عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
50

المشاهدات
19501
 
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي


ايوب صابر is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
12,766

+التقييم
2.39

تاريخ التسجيل
Sep 2009

الاقامة

رقم العضوية
7857
01-02-2016, 08:51 AM
المشاركة 1
01-02-2016, 08:51 AM
المشاركة 1
افتراضي ادب سليم بركات...الشاعر والروائي والفنان العبقري الفذ والمتفرد في نصوصه
القدس العربي» تنشر مقاطع من روايته الجديدة… سليم بركات في «أقاليم الجن»: مزيد من الخيال الجامح
january 1, 2016

ستوكهولم ـ «القدس العربي»: خيال بلا حدود يجعل من رواية سليم بركات الجديدة «أقاليم الجن» (تصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. في 500 صفحة) سجلاًّ لا يشبهه سجلٌ خيالي. جاء بركات إلى الرواية العربية بالفانتازيا في «فقهاء الظلام»، وبالمسارات الرمزية في معظم رواياته الأخرى، وبالمساق الأسطوري في «كهوف هايدراهوداهوس»، والرواية الواسعة الملحقة بها «حوافر مهشَّمة في هايدراهوداهوس»، إضافة إلى لعبته الغريبة بحكاية عن التماثيل ذات المهمات المدروسة «ثادريميس».
رواية « أقاليم الجن» بحث في عادات وتقاليد، وتناسل وأخلاق الجن، إلى درجة تحيِّر السؤال: من أين استقى المؤلف مصادره؟ لقد بنى عالماً لا شبيه له بقوانينه وأنظمته وعاداته وطبقات الجن فيه. ربما تتقاطع أحياناً مع أنظمة البشر لكنها لا تتطابق، ولن تتطابق لاختلاف طبيعة النوعين.
أبرز سمات الرواية ذلك الصراع المعلن والقاسي والعنيف بين ابن وأمه على وراثة أحد أقاليم الجن. فالزوجة قتلت زوجها السلطان غدراً لأسباب متعددة في سياق الرواية، وعندما يطالب الابن بميراث أبيه تماطل الأم في نقل التوريث إليه بكسب عقول سادة الفرق المحاربة إلى صفها. لكن الابن لا يلبث أن يتصدى لخططها بخطط مضادة، ودهاء قوي يقلب على أمه كل شيء، باتفاقه مع سادة المحاربين على التناوب في مشاركته حكم الإقليم، ثم ينتهي به الأمر إلى قتل أمه قبل انقلاب سادة المحاربين عليه بقتله هو.
هذا تفصيل من هيكل الرواية. فعميد المحاربين الأقوى بين سادة الفرق يجد نفسه مقصياً في هذا الصراع. لكنه يستولي بفرقته الكبرى على أرض «مانعات الرياح» ليبدأ من هناك التخطيط لحصار الفرق الأخرى. وتسمية «مانعات الرياح» مصطلح في الرواية يشمل تلك الابتكارات الهندسية في صناعة أبراج، وأسوار تتصل ببعضها يمكنها حجب الرياح الدائمة الهبوب في أرض الجن عن الأمكنة المطلوبة محاصرتها. والجن إذا حُجبت عنهم الرياح هدأت حركتهم وصاروا ثابتين جامدين.
عوالم غريبة جداً: هناك طيور عمياء مقدسة على الهضبة في إقليم جن هذه الرواية، يمنحها الجن لحوم موتاهم، فيما يرتدون هم جلود أقربائهم، ويأكلون عظامهم التي لا طعام لهم سواها، ويخافون البلل من الماء ولا يأكلون ثماراُ أو نباتاً. هناك فريق من النساء يسميهم المؤلف «التَّرِيْكات» وهنَّ من لم يساعدهن الحظ على التناسل من ذكور الجن، فهن منبوذات بلا نسل. هؤلاء النساء يعمدن إلى اغتيال الذباب الذي يتناسل به الجن (عملية التناسل غريبة جداً ومعقدة في الرواية، ليس فيها أي اتصال جنسي). ومع الاغتيالات تظهر الأقنعة لأول مرة في تاريخ الجن. أقنعة ترتديها الإناث «التريكات» في ارتكاب أفعالهن، وهي على صورة وجه أنثى آدمية تظهر بلا تمهيد في إقليم زينافيري (إقليم وقائع الرواية)، فتدور حولها وقائع كثيرة، وتظهر تأويلات في تفسير ظهورها بين جن نجد أشكالهم تشبه بأنصافها العلوية أشكال البشر قليلاً، لكن أرجلهم هي أرجل الجراد من أحواضهم نزولاً حتى أقدامهم.
الأنثى الآدمية هادئة المظهر والطبع، مستكينة وسارحة كأنما لا يعنيها ما يجري حولها. منجِّمو معبد الإقليم يأخذونها إلى معبدهم، ثم يضمها السلطان إلى حديقة حيواناته التي تحوي أنواعاً غريبة جداً من طيور «كارنا» الطويلة الأعناق كالأفاعي، والذئاب الصفر، ونمور بوابات الرمال، وبعض الجن الأقزام الصغار جداً، لهم أذيال وعلى جلودهم شيء من الريش.
لكن الإناث «التريكات» يخطفن الأنثى الآدمية من حديقة السلطان فيأخذنها إلى مساكنهن البعيدة جداً عن مدينة الإقليم وقراه ذات الأبنية من عظام الحيوانات، قبل أن تظهر مجموعة صغيرة من البشر فجأة فيتعرفون على الأنثى الآدمية كأنها كانت مفقودة، ثم لا يلبث أن تظهر جماعة ثانية من البشر تقتل الجماعة الأولى وتأخذ الأنثى أسيرة. في أثناء وجود المرأة الآدمية بين الإناث الجنيات «التريكات»، يتبادلن لعبة من النفخ في ثقوب الحجارة معها، تقليداً لما يفعله الذكور والإناث من الجن في عملية التناسل، ثم يضعن تلك الحجارة إلى جوار منازلهن التي هي حُفر في الرمل.
تفاصيل كثيرة تتداخل مع الوقائع الرئيسية في اتجاهات لا يمكن إيجازها: فهناك «مَجْمَع الذباب» الذي يشرف عليه شعراء يختارون للجن الطالبين للنسل ما يناسبهم. وهناك المعبد والمنجمون ذوو المهمات غير المعروفة كالتي نعرفها في مهنة المنجمين. وهناك الهضبة الحمراء الغامضة، وطيور «لاكيلا» العمياء، والأعمى «ماشفير» المتمرد على سلطة الإقليم، وقيَّاف البروق، وزوجة السلطان الثانية التي تغتالها زوجته الأولى بغرقها في بركة ماء، وهناك «الجن المطايا»، وهم من يختارونهم ضخاماً جداً وأقوياء يركبهم الجنُّ السادة كالخيول في تنقلاتهم. وهناك الحانة التي لا يشرب فيها الجن (هم لا يشربون الماء أبداً) شيئاً كما نعرف عن الحانات، بل يقف الواحد منهم في الحانة مقابل الآخر صامتاً، و»يتخاطران» حتى الفجر بلا أدنى همس. وهناك الأرض الخاصة بصناعة أبراج «مانعات الرياح» تحت إمرة مهندسين وصنَّاع وعمال ذوي اختصاصات في صناعتهم. وهناك واحة «كيما» لصيد الحيوانات من أجل عظامها، أما لحومها فتقدم طعاماً إلى الطيور العمياء، ثم هناك الثلج الذي يهطل لأول مرة في حياة الجن على أرضهم فكأنها النهاية الكبرى لانحلال ممالكهم.
لكن الرواية المتعددة المسارات تنتهي بضربة شديدة الإيجاز في تلميحها: سنسمع تشققاً لصخرة تحت طبقة الثلج من تلك الصخور التي تسلت الإناث «التريكات» مع الأنثى الآدمية بالنفخ في ثقوب فيها. فهل سينبثق نوع جديد من المخلوقات ممتزج الخصائص من الجن والبشر؟ بركات يتركنا في حيرة مثل حيرتنا من عالم الجن كله في هذا التأليف الشامل المبتكر المتعدد، الخرافي الأسطوري «الجامح الخيال» كما يقول محمود درويش عن صديقه الشاعر سليم بركات.
هنا مقاطع من الفصل الأول، خصّ بها المؤلف «القدس العربي»:
غاياتُ التفصيل.. ومَطالعُ التوثيق
تلقَّفتْ طيورُ لاكِيْلا، ذوات الجسومِ النسورِ، والرؤوس العظام بلا لحمٍ عليها أو جلد، نفيرَ البوق الحجرِ، جاثمةً على أعشاشها فوق قمة الهضبة الحمراء. منذ ثمانين عاماً لم ينفخ بوَّاقٌ في البوق الحجر معلَّقاً إلى غصن من شجرةٍ لا كالشجر، ابتناها النحاتون تصميماً من عظام شتَّى لحموها قِطعاً بالسيور الجلد، ونصبوها إلى الجهةِ الشرق من بوابة المَعْبد الكبير، في الساحة، وسط مساكن قبيلة زِيْنَافِيري المنيعة، المهيبة، في أقاليم الجن. أدارت الطيورُ رؤوسَها الفارغةَ المحاجرِ، لا عيون فيها، صوب مهبِّ النفير لم تبعثره الريحُ كاقتدار الريح على التقويض. داخَلَ النفيرُ الريحَ، ذلك الصباح، على الأرض الرمل ممتدَّةً كسماءٍ؛ عَلِقَ بزغبها الخفيِّ، فوزَّعته الريحُ قطرةً قطرةً من الصوت على الجهات، حيث حلَّتْ وارتحلتْ بالنقوش النافرة للصوت كارتحالها بالنقوش المتقوِّضةِ، الفوضى ـ نقوشِ الرمال.
سبع مرات نفخ البوَّاق في الأسطوانةِ النحتِ من حجرٍ ذي مسامَّ، ثم أعاده معلَّقاً إلى غصنٍ في الهيكل المصمَّم شجرةً من عظام. نهض الصخبُ واقفاً على أقدامه الذهبية مُذْ تزاحمت المعابرُ في مدينة جنِّ زيْنافيري بالملبِّيْنَ النداءَ النذيرَ. جموعٌ هبَّت قفزاً على سيقانها، ثم تراصَّت، بعد بعثرةٍ، في انتظام. جمهراتٌ جاورت جمهراتٍ على نحوٍ محسوب في علوم الخطط انجزها عقلُ المحاربيْنَ جيلاً عن جيل، فطنةً عن فطنةٍ، دُرْبةً عن دُربة، واختباراً عن اختبار. سريعاً كانت فِرَقُ المحاربين على أهبةٍ بأسلحتها العظام في أيديها، والخوذِ الحجرِ على الرؤوس، مستقبِلةً بوجوهها، صفوفاً أنصافَ حلقاتٍ، هيكلَ الإله الأكبر كُوْياسِي، الذي لم يتوقف مصمِّمو هيئته، منذ النشوء الأول لقبائل الجن، عن التبديل فيه. كُلُّ حكيمٍ، أو قائد، أو مُنجِّم، أو سيدٍ من أسياد السلالات، له الحقُّ في إِملاءِ إضافةٍ إلى الشكل استِزادةً، أو إملاءِ إنقاصٍ يتولى المصمِّمون تنفيذَه بلا اعتراض. هو هيكلٌ ضخمٌ من مجموع عظامِ المخلوقاتِ شتَّى، جنًّا، وحيواناتٍ، وطيوراً، جرى رصُّها قطعةً إلى قطعةٍ، في حسابٍ حاذقٍ لسقوط الظلال من بعضها على بعض، ولعبور شعاعات الشمس من خَلَلِ فراغاتها على الساحة المحيطة بالمعبد. وقد تراكم الهيكلُ الإلهُ علواًّ، واتساعاً، على نحوٍ يُرى، من كل جهة فيه، مخلوقاً متداخلاً من هيئاتٍ محيِّرة في انتسابها إلى كائنٍ بعينه. والجموعُ المحاربون، الذين لبُّوا نداءَ البوقِ النذيرَ، قادمينَ قفزاً على سيقانهم ـ سيقانِ الجراد، شخصوا تحديقاً إلى الهيكلِ الإلهِ يَرى كلٌّ فيه، بالخيال النحَّات في باطنَيْ عينيه الحجريتين، صورةَ الحقيقة التي تُلْهِمه الولاءَ عنيفاً للإرث في إقليم زينافيري.
بعد برهات من إِحكام الفِرَق صفوفَها منتظِمةً، متهيئةً، متأهبةً، شقَّ الغبارُ العاصفُ قميصَه عن قائد المحاربين مَاَيَاكي ممتطياً جنِّياً ضخماً يقود الريحَ خلفه بأرسان السرعة قفزاً على أربعٍ ـ ساقيه، ويديه معاً كدابَّةٍ. لجم الجنيُّ المطيَّةُ سرعتَه غوصاً بقدميه في الرمل. انتصب واقفا فنزل ماياكي عن ظهره.
للجنِّ السادة مطاياهم من الجنِّ الضِّخام تمشي على أربع إن اقتضى الانتقال، أو على الساقين إنِ اقتضى. الجنُّ السادة، والعاديون، والجنُّ المطايا، كلهم متشابهون في نشأة أعضائهم، إلاَّ بتمايزٍ في ضخامة المطايا عن غيرها، لذا تُتَّخذ كالدَّواب لنقل راكبيها. ماياكي وصل بمطيته الأسرع من شعاع على هضبة طيور لاكيلا المقدَّسة، حين اكتملت أُهبة الفِرَق المحاربين تلقاءً بلا مرشدٍ، يعرف الواحدُ، بخصِّيْصة الخطط عن خيال المحارب فيه، أين موضعه وموقعه.
تمشَّى قائد المحاربين مستعرضاً جمهراتِهِ في سلاحها وخُوَذها، فتمشَّى الجنيُّ المطية من خلفه كحرَسيٍّ. قلَّب عينيه الحجريتين الرماديتين في محجريهما تقليبَ الرضا. عيون الجن عيونٌ حجر في محاجرها، رمادية، كتيمة كأعين التماثيل لا بريقَ فيها، أو حدقاتٍ. لا أجفان لعيونها. محدِّقةٌ أبداً من الرؤوس الصِّغار، المستطيلة الوجوه. ذكورُهم جُرْدٌ لا ينبت شعر على جلودهم. وهم يتخذون من شعور رؤوسهم الرمادية على زرقةٍ جدائلَ طويلاتٍ، حرَّةً على جهات الوجوه. عِجافٌ هزيلون، ذكوراً وإناثاً، كهياكلَ عظامٍ عليها جلودٌ خشنة، رمادية، بنقوشٍ من خطوط ونقاطٍ بِيْضٍ وصُفر تولد معهم، هي ـ في زعمهم ـ تدوينٌ من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. والجنُّ، جُملةً، ذوو أيدٍ ضخامٍ، مفرطة في ضخامة راحاتها وأصابعها، لا تتناسب مع جسومهم العجاف. هي أيدٍ كلما تضاءلت، وانكمشت، وتصاغرت، دلَّهم أمرُها على شيخوخة واحدهم. أنوفهم مطموسة، مَسحاءُ، مستوية مع صفحات الوجوه، لا دليل عليها إلا ثقبان في الوجه الواحد، فوق الفم، ينتفخ جلد الخدَّين حولهما شهيقاً وزفيراً.
أسنانهم ضِخامٌ في الأفواه. يولدون بأسنانٍ ضِخامٍ، في سياقٍ من الاستنسال قائمٍ بقوانينه ـ قوانين نشوء الجن. كلُّ زوجين يستحصلان، مطلعَ اختيار الواحد شريكَه، كُرةً حجراً تتسع ملء يدين من أيديهما. في الكُرة الحجر ثقبٌ عميق حتى مركزها، توضع فيه ذبابة مختارة من مَجْمَع استِنْسالِ الذباب، القائم سُلطةً بذاته في جناحٍ من قصر السلطان كَاشَاجُو ـ سلطان إقليم زينافيري. شعراءٌ يتولون، خَلَفاً عن سلف، إدارةَ المجمع، حيث يُحتفَظ بالذباب، على أنواعٍ بلا حصر، في قوارير من خزف مغلقة. هُم الشعراء يَهَبون كلَّ زوجين ذبابةً، بعد درسٍ عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما، ومقدار طاقتيهما على استحضار صورٍ مغالية في غرابتها ـ صورٍ رؤىً.
قبل وضع الذبابة المختارة في ثقب الكرة الحجر، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجنِّ في راحة يدها اليسرى مطبقةً عليها، لا تفتحها قط، بل تنفخ عليها من وقت إلى وقت. ثم تُنقل الذبابة إلى راحة الذَّكر يُطْبقها عليها أربعين يوماً ينفخ عليها من وقت إلى وقت. بعد الثمانين يوماً تلك توضع الذبابة في ثقب الكرة الحجر، ويُسدُّ الثقب بسدادةٍ جلدٍ ثمانين يوماً هي دورةُ الريح بالرمالِ حلقةً من حول هضبة طيور لاكيلا، وإرساؤها النقوشَ متماوجةً بإتقانٍ على الرمال في العراء المحيط بالمعبد.
بعد الثمانين الأيامِ من أيام الجن تنشقُّ الكرة الحجر عن وليدٍ كخادرة الفراشة، لكنْ مكتمل الشكل على صِغرٍ في الهيئة، بأسنان كبيرة، وعينين حجريتين، ورِجلين كرِجلي الجرادة تماماً: فخذان صُلبتان من عظم عليه جلدٌ خشن مُعرَّق، وساقان قصَبتان، منشاريتان، تنتهيان برسغيْنِ عظمتين صغيرتين هما قَدَما الكائن الجن.
يقفز الوليدُ بعد تصدُّع الكرة الحجر كالجرادة، دائراً دورتين من حول والديه. يقفز الوالدان من حول وليدهما دورتين. يضربانه على صدغيه، كلٌّ بقبضة مضمومة، ضربة تصرعه برهةً مغمىً عليه. يفيق فينطلقان به إلى مسكنهما.
مشيُ الجنِّ مشيُ الجرادة مُذْ يولدون بأرجلٍ كأرجل الجراد من ذبابٍ حاضنتُه الكُرةُ الحجر. شعراؤهم المتوارثون مَجْمَعَ انتخاب الذباب للإستنسال لا يُعهد بالمهنة إلى سواهم. يقلُّون عدداً أحياناً، أو يزيدون، لكنهم لا يجاوزون الأربعة. منجِّمو إقليم زينافيري عهدوا بالتكليف إلى الشعراء منذ ما لا يحصره تحديدٌ من أزمنة الجن. ذلك كان زعمَهم في اقتسامٍ عادلٍ للسماء والأرض بينهم: هُمُ المنجمون يتتبَّعون نشأةَ الخطط، وقواعدَ الخطط، وأخاديعَ الخطط في المشوف من كُرة السماء وبريقِ زجاجها المعتم، ومطاوي البرازخ بين الكواكب وبناتها النجوم. أما الشعراء فيتتبَّعون المستورَ من كُرة الأرضِ ـ باطنَها العماءَ، وأسسَ العماء، وفروعَ الملتبسِ المُشْكل من فيض اللامحسوم: يتتبعون الكلماتِ حتى يرثوا منها ثقةَ الجنِّ بالأرض من حولهم، كثقة الذباب بطيرانه المحيِّر، وإخلاص الذباب للاستحالات في العناصر من نشآت أجسامٍ إلى روائح.
توكَّل الشعراء باختيار الذباب، ونوعه، وجنسه، لطالب النسْل من الجن تحفظ أنثاهم، وذَكَرهم، حظَّهما الحشرةَ في راحة اليدين، كلٌّ أربعين يوماً، فإن سَها أحدهما مرةً، وتراخت يدُه المضمومة عن ذبابته، قبل اكتمال الأربعين، لم ينجب بعد ذا قط. قد يحدث أن لا تُنْجَزَ النشأةُ، لا من خطأ يقترفانه، بل من عجز الكرة الحجر ذاتها عن الإيفاء بوعدِها ـ وعدِ الحاضنة. يحدث أن لا تتصدع الكرة الحجر عن وليدٍ مكتمل بعد ثمانين يوماً من احتباس الذبابة في جوفها، بل تخرج من ثقب صغير آخر فيها، ذبابتان صفراوان قَرَضتا الحجر حتى أحدثتا لنفسيهما مَخرجاً. تحومان حول رأس الذكر الجن قليلاً، ثم حول رأس أنثاه، ثم تختفيان: تلك علامة إخفاق الكرة الحجر في الحَبَل. لكنهما يستطيعان، في الحال هذه، إعادة الكَرَّةِ طلباً للنسل من اجتماع نفخِهما على خيال الذبابة، التي تعرف، دون سائر حشرات الأرض، أنها وعدُ الانتقال بجسدها البزرةِ، في الظلام، إلى انبثاق الشكلِ الجنِّ وليداً يبدأ سيرتَه بالقفز أوَّلَ خروجه من الكرة الحجر.
الجن يتحركون قفزاً على أرجلهم ـ أرجلِ الجراد. ما من تأويل لذلك الرَّتْقِ الغامض بين أنصاف أجسادهم العليا الآدمية وأنصافهم السفلى مستعارةً من هيئة الجراد. كان حريًّا بمنطق النشأة أن يستولد الجنَّ مزجاً من هيئة الآدميِّ والذباب الحاضن لبزرة العبور إلى تشكيل الجنين. في أقاليمهم جراد كثير، تعرف نساؤهم، اللواتي لا تتوقفن عن الغناءِ الهمهمةِ عاليةً أو خفيضةً، كيف يستخلصْن من عصارة حشوها ترياقاً يزيل انتفاخَ الرُّكَب دَهْناً، ويلحم الكسور في العظام طلياً على مواضع الكسور. منجِّمو إقليم زينافيري الأربعة، المتطبِّعون على ربط الإشارات الكونية بطباع العناصر، وترويض الطلسمات في إنشجار البروق برسمها هيئاتٍ، واستنزاف المُلغز شرحاً موثوقاً في الأعراض الظاهرة للمخلوقات الخُنَاثى، والهُجَناء، لم يكلفوا أنفسهم جهْدَ النظر إلى المزْج في هيئات الجن يولدون بأنصافٍ متراكبة من حشرة بعينها هي الجرادة، ومن الشكل الآدمي. لا يرون في الأمر إلاَّ نشأةً محضاً قائمة بذاتها، يتمايزون بها عن طيور لاكيلا، والذئاب الصُّفر، وقرود براري هِيْهْمو، التي يرتعدون من ذِكْرها. لكنهم يرون الجراد مراراً في تأمُّلهم سُحُبَ الغبار، فيتأوَّلون أن الجراد جنيٌّ متنكر في صورة الحشرة لا غير، هارباً من غزوات قرود هيهمو الزرق الأقدام، الحمر العيون، الذهبية الأنياب. هُمْ لا يهابون حيواناً، أو حشرة، أو زاحفاً، إلاَّ قرود هيهمو المتلذِّذة التهاماً للجن أحياء وموتى. قرودٌ تغزو أرض الجن إن بخلت أرضُها البراري جنوباً بوفرة في الطعام عليها نباتاً، وحشراتٍ، وثمراً، ودرناتٍ عسقوليَّة.
الجن لا يأكلون طعاماً إلاَّ العظام. يأكلون عظام موتاهم، وعظام الطير، وعظام الحيوان من كل نوع، مجفَّفةً، فيما يطرحون اللحوم على سفوح الهضبة الحمراء تقدمةً لطيور لاكيلا المقدسة، ذوات الرؤوس العظم بلا جلد عليها، والفارغة المحاجر لا عيونَ فيها. يثيرون الغبارَ بأقدامهم الأرساغ الحَشَريَّةِ، أو بأيديهم، فيحتسونَه استنشاقاً إن عطشوا. لا نسغَ، لا سائلَ، لا عصارةَ، لا دماء فيهم. جراحهم يسيل منها غبارٌ رمادي، وإذْ يلفظون أنفاسَهم موتاً ينفثون، في الزفير، غباراً برتقالياًّ. عيونهم حجر بلا أجفان تدور في محاجرها كعيون الحرباءات. لا ينامون. يتشاءمون من ذِكْر الأعمار. كلما كبروا تصاغرت أيديهم المفرطةُ ضخامةً: ذلك مَسُّ الزمن في دورته أعمارَهم. سلاحهم عظامٌ، أو نِزالٌ بالرَّكْل من سيقانهم القصبات المنشارية يتضاربون بها مستدبراً أحدُهم الآخرَ بظهره، وللزمن عندهم وحدةُ قياسٍ هي ترقوة الثور.
ما من ضرورة لفهم تلك الوحدة في قياس الزمن. قد تكون اقتباساً مُستغلِقاً في مطابقة الزمن بالأبعادِ المسافات والحجوم. أو ربما يرى الجنُّ الزمنَ استواءً محسوساً كالأرض تُقاس بالقفزات، والأذرع، والنظرِ الحاسبِ بالتخمين.
ما من مطر في أرضهم. يعرفون سُحُبَ الغبار، لا غيرها، مُذْ أرضُهم ريحٌ متصلة في شهور أعوامهم كلها. قد تهدأ أحياناً في زمجرة مكتومة تتهيَّأ بها للوثبةِ أكثرَ عصفاً. وهُمْ، في الآناء القِصار من هدأة الريح يخمدون فلا يتحركون كأنهم في صوم. لا جنَّ يغزو جنًّا، أو يسرق من مخازن العظام، أو يكمل نِزاله عراكاً، أو يكمل معركةً، أو يُبارح المكان الذي هم فيه إنْ خمدتِ الريح.
لا ينام الجن. فإن توسَّلوا حلماً مَّا، مقصوداً بالتحديد مثل وصفٍ بالكلام واضحاً، ألصقوا عيونَهم بساق الشجرة العظام، شرقَ المعبد، وتكلموا. كلامُ الجن، في حالهم تلك اختلاءً بأنفسهم، مكشوفين في الساحةِ الرمل، هو حلمهم. ما يتخيَّله الجنيُّ، سرداً لرغائبه على نفْسه كلاماً، هو حلمه. إنه يتدبر الحلمَ كاملاً، موصوفاً، منطوقاً بكلماتِ رغبته، ثم يختزنه ملصِقاً عينيه الحجريتين بساق الشجرةِ العظام، فيغدو الحلمُ المُحاك بعناية اليقظة حلماً رؤيا.
سُحبٌ غبارٌ في أرض الجن، وبروق مُسَطَّرةٌ بشهوةِ المصادفات الكثيرة للجفاف العميم، العظيم. بروقٌ صلبةٌ، لا من نارٍ، بل من حجرٍ نارٍ، وفلزٍّ معدنٍ، ترمي على الرمال، بعد اشتعالها الزئيرِ، بُرادةً سوداء يجمعها قيَّافُ البروق وِيْلابو الطويل، الذي لا يُبارى طولاً في إقليم زينافيري، ويقايض بها الآخرين على العظام. يمزج الشارونَ البرادةَ بعصارة جوف الجراد فيدْهنون، بالمزيج، أبوابَ مخازنهم الصِّغار لصقَ البيوت حِرْزاً من اللصوص، أو دعاءً صامتاً باستنزال البرقِ لعنةً على مغتصبِ ما يخزنون من عظام فيها، لا غير. كل ناحية من إقليم زينافيري تشهد مواكبَ بروق، وقُطُراً بروقاً متتابعةً تخصُّها بأشكالِ الشِّعَبِ النار، وتشجُّرِ اللهب بما لا يُحصى، أو يُحصى، من غصونٍ في البرق الواحد. بُرادة البروق على أهضام الهضبة الحمراء ـ هضبة طيور لاكيلا، هي الأوفى إغراءً يطلبها الطالبون من ويلابوذي القفزة الواحدة المديدة أوسع من أربع قفزات لجنيٍّ آخر. لذا هو الأوحد يصيد الذئاب الصُّفر ركضاً خلفها حتى إنهاكها، فيما يتصيد الآخرون بمقاذفَ عظامٍ.
جنوب غرب إقليم زينافيري تمتد واحة كيما شرخاً أخضرَ، مستطيلاً، في مرآة الرمال. أيْكٌ لفيفٌ من شجر ذي شوك، وثمر ذي شوك، يطوق الحدودَ الماءَ، وسط الواحة، منبجساً من نبعٍ مستورٍ هو بقايا الذاكرة الظاهرة لنهرٍ آثرَ النسيانَ فغارَ دفيناً في ملجأ الماءِ الأصل. الجنُّ لا يرِدونَ الواحةَ إلاَّ بحثاً عن قنائصَ حيواناتٍ أراويَ، وثيرانٍ، وطيور، وذئاب صُفر، يتموَّهون لقنصها اختباءً تحت الرمل، آناء مجيئها للشرب، أو قذْفاً بالعظام مبريَّةً كحراب. يأخذون اللحوم تقدمةً لطيور لاكيلا العُمْي، ويجفِّفون العظامَ فيخزنونها طعاماً إلى جوار عظام موتاهم. غير أنَّ الأكثر إغراءً من بين القنائص جنٌّ صِغارُ الحجوم، ضِئالٌ، قُزُمٌ، لا يزيد طول واحدهم عن شبر من يد الجنِّ العاديين، لهم أذيال، وعلى جسومهم المهازيلِ ريشٌ بني وأحمر، يقايضون به أسنان الموتى في سوق كاتْرَامِيْلْ ـ سوقِ الصمت، الواقع على بعد قليل جنوب الواحة، تختلف إليه القبائل للمقايضات.
صعبٌ قنصُ الجنِّ الضئال، ذوي الريش والأذيال. يلزم القناصَ وقتٌ يُحْتَسَب بالأيام الكُثر في كمينه، تحت الرمل، ليختطف واحداً من المخلوقات القُزُم، الساكنةِ جحوراً ضيقة، غائرة عميقاً أسفل جذور الشجر الشوكِ الأيكِ، الضخام الجذوع، في واحة كيما. مخلوقات حذرةٌ أُوْلالِكَ كالومضِ في برقٍ. إنْ بوغتت ألقت بأنفسها في الماء حيث لا جراءة للجن على النزول إليه. كُره الجن، في زينافيري، للماء، وتِهْيابُهم البللَ شبيهان بالكوابيس تأخذهم من الحناجر إنْ ذكروا قرودَ هيهمو. حيلة الجنِّ المريَّشيْنَ، الضئالِ، تُنجيهم كثيراً، لكنْ يحدُثُ أن لا يُنْجِد حظُّ الحيلة واحداً، أو أكثر، فيؤخذ قنيصةً نفيسة، يُقايض ريشُه بأسنان الموتى الأكثر فخامةً في المقايضات، أما العظام فتُستطاب مَضْغاً في ولائم الأعياد، بعد الشَّبع، أو يتبادلون القليلَ منها قِطَعاً هدايا أثيرةً.
سوق كاتراميل هي ملتقى القبائل للمقايضات: عظام طيور تُقايض بعظام ذئاب. عظامُ شيوخ موتى تُقايضُ بعظام أطفالٍ موتى، وريشُ الجن الأقزام بالأسنان. لكنهم لا يقايضون من منافع حاجاتهم جلوداً بجلود. كل جنيِّ ذَكَر يتخذ ثوبَه من جلد أنثى ميتة في عائلته. وكل أنثى تتخذ ثوبَها من جلد ذَكر ميت في عائلتها. يتوارث الجن جلودَ آبائهم، وأمهاتهم، وإخوتهم، والأقربيْنَ الأخوال، والخالات، والأعمام، ونسلهم الأولاد. منذ ما يُسْتَحْضَر، وما يُستحضَر من ذاكرة شيوخ الجن، كانت سوق كاتراميل في موضعها جنوب واحة كيما. سوق الصمت المقدَّس ـ هذا هو وصفُها المقدس بلا كلمات. يجتمع الجن، في السوق، للمقايضات صامتين، حذرين في الحركة لا يُحدِثون جلبةً، أو ضوضاء، أو صخباً. يُحاذِرون التلامسَ مهما كان اكتظاظ السوق الدائم بعروضه، وبالجماعات على مشارفه تقيم أياماً، ثم تحل محلها جماعاتٌ أُخَرُ أياماً بعد رحيل الأُوَل: كل شيء يُنْجَز بإشارات خرساء.
بلا أسلحة يحضر الجنُّ سوقَ الصمت المقدس. لا ينتقم منتقمٌ لنفْسه هناك إن صادف غريماً خصماً. لا يسرق اللصوصُ في زحامه أحداً. الإناث، والذكور المقبِلون منهم على رغائب الإنجاب، في الأعمار الناضجة، يتبادلون إشارات الرغبة من صميم المصادفات، في موضع منفصل من السوق. معهم عيدان من نبات الواحة يربط إليها الواحدُ منهم، ذكراً وأنثى، ذبابةً بشعرة من شعر رأسه الطويل. إن حطت الذبابة على كتف العابر به، أو بها، تلازما زوجين للإستنسال، بعونٍ من اختيار مَجْمع الذباب ذبابةً لائقة بهما، للبلوغ بالرغبة قَصْدَها في الحاضنةِ الكرةِ الحجر.
يفهم الجنُّ لغاتِ الجن كلهم. يتلقَّفون اللغاتِ مكتملةَ المعاني من هبوب الريح على أقاليمهم من الجهات كافةً بنبْرٍ في العزيف هو بلوغُ المقاصد في الكلماتِ الغمغمةِ، والهمهمة، تعبيرَها منْجَزاً مستوفىً تتحصَّلُه ذاكرةُ الجنيِّ فتختزنه. هم ناطقون بلغات ثعالب أرض كَارُوس، وثيران أرض هَادولا، وعصافير أرض كُوشْنُو، وبعوض بحيرة سِيْمِيْر، وحيتان أرخبيل محيط زِيْلُو السحيق على تخوم نهاية الممالك القديمة، وجراد أودية بَاكْنون، وعناكب كثبان أرض ماناو المتراصفة الرمال كالحراشف. قاطنو إقليم زينافيري الأكثرِ ذباباً مكينون، إضافةً إلى اللغات أُوْلالِكَ، في لغة ذبابهم على أنواعه: اللحوحة، والطائشة الرعناء، والجسورة لا تأبه لانتهارٍ، والهادئة طيراناً، والطَّنَّانة طيراناً، والمشِعَّة، والكامدة، والسريعة، والبطيئة، والواضحة أشغالاً، والغامضة أشغالاً تحطُّ على موضعٍ أياماً بتمامها، واقفة على رؤوسها في توازنٍ يحفظه الخفْقُ المتلاحق للأجنحة. والجنُّ يخصصون هذا النوع من الذباب بلقب «المُنجِّم».
مدن إقليم زينافيري، وقراها، أبنيةٌ ومساكن بلا تصاميم في الهندسة تُحْسَبُ رُقيًّا، أو براعاتٍ من اختصاصٍ في العمارة: عظامٌ تكوَّم فوق عظام بأناةٍ من حفظ الثقل متَّزناً على الأرض الرمل. تُقام الجدران أولاً، دائرية في أغلبها، غير عالية، ثم تُجعل عليها الجلودُ سقوفاً تُغطى بالعظام الصغار حتى تغدو قباباً. تُحاط المدينة بسور من العظام الكبار بلا ارتفاع، وفي السور معابر إلى القرى المحيطة بالمدينة عن قربٍ كبير، حتى تكاد تلامس مساكنُها السورَ من الجهات كلها. فإن باغتهم غزاةٌ لجأ أهل القرى سُراعاً إلى الداخل. غير أن إقليم زينافيري لا يُفاجأ بغزاة؛ لا يجرؤ غزاة على انتداب الخطط لغزو الإقليم المنيع، الكثير المحاربين لم تخُض قبيلة حرباً ضد أهلها منذ ثمانين عاماً من أعوام الجن البالغة مَبْلغَها طولاً.
غزو قبيلةٍ لأخرى، في تاريخ الجن، الذي يُدوَّن بإضافة العظام إلى الأسوار، يتحكَّمُه طلبُ العظام لا غير، إن فَرَغَتْ مخازن أمَّة منها، وصَعُب عليها التعويض بعظام موتاها فقط، وقلَّتِ الطرائدُ، والمواردُ من الحيوان والطير. لا عن استزادةٍ للسَّعةِ في ما تخزنه، أو تغليباً للرَّفاهِ في المخزون من العظام، تغزو أمة من الجن أمة أخرى، بل الاضطرار من مسِّ الجوع. قد تقتطع مللٌ ثرية لمِلل محتاجة بعضاً من وفرة مواردها، إذا توسَّلتها العونَ: ذلك قليل، بل نادر. أما غزو أمة لأمة، لأسباب أخرى غير طلب القوت، فلربما اقتضته، على حَصْرٍ كبير في الحدوث، رؤى منجِّميهم إن غلب على تأويل وحيها الذعرُ من نفاد المؤنة، أو الإنذار مبكراً بتربُّصٍ من أُمم أخرياتٍ بمخازنها نهباً. تلك هي الغزواتُ الإستبَاقية يسيرُ بها وحيُ العلاماتِ الموصوفة، وتراكُبِ الإشاراتِ الصورِ، وتقاطعاتِ المعارج بين الأفلاك، ومجاهراتِ الكسوف والخسوف، واحتجابِ النجوم في مياه الكواكب ومرايا الشُّهُب والرُّجوم.
حروب الوحي، استباقاً من الأقدار، لا تنتهي بتسوياتٍ إخضاعٍ، أو اتِّفاقٍ على الحدِّ من الخسارة يُرتضى به وصْفاً للاَّغالبيْنَ، بل بإفناءٍ نهائي من أمة لأمة حتى آخر محارب فيها، وآخر نسلٍ صغير أو كبير، ذُكراناً وإناثاً. المنتصرون يعرُّون عظامَ المغلوبيْنَ من اللحمِ الضئيل عليها فيؤخذ تقدمةً إلى طيور لاكيلا، ويقيمون الولائم وقتاً على قدْر انتهائهم من التهام آخر عظم من عظام من قَتَلوا. هي الحال الوحيدة في إرث الجن يأكلون عظاماً غير مجفَّفة بعد. لا يستسيغونها، لكنهم لا ينتظرون انتقالَ الغضب، الذي تلهبُه المعركةُ فيهم، من جهة في قلب الواحد إلى الجهة الأخرى. هُم عنيفون أبداً. غاضبون أبداً. أنصافُ قلوبهم الأيامِنُ مضطرمةٌ غضباً في أعمارهم، ونشوبُ المعارك يملأ الجهات اليُسْريات. لا ينتظرون انحسار الغضب عن جهات قلوبهم اليسريات: يأكلون عظامَ الأعداء القتلى غَيرَ مجفَّفة بعْد قبل انحسارهِ.
في أعيادهم ـ أعيادِ أرض زينافيري، يصحب الجنُّ إلى الساحات في المدينة، وفي القرى، أفضلَ ما ادَّخروه من مخازنهم: جمجمةَ أبٍ، أو جدٍّ، أو أم، أو أخت، أو أخ. يصحبون جماجمَ الأقربين إليهم في كبار الأعياد ـ عيد طيور لاكيلا، وعيد الجراد، وعيد العاصفة الزرقاء.
يصعدون الهضبة الحمراء، في عيد الطيور. القمةُ المستوية، الشاسعة الأرجاء، تتسع لسلطان زينافيري، والمنجِّميْنَ، والأسياد، فيما يقيم المحاربون، والعامَّةُ، شعائرَ العيد على أهضام الهضبة، وسفوحها، في خشوعٍ يتوسَّلون به ترويضَ المصائر إفراغاً للموت من هيبته كطيور لاكيلا أفرغتِ الظلامَ، في محاجر رؤوسها العظامِ الحية، من هيبة الظلام.
عيدُ الجراد شعائرُ احتفالٍ مفتوحة: يدور الجنُّ قفزاً من حول أنفسهم، متصنِّعيْنَ بأيديهم الضخام رفيفاً كرفيف أجنحة الحشرة، التي منحتْهم كمالاً في الأرجل على مُطابَقةٍ من شكلِ رِجْليها في مرآة خلائق الظاهر. وفي عيد الجراد هذا تستحضر إناث الجن السمَّ الناقع، الفَتْكَةَ، من دقيق عظمِ فِقَرِ الأطفال الموتى، إذْ خاصيَّةُ السم في عظام أطفال الجن موصوفةٌ معلومة، لكنها تتلاشى كلما كبروا. والذكور، الذين تستخلص نساؤهم هذا السمَّ دقيقاً مطحوناً، يحفظونَ الدقيقَ في رقاقاتٍ جلدٍ مطوية مغلقة بإحكام. فإن راموا انتقاماً، أو ثأراً، نثروه على وجوه الخصوم في غفلةٍ منهم: مَنْ يتنشَّقون شيئاً من طحين السم تتصلّب مفاصلهم كلها، تلتحم فلا يتحرك فيهم عضوٌ بعد ذلك: تموت الضحية متحجِّرةً.
الجن الخَلْق الذين لا ينامون، ويبتكرون أحلاماً متوافقةً مع رغباتهم المتوسِّلةِ أحلاماً معلومة بتفاصيلها، يعمدون، في عيد الجراد، إلى إلصاق عيونهم الجواحظِ الحجرِ بأيِّ موضع من جدران المعبد الدائريِّ، العظيم بناءً قبَّةً من العظام، منقسميْنَ على صنفيْنِ في الفكر يهَبُونهما أجسادَهم كأنما في أشغالٍ مرهِقة، وهم ثابتون لا يتحركون؛ مرهِقةٍ تبلغ مبلغَها من الكَدْحِ ضراوةً. فكرتان تشبهان الركض وراء طريدة، أو منازلةَ خصمٍ ركْلاً. فكرتان مجهِدتان: الأولى أنَّ الجنيَّ يتوهم حفْرَ سرداب حفراً شاقاً بيدَيْ خياله، للعبور إلى الجهة الأخرى من الأرض، ثم يَجد نَفْسَه، بعد إنجاز الحفر، في متاهة من ممراتٍ رملٍ ضيقة جداً، بين مياه مترامية تتماوج في قاعها وجوهٌ كوجوه قرود هيهمو المُحاطة بشعر أصفر طويل. ممراتٌ تتأرجح به كأنها طافية، وذعرُه من السقوط في الماء يقوِّضُ بُنيانَه، أو يكاد.
الفكرة الثانية التي يهَبُها الجنيُّ خيالَ جسدِه، هي انكبابه، في حاله المتفكِّرة، على تركيب أجنحة كاجنحة الذباب على جانبَيْ جذعه، حَفْراً بشظية مسنونة من العظم في جلده، ولحمه الأعجف الضامر، لتثبيت جذور الأجنحة في الجراح المستوهَمة، الأكثر إي ماً من جراح حاصلةٍ حقًّا. وإذْ يثبتها، ويهمُّ بالطيران، يسقط أرضاً متمرِّغاً في الرمل.
الجن الذين يلصقون عيونهم بجدران المعبد العظامِ من كل صنفٍ وخَلْقٍ، ينهارون حالما يستنفدون ما تفكروا فيه. يتراخون منهَكيْنَ، أو ينطرحون صرعى من الإعياء.
فكرتان يمتحنُ الجنُّ بهما، في عيد الجراد، احتمالَ أجسادهم، ذكوراً وإناثاً. ولمَّا ينجزونَ الإنهاكَ قويًّا كما توقَّعوه، يلبثون في غضبٍ يوماً بتمامه من أيام الجن، فيقوِّضون منازلهم سقوفاً، وجدراناً في النهار، ثم يعيدون بناءها في الليل على نحوٍ مختلف عما كانت عليه قبل الهدم. يدورون حول منازلهم الجديدة قفْزاً هياجاً يثيرون به الغبارَ زوابعَ يستنشقونها في نشوةٍ سُكْرٍ.