عرض مشاركة واحدة
قديم 08-16-2010, 12:38 PM
المشاركة 12
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
أوراق ساخنة (6): الأيتام منارات الفكر عبرالتاريخ



إن تاريخ الفكر الإنساني يشير إلى أن المحطات الكبيرة، أو المنعطفات الأساسية التي مثلت أبرز سمات التطور الفكري الإنساني، والقفزات النوعية، والأكثر أهمية في تاريخ البشرية، جاءت على يد أيتام غالبًا. وذلك على الرغم أنه لايمكن نفي دور تراكم المعرفة المجتمعية والعقلية الجماعية للبشر ككل.

لكن المدقق في تاريخ الفكر يجد أن المحطات الرئيسة، والقفزات النوعية المؤثرة التي أدت إلى بروز مناهج فكرية رئيسة جاءت من قبل عدد من الأفراد الأفذاذ عبر التاريخ، وهم غالبًا أيتام، أو مروا في تجربة فقدان من نوع ما في الطفولة المبكرة، والطفولة وإلى سن إحدى وعشرين عاماً، رغم عدم إمكانية إثبات وقوع اليتم عند بعضهم، وذلك لعدة أسباب، مثل عدم إدراك المؤرخين، وكتاب السيرة لتلك العلاقة المهمة بين اليتم والإبداع، وبالتالي عدم اهتمامهم برصد تلك الحوادث، والتسليم بأن القدرات الإبداعية الاستثنائية تلك إما مجهولة المصدر، أو ربما هي عبارة عن موهبة، يتميز بها بعضهم، أو أنها ناتجة عن الرعاية الأسرية، وإلى غير ذلك من أسباب، ولذلك كان التركيز ينصب على المنتج نفسه، دون الاهتمام بمصدرالمنتج الذي هو الشخص المبدع إلا ما ندر.

والمدقق في السير الذاتية لكبارالمفكرين والمبدعين عبر التاريخ، يمكنه أن يلاحظ مثل تلك العلاقة، وكأن السبب في ذلك هو ما تحدثه حادثة اليتم في شخصية اليتيم من ألم، وحزن، وعزلة، ودهشة، وحرمان بجميع أشكاله، وربما شعور بالنقص، وحالة من القلق، مع فقدان الدرع الواقي الذي يوفر الأمان والشعور بالأمن، وكذلك ربما يتشكل عند بعضهم شعور بالعدمية، بمعنى أن يلف اليتيم شعورً بأنه جاء من العدم، نظرًا لفقدانه أي اتصال مع الوالدين أوأحدهما.

ويمكن أن نقول أكثر من ذلك، أي أن اليتم ربما يحدث نوعًا من التدفقات الكهربية، أو الكيماوية، أو الهرمونية، أو حتى تزايدًا حادًّا في عدد الخلايا في الدماغ، أوتشكل الدماغ بصورة فوق عادية، وهو ما يحدث في حالة بعض الأمراض العقلية المتعارف عليها، رغم اختلاف التأثير والناتج بين الإبداع والجنون، والذي يرى سجموند فرويد بأنهما ينبعان من مصدر واحد.

لكل ذلك حتمًا تأثير كبير على قدرات الفرد الإبداعية، والفكرية التي غالبًا ما تشكل منظومة فكرية متكاملة، أو نهجًا فكريًّا جديدًا، وغالبًا ما ينقض ما سبقه من أفكار، يجد الكاتب أو المفكر المبدع نفسه مدفوعًا بصورة غير واعية لانجازه، ولنهجه الفكري، وكأنه في مهمة مقدسة، وتكليف لا يمكنه الفكاك منه مهما كان الثمن الذي قد يصل إلى الموت، كما حدث مع كثير من المفكرين عبر التاريخ، وهم بصدد الدفاع عن المنظومات الفكرية التي جاءوا بها، والأمثلة على ذلك كثيرة، سنذكر بعضًا منها هنا.

ولا شك في أن مسعى الكاتب، الذي هو غالبًا غير واعٍ، مرتبط أو ربما ناتج عن تلك الحالة التي يجد الكاتب نفسه، وقد برمج للقيام بها، فالإنتاج الإبداعي والفكري يمكن أن يفسر على أنه سعي، غالبًا غير واعي، من أجل إزاحة الألم والحزن، أوربما خلق نوع، ومستوى آخر من التواصل والتعبير، وربما تدفع الدهشة من تجربة الموت الإنسان اليتيم لأن يبحث عن إجابات، تقدم تفسيرًا للوجود، ومن أين جاء الإنسان؟ وإلى أين ينتهي؟
كذلك يندفع اليتيم لمحاولة تفسير الطبيعة الإنسانية، والحصول على نوع بديل من اللذة، أو ربما البحث عن الاكتمال، ومحاولة تعويض الشعور بالنقص، وإزاحة القلق بالتفريغ، لتحقيق نوع من التوازن.

وكأن تجربة اليتم تحدث نوعًا من الثورة الوجدانية الهائلة في ذهن اليتيم، فيندفع الشخص دون أن يدري، وبصورة غير واعية أيضًا للبحث والتفكير ومحاولة حل لغز الحياة، حيث يتحول ذهنه إلى آلة تنتج الأفكار دون هوادة، وربما يكون هناك تأثير فسيولوجي هرموني، أوكهربي، أو كهرومغناطيسي، يؤدي إلى حدوث مثل تلك الثورة الفكرية في ذهن المفكر.

ورغم عدم وجود تدوين في العصور القديمة، وصعوبة نقل المعلومات، وعدم إدراك أهمية اليتم في تلك السنوات كدافع للإبداع والتميز والتفكير، لكننا نجد بين فينة وأخرى ذكراً لموضوع اليتم، حتى في الكتابات الأسطورية الموغلة في القدم، وربطه مع أشخاص أفذاذ في تاريخ البشرية القديم.

وربما يكون حمورابي الذي وضع شريعته المشهورة في عام (1900 قبل الميلاد تقريبًا)، أول مفكر يتيم معروف ومسجل في تاريخ البشرية، حيث كان له دور بارز ومدون، ذلك ما تشير إليه قوانين حمورابي التي وضعها، حيث يختتم حمواربي قوانينه الـ (285 ) بالقول، " إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي، التي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة، وحكومة طاهرة صالحة. أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكاد، وبحكمتي قيّدتهم حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم، والأرملة.
وعلى الرغم أنني أحصر مقالي هذا في الحديث عن الفكر الوضعي، والمفكرين المبدعين الوضعيين، لكن يمكن التنويه بأن الأنبياء المرسلين بدءًا من سيدنا إبراهيم الخليل، هم جميعًا أيتام، أو مروا بتجربة الفقدان بشكل أو بآخر، وكأن اليتم متطلب أساس لبناء الشخصية، حتى يكون لديها القدرة على احتمال عبء الرسالة، ولكنني أترك الحديث عن العلاقة بين النبوة واليتم للمتخصصين في هذا المجال.

كذلك فان حملة لواء الديانات الأرضية القديمة، والتي يستمر نفوذها حتى الآن مثل كنفوشيوس وبوذا هم أيتام، وتمثل تعاليم هذه الديانات أسسًا فكرية مهمة، حاولت شرح الحياة، وتقديم تفاسير لكل الظواهر الطبيعية والإنسانية، ثم هناك الخالدون المائة، والذين ورد ذكرهم في كتاب مايكل هارت ثبت أنهم في معظمهم أيتام، كذلك فإن البحث والتمحيص في السير الذاتية، لعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين،أثبت أنهم مروا بفجيعة اليتم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، أفلاطون، وجان بول سارتر، وهيجل، وأبو حامد الغزالي، والمهاتماغاندي، والمتنبي ، وادجر ألن بو، ونيوتن، وجابر بن حيان، والإمام الشافعي، وسيمون بولفارد، وديكارت، وديفد هيوم، وغيرهم الكثير.

ونجد أن من الأيتام من ادعى النبوة مثل المتنبي، حيث يقول في أكثر من مقام له ما يشير إلى أنه كان ينظر إلى نفسه نظرة المعتز، الذي وجد مقامه يشابه إلى حد كبير مقام الأنبياء بين قومهم حيث يقول :
أنا في أمـة تداركــها الله ..........غريـب كـصالح فيثمـود
ما مقامي بأرض نخلةإلاّ.............. كمقام المسيح بين اليهود

ولا شك في أن هناك كثيرًا من الأيتام أسسوا ديانات خاصة بهم، مثل مؤسس الديانة البهائية، وهذا على سبيل المثال أيضًا المدعو محمد رضا الشيرازي، والملقب بــ(الباب) الذي ولد في مدينة شيراز في (1819م) – ومات في (1850م)، وترجع سلالته إلى السيدة فاطمة الزهراء، حسب ما يعتقد أتباعه، وتربى في رعاية أحد أخواله، وقد كان والده توفي قبل ولادته.

ومؤسس الديانة المانوية، حيث عاش ماني بن فاتك تجربة قاسية من ناحية أمه، إذ أمضى طفولته محرومًا منها، بل محرومًا من حنان الأنوثة بصورة تامة، وتبدأ المعاناة عنده عندما تخلى أبوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، إما أن تكون الصابئة نفسها، أو طائفة منشقة عنها. والمشكلة إن هذه الطائفة المحسوبة على الصابئة التي انتمى إليها (فاتك) كانت تعادي المرأة، وتعتبرها رجسًا من عمل الشيطان، وترفض أي اتصال بها، أو تقربًا منها، بل ترفض حتى دورها الأمومي، لهذا ما إن بلغ الطفل (ماني) عمر أربع سنوات، حتى أتى أبوه (فاتك) من (ميسان) حيث كان منعزلاً مع طائفته، وأخذه من أمه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيدًا عن الحياة الفاسقة، وعن المرأة خصوصًا.

وهناك من اعتبرهم محبوهم ومريدوهم أنبياء رغم عدم ادعائهم النبوة، وذلك كنتيجة للصفات الاستثنائية، فوق الطبيعية التي يتميز بها اليتيم، عادة وهم لا شك كثر عبرالتاريخ.

والدارس للسير الذاتية للأيتام، وبخاصة فئة القادة الذين حكموا عبرالتاريخ، وتركوا بصماتهم أمثال جنكيزخان، وعبد الرحمن الداخل، وجمال عبد الناصر، وصدام حسين، والإمام الخميني، والشيخ عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وغبرهارد شرودر، ونيلسون مانديلا، والشيخ أحمد ياسين، وياسر عرفات، وبل كلينتون، وجوزف ستالين، ولينين، وقيصر والاسكندر، وحتى الرئيس الجديد أوباما نجد إنهم يتمتعون بصفات استثنائية تشكل في مجملها بدون شك قدراتهم التي دفعتهم للقيادة.

وها هو أحد كتاب السيرة، ابن حيان، يصف عبدالرحمن الداخل أحد القادة المسلمين في الأندلس كمثال صارخ على الصفات التي يمتلكها القادة الأفذاذ الأيتام: "كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوًّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه".

وها هي نبذة، متوافرة من خلال آليات البحث على الانترنت، من كاتب يتحدث عن الرئيس الأمريكي السابق بل كلنتون يقول فيها: "إعجابي بهذا الرجل ليس فقط لأنه كان رئيس أعظم دولة في العالم، ولكن لأنه أحد أذكى رجال القرن الحادي والعشرين، وأكثرهم حنكة وسياسة، فقد تعدت رؤية هذا الرجل لقيادة دولته، حتى أصبح من المنظرين والمفكرين للإنسانية جمعاء.. ذلك الرجل حقيقة يستحق التقدير، ليس لكل النجاح الذي حققه في أثناء فترته الرئاسية، ولكن لقدرته على الظهور بهذا الشكل البسيط والمتواضع ، وأعتقد أننا لم ننته من سماع آخر أخباره، فمن المؤكد أنه لن يغيب عن تسجيل تاريخ هذا القرن".

ومما قيل عن القائد عمر المختار على لسان أستاذه المهدي السنوسي: "لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختارلاكتفينا بهم، ويقال إنه كان يتصف بالنجابة ورزانة العقل، وكان يمتلك ملكات مثل جشاشة الصوت، وعذوبة اللسان، واختياره للألفاظ المؤثرة في فن الخطابة، وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة على مستمعيه، وشد انتباههم.

ومن الصفات الأخرى المشتركة، بتفاوت، في القادة الأيتام كما هي مذكورة في سيرهم الذاتية المتوافرة للقراء: تمتعهم بكرزما طاغية، وعيون ثاقبة، وميض في العيون، وحب للمغامرة، والشجاعة، والحكمة، والكبرياء، والطموح، والانقباض، الميل إلى تجنب الآخرين، العزلة، حياة شقية، الاعتماد على الذات، الصبر والقدرة على التحمل، الإبداع، العزيمة، علامات القيادة، النجابة، ورزانة العقل، والنزوع إلى الرئاسة، والنظر إليه على أنه نادرة زمانه، سابق عصره، ومصدر الهام للآخرين.

ومن أهم الصفات التي يبدو أن رواد الفكر الأيتام قد تميزوا بها: عدم أخذهم بالنظم القائمة، واندفاعهم للبحث والدراسة، واستنباط الأفكار بهدف الإتيان بالجديد، واندفاعهم الثوري للانقلاب على ما هو قائم لتشكل منظومة أفكارهم الجديدة البديل عما هو سائد، وذلك في مقابل نزوع الجمهور إلى التمسك بالتقاليد، وبما هو قائم. ولذلك غالبًا ما كان ينتج عن الفكر الجديد رد فعل قاسٍ من المجتمع المحيط بالمفكر على اعتبار انه جاء ليهدم ما وجد الجمهور عليه آباءهم. ولذلك نجد أن قادة الفكر قد تعرضوا عبر العصور للاضطهاد والعقاب بمختلف أشكاله .

ومن أبرز المفكرين الذين تعرضوا للعقاب في عصور ما قبل التاريخ، الفيلسوف سقراط، الذي أجبر على تناول السم بسبب اتهامه بالإتيان بآلهة جديدة ضد آلهة الإغريق الأسطورية المتعددة، حيث قال إن أصل المعرفة يأتي من العقل نفسه. كما تعرض جاليلو في القرن السابع عشر إلى المحاكمة، وحكم عليه بالإعدام إذا لم يتراجع عن أفكاره التي نادى بها، والتي تقول إن الأرض ليست مركز الكون، إنما الشمس كما أثبت من خلال التجربة العلمية.

كذلك دفع جيوردانيو بونو في العام (1600م) ثمنًا غاليًا لفكره، حيث لم يكتف هذا المفكر بالقول، إن الله موجود في الطبيعة، بل افترض أيضًا أن الكون أزليّ. وهما ادعاءان كلفاه حكمًا بالغ القسوة، فقد أحرق في ساحة السوق في روما.

كما أعدمت امرأة فرنسية من المناضلات في سبيل المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في العام (1791) تدعى أوليمب دو غوج، بسبب إعلانٍ نشرته حول حقوق المرأة، لأن هذه الحقوق لم تجد مكانًا لها في فصل محدد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن.

ومن المفكرين الأيتام الذين تركوا بصماتهم على الفكر، من خلال مناهجهم الفكرية المهمة، الفيلسوف أفلاطون، وهو فيلسوف إغريقي يعتبر أعظم الفلاسفة الأقدمين دون منازع، وكانت أعماله هي الشرارة الأولى التي أشعلت جميع المسائل والأفكار الفلسفية في العالم الغربي حتى اليوم، وكانت أيضًا الحافز الأول لظهور علم النفس، والمنطق، والسياسة، و قد خلفت تلك الأعمال تأثيرات عميقة على الحياة العلمية في مختلف عصور التاريخ.
َ
ولد أفلاطون في أثينا عام (428) قبل الميلاد، وكان زوج أمه، بعد وفاة أبيه، من مساعدي حاكم أثينا (بركليس) المشاركين في السياسة والزراعة، وكان لإعدام أستاذه سقراط من قبل السلطة أثر كبير في نفسه، لا سيما وأن سقراط كان من أصدقاء عائلته، وقد انعكس ذلك الأثر بشكل واضح في كتاباته. بعد موت سقراط اعتزل أفلاطون الحياة العامة في أثينا، وخرج منها مرتحلاً لعدة سنوات.

والفيلسوف ديكارت، صاحب منهج الشك، الذي ولد في العام (1596م)، وعاش حياة ترحال عبر أوروبا كلها، وقد توفيت أمه بعد عام من ولادته، وربته جدته، والمعروف أن ديكارت كان فذًا، ومنذ شبابه المبكر ظلت تمتلكه رغبة حادة في التوصل إلى معارف أكيدة بشأن الطبيعة، والإنسان، والكون، وقد انتهى إلى قناعة بعد دراسة الفلسفة أنه جاهل بشكل كامل، وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في الفلسفة، حتى بعد موته، وعليه اعتبر أبو الفلسفة الحديثة، حيث تمكن من جمع أفكار المرحلة في منهج فلسفي مترابط، وقد كان متقدمًا على عصره.

أما ديفد هيوم، فهو من مواليد مدينة اسكتلندا سنة (1711م)، توفي والداه وهو في سن الثالثة من العمر، فرباه عمه جورج، وهو كاهن في كنيسة، ومن أشهر كتاباته كتاب ألفه في فهم الطبيعة الإنسانية، وهو رائد من رواد الفلسفة التجريبية الذي لا يزال الأكثر تأثيرًا من بين التجريبيين، وقد نشر كتابه الأهم في الثامنة والعشرين من عمره، وهو بعنوان " أطروحة في الطبيعة الإنسانية"، لكنه كان يؤكد أن فكرة الكتاب كانت لديه منذ سن الخامسة عشرة.

وهيجل الفيلسوف الكبيرصاحب الفكر المثالي، ولد عام (1770م)، وقد توفيت أمه وعمره أحد عشرعامًا، وتعتبر فلسفته معقده جدًّا ومتعددة الوجوه، ولكن بعض النقاط الأساسية تشير إلى أن مصطلح الفلسفة يعني عند هيجل منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، ومن أفكاره أنه لا يمكن فصل أيفيلسوف، أو أية فكرة عن سياقها التاريخي، فالعقل عنده تقدمي، أي أن معرفة الإنسان هيفي تطور مستمر، ومن هذه الزاوية، نرى أنها تتجه دائمًا إلى الأمام، بمعنى أن تراكم المعرفة والمعلومات يجعل من يأتي لاحقا أقدر على طرح أفكار أكثر دقة، ولكن ذلك لا يعنيأن الأمر يتوقف هناك، فالأفكار تخضع لنقد الأجيال اللاحقة، ويقول هيجل إن فكرالعالم سينمو، ليصل إلى وعي أكبر فأكبر لذاته، تمامًا كما تصبح الأنهار أوسع مجرى كلمااقتربت من المحيط، فليس التاريخ برأي هيجل إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم على نفسه، لقد وجد دائمًا، ولكن عبر ثقافات البشر وتطورهم، أصبح فكر العالم يعي خصوصيته أكثر فأكثر.

والصحيح أن العقل الجماعي ظل دائمًا يقاوم أي فكرجديد، ولكن فكر الأشخاص الأفذاذ ظل دائمًا يجد له منفذًا، ويجد طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم، حتى وإن ترددت البشرية بالأخذ به في زمن المفكر، ولكن نجد أنه غالبًا ما يتم الرجوع إليه، والأخذ به في زمن لاحق، ويرد له اعتباره، وكأن المبدعين الأيتام يعيشون فعلاً في زمن يتقدم على زمانهم.

أخيرًا ، لا بد من التنويه بأن المقال هنا يشكل رصدًا لظاهرة تعتبر على درجة عالية من الأهمية، ويمكن رصدها وملاحظتها في الكتب والمراجع وكتب السيرة، ولا يمكن الادعاء بأن الاستنتاجات هنا هي حقائق علمية يمكن الأخذ بها كمسلمات، فلا شك في أن كل جوانب هذه الظاهرة ما تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة، والبحث، والتمحيص المتعمق، ولكن تظل هناك حقيقة قائمة وأكيدة، وهي أن كثيرا من الأيتام هم رواد التجديد، وحملة ألوية الفكر عبر التاريخ، إضافة إلى كونهم القادة الأفذاذ، والأدباء المبدعون في مجالات الأدب والعلوم المختلفة.