا نطالي؟!.. افتح عينيك عن آخرهما وتمل في ما حولك.. أليست هذه هي الجنة التي بها وعدنا؟!!..(وألفت انتباهه لعويل صبية وطلق مدافع).. اسمع ـ إن أسعفك سمعك الذاوي ـ لزغاريد النساء ونشيد الصغار!! وأرهف السمع لدعاء الشيوخ يمجدون خطوة النصر والظفر يا نطالي!! انظر إلى الصبايا كيف جللت فرحة نزولنا صفائح وجوههن الوهاجة؟!.. وكيف عانقننا بباقات الفل والياسمين!! اسمع لهتافهن.. يا مرحى، يا مرحى بالفجر يبسط غلالته الشفافة..!! ويا هلا بنسائم الهواء تتدفق فتملأ الرئات الجافة..!! أجل يا نطالي، في عيونهم توق إلى حقائبنا الممتلئة عن آخرها بالحرية!.. إن الحقائب المحمولة على ظهور الدواب الحديدية لمقطع مغر من سامفونية الطيور الجارحة .. آه ، ما أقصى أفئدة الذوات المشحونة بالصوان والجرانيت يا زميلي!.. يا لسخرية الأقدار! ضحك على الذقون في واضحة النهار.. خرج نطالي عن صمته، بعد أن دعك ثمالة السيجارة بمقدمة حدائه العسكري ونطق بلهجة متراخية.. أشعر بألم في بطني يا كارمن.. أحسست بجوع فظيع ينهش أمعائي. اختزلت نظرات كارمن كل معاني الخزي والرثاء، وظل على هذه الحال يتفرس في وجه وشحته البشاعة والبلادة، في جمجمة محشوة بالأماني الخادعة. لم يأبه نطالي لهذه الأشعة الحارقة المنسابة من عيني زميله، واستطرد كمن أفاق بعد إغفاء.. يؤلمني أن أراك متضجرا ممعنا في الشكوى إلى منتهى الحدود يا كارمن! هلا عدت إلى صوابك، وطردت عنك ذيول اليأس التي أجهزت على نفسك، حتى تبدت لك الجنة ربعا خاليا ومفازة موحشة؟ تشبث بحبل الأماني يا صاحبي.. غدا أو بعد غد يهدأ الوضع، وينبلج الفجر مشعا الربع الخالي بأنواره ونسائمه الندية.. وما أدراك ـ أنت الذي جئت من أقاصي الأرض برتبة كابرال ـ بأن تعود غدا برتبة أرقى فينظر إليك بإعجاب وإكبار، ويردد الناس والمعارف: عاد اليوتنان كارمن من المعركة غانما!.. فما رأيك، أو لازلت غاضبا؟

ـ فيم يجدي الغضب؟.. لو كان الغضب قادرا على أن يمنحني جناحين لما ترددت في التحليق عاليا..

وعاد نطالي إلى سالف أحلامه السرابية مغريا رفيقه بجنة من وهم، من دون أن يذري بأنه موجود الآن في مكان افترع كبرياؤه، وزمن احترق ربيعه:.. البس رداء التفاؤل واستيقن بأنك ستحلق غدا على متن الطائرة وتجوب الشوارع بالسيارة الفارهة.. البنزين تحت قدميك وبنات دجلة ونسائم الفرات طوع يمينك!!

لم يزد كارمن عن قوله متذمرا: .. يا من زاغ عن دائرة الوعي وارتمى في أحضان المجاهل المريبة.. يا مغرورا بلسان من ينظر إلى واقع الناس بعيون رمداء!

ولهج نطالي: .. يا حبيبي كارمن، خفف من جنوح لسانك..احذر أن تجاهر بهذا الكلام حتى لا تتعرض لضربة شمسية تباغتك بها عيون الصقور التي لا تنام... آي! آي..!

ـ ما ذا أصابك، نطالي؟

ـ الجوع.. الجوع..

ـ انصرف إلى واحدة من هذه الدور المشرعة الأبواب عسى أن تعثر على ضالتك..

ـ هل يسعفني الحظ فأضع يدي على أرنب حية مذعورة عالقة بين الأنقاض؟

ـ وما حاجتك لأرنب حية مذعورة؟

وتمادى نطالي يهدر بما تمليه عليه نواياه الملوثة، مصطنعا أنات متقطعة، مادا في ذات الوقت أنامله أسفل بطنه تعبث في حركات شاذة.. جوع آخر خبيث حارق! لا يرحم يا كارمن..آي.. آي..

فطن كارمن للنوايا الشريرة واكتفى بأن نبس: ـ جرب حظك.. أما أنا فقد أنهكني الإرهاق وأرغب في أن أخلد لنوم عميق.. سألج باب هذه العمارة عسى أن أجد مضجعا آمنا ولو بين أنقاضها..

وانساب نطالي كالكلب الجائع هائما في دنيا الظلام، بينما سعى كارمن في تخطي الحجارة والأتربة.. تمكن بعد لأي من تجاوز الأنقاض، فألفى نفسه على أبواب غرفة لم يطلها النسف والتدمير. تقدم نحو الباب المشرع في خطى وئيدة حذرا كمن يمشي على سطح غرفة مهترئ.. مد عنقه ذات اليمين وذات الشمال خيفة وتوجسا.. أثاره سرير راكن في الوجهة المقابلة.. اشرأب بعنقه مندهشا وتبث بصره على جسد ممدد لا يبدو منه غير الوجه يحفه شعر بني ناعم. مد قدمه اليمنى إلى الأمام معتمدا بيده على لوحة الباب المائلة، فتداعى فجأة جزء من السقف ليجد كارمن نفسه عالقا بين العمد الخشبية كفأر وقع في المصيدة. وعلى الرغم من الألم الذي يكابده ، فقد شعر في هذا الخضم بوحشة مرعبة، انقبضت أنفاسه ولم يعد قادرا على تشخيص دوره في مسرحية عبثية تندر بالويل والثبور.. طاوعته نفسه أن يصيح طلبا للغوث بيد أن لسانه المنعقد خذله.. ومن يسمعه حتى ولو أفلح في تمرير رسالته؟ ندى السامرائي دخلت في غيبوبة حادة منذ تسرب إلى أذنيها دوي النار الذي قصف البيت ووارى الأحبة تحت الثرى في غير ميعاد. وتلاشت إغماءتها وأمست في وضع من أبصر بعد عمى.. واستوت على حافة السرير تنظر إليه في صمت وعيناها المنزعجتان تشعان دهشا واستغرابا.. وفكت عقدة لسان كارمن وخفت وطأة آلامه، وكأن هذا الوجه الصبوح قد شفى بنوره الوهاج كلوم نفسه وندوب جسمه، ومنحه بعض الأنس والدعة.. حرر يده من تحت لوحة خشبية عتيدة وجعل يلوح ناحيتها ويهتف في ما يشبه الهمس:

ـ هبي يا طفلة، مدي لي يديك وأسعفيني ما استطعت إلى ذلك سبيلا..

قامت من على السرير فخطت نحوه منزعجة في صمت مريب، وتفرست في وجهه فنبست قبل أن تمد إليه يدها: ـ من تكون أيها الأشقر الغريب؟ ما الذي جاء بك إلى دارنا؟

ـ فكي قيودي أولا قبل أن يذوب جسمي وينطفئ مصباح حياتي..
ظ
وخلصته بعد لأي من عقاله، فنهض وشد براحتها فانقادت له وشرعا في اجتياز امتحان الأنقاض ولسان حاله يردد.. لن نتخلى عن بعضنا لن أتركك لقمة سائغة للعقبان الهائمة في حمى الغير.. أربأ بنفسي أن أسخر عقابا، أو كلبا صيادا يعزز حفلة قنص دنيئة في حمى الغير..

وسألته ندى ببراءتها المألوفة: ـ إلى أين يا هذا؟ ألا تهاب اللصوص وصعاليك الليل؟ إنهم كالفطر منتشرون في كل مكان..

ـ لا تخافي شيئا صغيرتي.. سوف أحاربهم سرا وعلانية.. خلعت العباءة تحت سياط الضمير

ـ كيف تكون محاربا بلا سلاح؟

ـ سلاحي مدفون في خبايا نفسي.. لن يشق على عقاب مثلي اختراق بني عمومتي! لن أتوانى في تكسير مناقيرهم ومخالبهم..

وفي اندهاش نبست في همس متسائلة:

ـ أ أنت عقاب يا هذا؟ ـ أبدا صغيرتي.. خلعت العباءة تحت سياط الضمير. وجازا منعطفا مفضيا إلى الشارع الطويل.. ما يزال ممسكا بساعدها يواصلان السير إلى.......


تحية صادقة لأستاذنا الكبير محمد غالمي

حقيقة أن تشارك قامة سامقة من طينة الأستاذ محمد غالمي في المعرض فهو تكريم وتشريف بالغ الأثر للأخت صفاء الشويات و كذا لكل المشاركين في المعرض بإبداعاتهم ونصوصهم سواء حظيت بالعرض أو تنتظر فرصتها للظهور ، هي أيضا إعلاء لهذا المنبر الشريف و إكبار لمجهوداته للرقي بمبدعيه و إنتاجاتهم الأدبية . أستاذي الفاضل تقبل تقديري .

من العنوان صنع لنا أستاذنا الحياة من الموت ، صحوة ضمير و استفاقته في لحظة جموح الدمار و انتشار الخراب و طغيان الثأر والجشع .
كارمن نموذج إنساني لمن غرر به و وتم حشره في لعبة قذرة ما إن تجلت خيوطها حتى انتفض وجدانه و استرجع ذاكرته ، وموضع نفسه في الحدث ليجد نفسه رهينة كيد و خداع جرفته خيوطه المنسوجة بدقة مستغلة سذاجة الشباب والجهل بألعاب الكبار .
كارمن هو تلك الروح الإنسانية التي تسائل صناع الموت والغزاة و أهل الطغيان ، وتعري تلك الذرائع الواهية التي يبررون بها عدوانهم ، روح محبة للسلام و الأمن ، هل يحتاج إلى تدمير المباني و حرق الزرع والنسل و و تشريد الأسر لكي يحضر الدواء لأمه العليلة و يؤمن حياة كريمة لاخته اليافعة و لنفسه . هذه المفارقة ليست عادلة حسب ميزان إنسانيته ، صدمه واقع الحرب المخالف لتلك الوعود الجوفاء ، استقبال بالورود واحتفالات بمقدم الحرية ، ليجد صدورا عارية تستقبل الرصاص بفخر و تموت من أجل الوطن ، وجد من يفتدي عرضه بنفسه و ماله و حياته ، وجد أناسا تملؤهم العزة صنعوا ويصنعون الحضارة الإنسانية ، وجد واقعا مخالفا لما شحن به ذهنه من لقطات هليودية ، وجد ثقافة و عمارة و تاريخا و إنسانية ، عندها قرر الاصطفاف إلى جانب المظلوم محاولا إحياء إنسانيته المفقودة .

نطالي نموذج لانسان تملكه جنون القوة ، إنسان مستعد لمحق كل المبادئ من أجل ثقافة عدوانية (مادية) مفادها أن الغاية تبرر الوسيلة ، إنسان يفكر في الترقية على حساب آهات الضعفاء ، و الإغتناء على حساب قوت الفقراء آدمي في صورة وحش فتاك ، مستعد لتصديق الوهم على حساب المنطق ، كل همه شهوة بطن وفرج و جنون عظمة وقوة . إنسان دجنته الدعاية فأضحى عبدا لمقولاتها ، إنسان عطل الفكر و التدبر و القراءة السليمة للواقع . إنسان فقد إنسانيته .

النص يحيي تلك الآمال الجميلة ، أنه يوما تعود فيه الإنسانية إلى رشدها وتقفز على تلك الحواجز الوهمية التي صنعتها قلوب مريضة مهووسة بالاستبداد والعدوان و تصدح دعايتها بالعدل والتسامح والحرية نفاقا .
النص يفتح نافذة في الجرح العربي الذي يزداد عمقا يوما بعد يوم .
النص قوي في أفكاره ولغته و حبكته ونهايته المفتوحة .

شكرا لك سيدي .