الموضوع: أدب السجون
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-28-2010, 09:58 PM
المشاركة 6
عبير جلال الدين
كاتبـة مصـرية
  • غير موجود
افتراضي
مليكة تتحدث عن دورها


نجحت بتحمل عشرين سنة من السجن أفضل من أخوتي ربما لأنني كنت متمرسة وصاحبة خبرة في هذا المجال ،أعرف ماذا تعني الوحدة وأعرف ماذا يعني الهجران..
ليس هذا هو كل ما يؤلمني ويمزقني كل شيء يمضي ويمر إلا أن يكون عدوك هو جزء لا يتجزأ منك..
وتلك هي المصيبة والهزيمة..

* لقد توليت الاعتناء بهم ، وتثقيفهم وتأديبهم ، حاولت بشتى الوسائل الممكنة رفع معنوياتهم..
كنت أختهم الكبرى وأمهم وأباهم ومستودع أسرارهم ، ومرشدتهم وحاميتهم..
وكان هذا الأمر طبيعياً بالنسبة لي..
كانت العاطفة التي أكنها لهم عميقة وأقوى من مجرد عاطفة الأخوة..
على غرار أمي كانوا هم أكثر ما أحب في الحياة ..
لأجلهم وحدهم كنت أتألم وليس لأجلي..

*علمتهن الثقافة والتهذيب والعلم وآداب السلوك واحترام الآخرين..
لم أكن أسمح بأي عبث أو استهتار أو تجاوز للقواعد والأصول..
كنت أُصر على التقيد بآداب الطعام أثناء تناول الوجبة..
غسل اليدين ، المضغ بتأن وروية ، الجلوس المستقيم ، عدم إهمال عبارات شكراً..
من فضلك..معذرة..

*استطاعت مليكة أوفقير أن توصلهم بالعالم الخارجي بطريقتين
الأولى "راديو" مهرب فكانوا ينصتون لما يحدث في العالم الغائب عنهم.
وقامت بتأليف 150 قصة من خيالها على مدى 11 سنة فكانت ترويها لهم طوال الليل
مثل شهرزاد من خلال أنابيب مرروها بين الزنزانات سرا فكان صوتها يصل إليهم حتى مطلع الفجر وهي تسليهم بقصة، وتخرج من قصة، وقصة تشرح قصة، وقصة تدخل في قصة،
عرض ( للوجع )


في مزيد من التفنن في الإذلال أمر الملك بأن تنقسم الأسرة إلى قسمين في نفس القبو الذي تتخذه الفئران والصراصير مقرا دائما، ومرت عدة سنوات لا ترى الأم فيها أولادها وبناتها وهم يعيشون موتى ويموتون أحياء في نفس المكان، ويفصل بينهم جدار..

تصف مليكة رؤيتها لعائلتها بعد سنوات من العزل..

في الساعة الثامنة صباحاً.. .
فتحوا كل الأبواب ودفعونا باتجاه الخارج كدنا نجن من الفرح برؤية بعضنا البعض مجدداً إنها المرة الأولى منذ أعوام..لقد تغيرنا كلياً..
لم تعد أمي تعرف فتياتها التي كن صغيرات تركت سكينة وماريا وهن في الرابعة عشرة والخامسة عشرة وهما الآن شابتان في الثانية والعشرين والثالثة والعشرين..
أصبح رؤف رجلاً قامته أشبه بقامة أبي..
أما عبد اللطيف فغدا شاباً في السادسة عشرة من عُمره..
وأمي كعهدها مازالت جميلة،ولكن أثار المصائب والهموم كانت واضحة عليها..
شعر حليمة وعاشورا أصبح بلون الرماد..
غدونا جميعاً بقامات هزيلة ،وبوجوه شاحبة ممتقعة ،وعيون محاطة بهالات زرقاء،ونظرات تائهة زائغة......


وتستمر مليكة في هذا الوصف إلى أن تقول..
ولكن فرحة اللقاء طغت على ما عداها..
كنا ممزقين مابين الرغبة بالتعانق والتلامس ،والرفض بإظهار ما كان يعتمل بداخلنا من ألم بسبب الفراق ،أمام أعين جلادينا المسلطة علينا من كل حدب وصوب..
لم نتخلى عن تحفظنا .
أذهلت تصرفاتنا المتماسكة بورو_جندي مسئول _الذي راح يشجعنا على الاقتراب من بعضنا البعض وهو يقول..هيا تعانقوا ،اعلموا أنه بمناسبة عيد العرش ،سيسمح لكم منذ الآن فصاعداً بالتواجد مع بعضكم يومياً بدءاً من الثامنة والنصف صباحاً حتى الثامنة مساء..


شكراً لأنهم منحونا هذا الإحسان بعد مضي خمسة عشر عاماً بين قضبان زنزاناتهم..!!؟؟..


*ليس ماسبق هو الوجع فقط..فهناك الجوع..
الذي تصفه لنا مليكه فتقول..
تباً للجوع وسحقاً له..
كم يذل الإنسان ويحط من قدره ..
إنه ينسيك أهلك وعائلتك وأصدقاءك ويجردك من كل قيمك ومبادئك..
وينتزع منك كرامتك وإنسانيتك ويحولك إلى وحش بشري لا يأتمر إلا بغريزته ..
وهذا ما أصابنا نحن.. لقد كنا نرزح تحت نير الجوع الدائم ولم نشعر يوماً بالشبع أما التخمة فقد انمحت منذ زمن من قاموس تداولنا نحن بالكاد نجد ما نسد به الرمق....

،،